محمد الحسناوي(2)

جان كورد

مقابلة مع

الأستاذ محمد الحسناوي

أجرى المقابلة: جان كورد

الأستاذ الكريم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته –

معلوم عن سيادتكم كأديب وسياسي عريق بأنكم مهتمون بصورة أساسية بالمجتمع السوري والإنسان السوري والأدب السوري  قبل أن ندخل في دائرة اهتماماتكم المتنوعة والواسعة .. ولذلك نأمل في أن تجيبوا عن هذه الأسئلة لأننا نريد نقل آرائكم إلى شعبنا الكردي عن طريق هذا الحوار القصير ...

س1 – الاسم حسناوي أو حسنوي يذكرنا بالإمارة الكردية القوية والشهيرة ( بني حسنويه أو حسناوية) .. فهل هناك علاقة بين اسم عائلتكم هذا مع الأكراد ، أم هو مجرد تشابه ومصادفة .. ومن أين تأتي الصفة الكردية الملحقة بالاسم العربي حسن ؟

ج – الاسم حسناوي هو نسبة إلى ناحية (قرية)  في جبل الزاوية اسمها (إحْسِمْ) = (إحسماوي) ، فتحولت مع الأيام وعلى الألسنة إلى (حسماوي) ثم إلى (حسناوي) ، وكان جدي (محمد) نزل من قرية إحسم إلى مدينة جسر الشغور – حيث ولد والدي وولدت أنا كذلك – قبل مئة سنة تقريباً ، وأقاربنا هناك ما زالوا ، ويسمون (بيت فضيل) ، يشكلون نصف سكان الناحية، ولنا أقارب بالاسم نفسه (حسناوي) في جسر الشغور وفي ريفها وفي معرتمصرين وحارم وغيرها . واسم الحسناوي موجود في العراق وليبيا والجزائر ، ولا أعلم إن كانت توجد قرابة بيننا وبينهم .أما تسمية إمارة كردية قوية وشهيرة بهذا الاسم ، فأمر يسعدني ، ولا أظن أن هناك علاقة مباشرة ، لكن الأرحام في هذه المنطقة واشجة لغوياً وحضارياً واجتماعياً منذ ما قبل الإسلام ، من أيام أبينا وأبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام ، وربما قبل ذلك التاريخ أيضاً ، وقد آخى الإسلام الحنيف بيننا . وللعلم يذكر المستشرق برنارد لويس أن ثلث اللغة الفارسية واللغة التركية هي من اللغة العربية ، وبالعكس ، فقد أُلِّفت باللغة العربية مؤلفات ضخمة عما تمَّ (تعريبه) أي أخذه من اللغات الأخرى كالفارسية ، مثل كتاب (المُعَرَّب- للجواليقي) ، وكثيراً ما نصت المعاجم العربية على أصول الكلمات الفارسية مثل : (كرسي – ميزان – قسطاس – سبيل ...) ، وهذا طبيعي في اللغات  والاجتماع البشري . ولعل الدراسة اللغوية المقارنة بين اللغات العربية والكردية والتركية والفارسية ، تكشف العلاقات الواشجة بين هذه اللغات الحية ، التي تعايشت في ظل الإسلام ، وتبادلت التأثير ، فمثلاً كلمة (نرجس) في العربية اسم لزهر جميل ربيعي ، يقابله في الكردية لفظ (نركز) للزهر نفسه، وإذا علمنا أن هذا الزهر ليس نباتياً صحراوياً ، بل هو أقرب للمناخ المداري ، أي لا يتوقع أن يعرفه العرب القدامى ، نجد معجم (مختار الصحاح) يذكر بعد تعريفه : (معرّب) . ولم يذكر المصدر الذي نقل منه إلى العربية .

س2 – هل تعطوننا نبذة مختصرة عن حياتكم الحافلة بالنضال والكتابة ؟

ج – ولدت عام 1938م في جسر الشغور ، وأحمل شهادة ماجستير في الأدب العربي ، وعملت طوال(18) عاماً مدرساً للغة العربية في محافظة حلب ، وعضو قيادة في جماعة الإخوان المسلمين – التنