إشراقات أسلوبية في مجموعة (حلوى الماء)

للكاتبة انتصار عباس

د. عمر عبد الهادي عتيق

[email protected]

مشرف أكاديمي في جامعة القدس المفتوحة

فلسطين جنين

الفضاء المكاني

 تتجلى ثنائية المكان في مجموعة ( حلوى الماء ) ، إذ يبرز الفضاء المكاني المغلق في أغلب أقاصيص المجموعة ، ويندر الفضاء المكاني المفتوح ، والمكانان يتناغمان مع تقنية السرد ، والمعمار الفني ، ومهارة الوصف ، وينسجمان مع البنية النفسية العميقة للشخصيات ، ويتقاطعان مع الهيكل الطبقي للشريحة الاجتماعية المنتخبة .

1 – فضاء المكان المغلق

وظفت الكاتبة البنية المكانية في أقصوصة ( جدار ص 7 ) للكشف عن عناقيد دلالية متداخلة ومتكاملة ؛ أولها: التوافق بين البنية المكانية للبيت و البناء الطبقي للأسرة ، ففي البيت (( إبريق وكوب ماء ، ورغيف جففته الشمس على المنضدة ، ثياب مهلهلة نهشتها مسامير الحائط ... عطب يسكن السقف )) وتشكل هذه المحتويات منظومة وصفية تتوافق مع البناء الطبقي للأسرة التي تتكون من (( هياكل طينية تبكي : الجوع ، البرد ، المرض ))

 وثانيها : التناغم بين البنية المكانية والبنية النفسية، إذ تأتي أوصاف البيت متناغمة مع الصفات النفسية للشخصية المحورية التي تنزف بؤسا وحرمانا فلا تجد بلسما سوى الارتماء(( فوق السرير ، يتأمل البقع الداكنة ( في السقف ) ، كأنما نمنمات ثوب امرأة ، يتتبع البقع ... وتلك ساقها ! يغمض عينيه )) ليجدف في أحلام اليقظة التي ينسج منها ليلة حمراء ، حينما يشكل من عطب السقف أجسادا تفيض أنوثة ونشوة ... وبعد أن يملأ جوف حرمانه وهما ... يغرق في النوم .

 وثالثها : التضاد بين الوعي واللاوعي ، فالقفر والحرمان يشكلان وعيا قائما ، وأحلام اليقظة بكل ما تحويه من خصوبة ونشوة تجسد اللاوعي ، والشخصية في حنايا هذه الثنائية المكانية النفسية تسعى للفرار من جحيم الواقع إلى نعيم الخيال .

 ويجسد العنقود الثالث عصبا نابضا في ثقافة الفقراء الذين يفرون من أنياب الفقر وسياط الحرمان إلى أحضان الخيال وظلال الحلم حيث يطفئون عطش الجسد بزلال الوهم ، ويطلقون العنان لمشاعرهم وأحلامهم نحو سماء الجمال والكمال ... وحينما يستيقظون يجدون الواقع أشد فتكا ، والحلم أكثر بعدا ... ولا يحصدون إلا إصرارا على الحياة .

 وتعمد الكاتبة إلى إحداث انزياح مكاني في أقصوصة ( جدار ) ، إذ يتحول المكان من بيت يتربع فيه الفقر والبؤس إلى حديقة عامة ، ويشكل التحول المكاني مفارقة مثيرة ! إذ يتوقع المتلقي أن يجد وصفا طبيعيا للحديقة يغاير الوصف السوداوي للبيت ، لكن صورة الحديقة المرسومة في ذهن المتلقي سرعان ما تتلاشى حينما لا يشاهد المتلقي في الحديقة سوى رجل وامرأة يجلسان على مقعد مشترك ، يجمعهما الجوع والبرد والوحدة والمرض ، ويفترقان وهما يحملان اغترابا ويأسا . ... فالمكان يطيب بأهله لا بذاته ، وهنا يتجلى إبداع الكاتبة التي أغفلت صورة الحديقة المتوقعة ، واسترسلت في تجسيد الصورة النفسية للفقراء والبائسين ، ولو حوت الأقصوصة لمسات جمالية للحديقة لحدث انحراف في البناء الفني ؛ لأن السياق النفسي للحدث والشخصيات لا يتناغم مع أية إشراقات جمالية للحديقة .

 ويشكل البيت أيقونة مكانية ، فلا نكاد نعثر على وصف لساحات أو ميادين عامة في مجموعة ( حلوى الماء ) ، ولا نجد مساحة مكانية يتخلق فيها الحدث سوى فضاء البيت في الغالب ، وفي بعض المواضع نجد زقاقا أو شرفة أو سوقا تجاريا ، وحينما تتجاوز تقنية السرد جدران البيت إلى زقاق أو شرفة أو غيرهما سرعان ما يعود السرد إلى فضاء البيت ... ففي أقصوصة ( الزائرة ) ( ص 13 ) نسمع الشخصية الرئيسة حينما تعود إلى البيت بعد أن تنظر إلى نفسها في المرآة )) تغيرت بعض الشيء ، الحمد لله ، عدت إلى البيت )) ... وفي أقصوصة ( حلوى الماء ) ( ص 23 ) يتجلى عشق المكان المغلق هروبا من الآخرين وبحثا عن الطمأنينة ورغبة في الانصهار في حرارة حب لا تفتر ، إذ تبدأ الأقصوصة بـ (( أعبر الشارع على عجل ، أدخل الزقاق ... أذوب في الزقاق ... لو أن هذا الزقاق ، يغلق ، وآخذك بين ذراعي )) ، ويبقى إغلاق الزقاق أمنية أو إحساسا مشبعا بالخصوبة والحيوية .... أمنية لا تتحقق إلا في فضاء البيت حينما فُتح صندوق حلوى الماء ... وتجلى فرح الطفولة ، وتراقصت أنغام الموسيقى ، وصرخت مسامات الجسد لتعلن انصهار ترياق الروح مع صهيل الجسد ... كل هذا يحدث في فضاء البيت الذي أضحى أيقونة المكان الذي يحتضن الطقوس والتجليات للواقع والحلم ، ويبدو أن للمكان لدى الكاتبة انتصار عباس فلسفة خاصة ، فكلما ضاق المكان اتسعت آفاق النفس بكل أطيافها ؛ طيف الحرمان وطيف الحب ، وهي فلسفة نابعة من ثقافة المكان التي تقتضي أحيانا خصوصية أو تفردا وتوحدا .

 وفي أقصوصة ( صور ص 47 ) يتجسد الوهم وسراب الحب وخيبة الأمل خارج البيت (أيقونة المكان )، إذ يبدو ذلك الرجل الذي يتوهم دائما أنه سيجد صبية يلامس كتفُها كتفَه ، أو يهرب معها إلى الحديقة ، أو يغازلها في مقهى ، وحينما يتلاشى ما تمناه ، ويمسي خائبا يائسا ، يعود متثاقلا إلى أيقونة المكان وطقوس الأحلام حيث السرير الذي يقرأ فيه تفاصيل كل النساء .

 

 2 - فضاء المكان المفتوح

 

 تجسد أقصوصة ( شرفة ص 47 ) إشراقات وجدانية للفضاء المكاني المفتوح ، إذ يبدو السوق التجاري والحي الشعبي حاضنة لذكريات وردية دافئة ، وتعمد الكاتبة إلى رسم آفاق المكان بأصباغ وجدانية مستمدة من نشوة داخلية عارمة ، عبرت عنها الكاتبة ( العاشقة ) بقولها : (((( نسير في الأسواق ... روحك تسري في جداول جسدي )) وهذه النشوة التي تسري في جداول الجسد حولت المكان المألوف الذي لا يثير في العادة مشاعر الآخرين إلى مكان مشبع بالفرح ، فمشهد البائعين في السوق لا يثير – في العادة - إحساسا كامنا ، لكن النشوة التي تسري في جداول الجسد حولت المألوف إلى مشهد مثير من خلال تقنية الوصف : (( الباعة يتبعوننا ، كم هم متعبون ، لكننا سعيدون بهذا .. سلال الفستق تتكئ على ظهر حاملها ... )) ، فالمكان لوحة يمكن أن تبقى صماء ، محايدة ومنعزلة عن إحساسنا ، ويمكن أن تتحول إلى لوحة تشكيلية نبدعها بألوان حارة أو باردة وفق مناخ الأحوال النفسية .

 ويفضي تنوع المساحة المكانية في الفضاء المفتوح إلى تموجات وجدانية تصاعدية ؛ فإذا كانت أزقة السوق وحركة البائعين قد خلقت رضاب الحب في جداول جسد العاشقَين ، فإن تغير المكان من الحركة إلى السكون قد أحدث تحولا وجدانيا حينما جلس العاشقان على الطاولة كما جاء في بنية السرد ((((صحون المهلبية على الطاولة ، نجلس قبالة بعضنا ، نحدق كل في الآخر ، ولأول مرة نكتشف أنفسنا )).

 وتتسع دائرة الفضاء المكاني حينما يغادر العاشقان الدائرة المكانية الأولى التي احتضنت التحديق والاكتشاف لينتقلا إلى فضاء مكاني شعبي حيث الفرح الرجولي (( زفة عريس تستوقفنا .. يحملون العريس على أكتافهم ... )) وطقوس الفرح النسوي (( تطل النساء من النوافذ مصطهبة ... فرصتهن للغمز واللمز ، وتبادل النظرات ... )) . وقد أفضى هذا التحول المكاني من الخصوص إلى العموم إلى خلق تموجات وجدانية جديدة ، إذ إن ظهور النسوة في المكان الجديد بعث غرائز دفينة في أعماق العاشقة في قولها : (( في أعماقي نشوة ، ماذا لو أحببنك كلهن ، ما الذي سيحدث لي )) ، ويبدو أن للمكان من حيث الخصوص والعموم علاقة بغريزة التملك في ثقافة الحب ؛ فحينما كان الفضاء المكاني ضيقا خاليا من المثيرات والمؤثرات ( السوق والطاولة ) كانت مشاعر العاشقَين هادئة آمنة ، ولكن حينما صار الفضاء المكاني واسعا مشبعا بمثيرات الأنوثة تحولت المشاعر إلى غرائز تملك ونوازع تفرد ... ويعد هذا التحول جزءا من الموروث الإنساني المستمد من اللاوعي الجمعي ، إذ إننا نبحث عن أصغر مكان يتسع لأكبر حب !!! ونرغب بأبعد مكان نلتقي فيه بأقرب الناس ! ونسعى إلى الظل طلبا للدفء ....

 وتتحول نشوة المكان الجماعي الذي يعبق بأهازيج زفة العريس وزغاريد النساء اللواتي يقتنصن فرصة التصابي عبر النوافذ المشرعة ... إلى مداعبات في ملعب الطفولة بين العاشقين اللذين عادا يتراكضان بفرح غامر ... يتجاذبان في فضاء أثيري ... يقطف العاشق قبلة من جنان وجهها ...

 وبهذا تتجلى التقنية الأسلوبية في تشكيل العلائق بين الفضاء المكاني والإشراقات الوجدانية ، وتتبدى للمتلقي الوشائج بين التحول المكاني والتموج العاطفي .

 

الفضاء الإنساني

 

 تتحرك شخصيات ( حلوى الماء ) في فضاء إنساني يخلو من بريق الأسماء وإيحاءات الألقاب ، فالشخصيات التي ترسمها الكاتبة مجردة من أسمائها ومشبعة بظلالها الإنسانية ، وتشكل هذه التقنية السردية انزياحا أسلوبيا مائزا ، إذ اعتاد المتلقي في الخطاب السردي على أسماء وألقاب وكنى منسجمة مع صفات الشخصية تارة ومتناقضة مع صفاتها وسلوكها تارة أخرى ، أما الخطاب السردي لدى انتصار عباس فقد جاء خرقا فنيا للمألوف السردي ، ويعد هذا الخرق الفني تحولا لافتا في بنية القصة القصيرة أو الأقصوصة .

 ويجسد غياب الأسماء بعدا إنسانيا للشخصيات التي تصور محنة الإنسان وأحلامه بعيدا عن اسمه الذي يعكس بيئة ثقافية ، فهي شخصيات إنسانية كونية ، تصلح أن تحيا في أي فضاء إنساني بعيدا عن حدود الجغرافيا وجدران الإقليمية وخصوصية اللغة ونكهة الفلكلور ، وهذه الميزة الإنسانية الكونية تجعل من إبداع الكاتبة أدبا كونيا أكثر من كونه أدبا محليا أو قوميا .

ولا يخفى أن الكاتبة تمتص رحيق الشخصيات من خصوصية المجتمع الذي تنتمي إليه ، ولكن الكاتبة تعزل شخصياتها عن كل المناصب الإقليمية والعرقية والفكرية ، وقد تكون ماهية الشخصيات واقعية أو نموذجية، أو نسيجا فنيا ، ومهما تكن ماهية الشخصيات فهي شخصيات إنسانية تُسمع آلامُها في كل أماكن القهر والفقر وتُرسم أحلامُها على آفاق الغد الموعود ، فالناس يتوحدون بلا أسماء أو بطاقات دعوة ويتحلقون حول مائدتين ؛ القهر والحلم ، وهاتان مائدتان لا تقتضيان أسماء أو ألقابا ، إذ يكفي أن تهب رياح القهر لتفتك بكل المستضعفين في الأرض ، ويكفي أن يسري نسيم الحلم لتزهر براعم الفرح في أصقاع الأرض ... هذه هي حال شخصيات ( حلوى الماء ) ... بين رياح القهر ونسيم الحلم ، بلا أسماء وألقاب ... أسمى من سجون الجغرافيا ، وأكبر من زوايا الأقاليم ، وهذا هو الموروث الثقافي للكاتبة ... فكر يسبح في أفق إنساني .

 ومعظم شخصيات ( حلوى الماء ) صامتة وغائبة ، إذ تتولى الكاتبة خلق جيناتها النفسية ومتابعة نضوجها ، إذ تبدو الكاتبة ساردا كلي المعرفة ، تدخل إلى الأعماق لتصور ما يمور في وجدان الشخصية ، وتكشف خفايا النفس ، وقد يصل الأمر إلى إسقاط أوراق التوت عن بعض الشخصيات كما هي الحال في أقصوصة (جدار) التي تصور ذلك الرجل البائس الذي لا يملك من حطام الدنيا إلا رغبات لا تتحقق إلا في أحلام اليقظة فوق سرير يعلوه سقف مليء بالعطب ، فتتحول بقع العطب إلى كوكبة من النساء في ليلة حمراء . ويبدو أن اهتمام الكاتبة بالشخصيات الصامتة يجسد أمرين ، الأول : رغبة الكاتبة بالكشف عن أولئك القابعين في زوايا القهر والفقر والنسيان ، والصامتين عن الكلام لأن أصواتهم لا صدى لها ، ترتد إلى آذانهم ، وهي رغبة نابعة من البناء الثقافي الكوني للكاتبة التي اتخذت من الخطاب السردي وسيلة للدفاع عن إنسانية الإنسان . والثاني : تحريك الكاتبة للمشاعر الإنسانية التي يخشى الآخرون من الإفصاح عنها من أجل نشر ثقافة المصارحة والمكاشفة والشفافية ، وهي ثقافة أصيلة في البناء النفسي السويّ وفي التكوين الحضاري للإنسان . ويغلب ورود الشخصيات الصامتة في المشاهد التصويرية التي تحوي شخصية مفردة مما يمنح الكاتبة مسوغا فنيا لرسم الشخصية الصامتة ، إذ لا يُعقل أن تكلم الشخصية نفسها .

 وفي رسم الشخصيات الناطقة ، يقتصر دور الكاتبة على الوصف الاستهلالي الذي يهيئ لحوار الشخصيات ، وعلى السرد التوضيحي الذي يربط بين مفاصل الحوار بين الشخصيات ، كما هي الحال في أقصوصة ( زائرة ) التي تصور محنة عائلية ، إذ تتناوب فيها الأدوار بين الثالوث العائلي ( الأب والأم والابن ) . ولعل تحول الدور الوظيفي للكاتبة من سارد كلي المعرفة إلى سارد محايد يعود إلى خصوصية الحدث العائلي ، والرغبة في تجسيد المحنة الإنسانية على ألسنة أفراد العائلة ، كما أن التنويع بين الشخصيات الصامتة والشخصيات الناطقة يعد تقنية فنية في البناء السردي الذي يتفاعل معه المتلقي .

 وتمثل الشخصيات الصامتة الإنسان الغائب في آلامه وآماله ، والحاضر في الوعي الإنساني الكوني للكاتبة ، والمنتظر لموقف فاعل من المتلقي ، والشخصيات الناطقة تمثل الإنسان الحاضر الذي يسعى جاهدا نحو الخلاص ، وكلما اقترب من مراده ابتعد شعاع الأمل ، وازدادت الهوة بين حلمه والواقع ، فيلتفت إلى الماضي معزيا نفسه بالذكريات . وفي حنايا هذين النمطين من الشخصيات تبرز في مجموعة ( حلوى الماء ) شخصية الأنا في مستويين ، الذاتي والجمعي ( نحن ) .

 وقد كنت أترقب نمطا رابعا من الشخصيات وهو شخصية المخاطب ( أنت ) ، وهي شخصية تتمتع بقدرة خارقة على جذب المتلقي لما تحويه من تأثير وإثارة ، لأنها خطاب مباشر بين السارد والمتلقي ، ومن الممكن أن تكون شخصية المخاطب مواجهة مفتوحة بين السارد والمتلقي ، مواجهة توفر للبنية السردية مجالا للتوجيه والإرشاد أو للتحريض والتعرية ، إذ يشعر المتلقي أنه هو المقصود بشخصية المخاطب ... ولو تأملنا نصا سرديا على النحو الآتي : ( إلى متى ستبقى عاشقا للصمت؟! تتثاءب الحروف على شفتيك وتنتظر الآخرين ليقرؤوا دهاليز أفكارك ، ويشعروا بلهيب وجدانك ، وأنت تعلم أن الصمت ثقافة لا يفهمها سوى الغائبين عنك ... فإذا لم تنطق ... تصرخ ، ستبقى راهبا في محراب وحدتك .........) ، ولو وازنا بين هذا النص السردي المفترض ونص سردي آخر لشخصية الغائب أو الأنا سيتجلى التباين في الأثر النفسي .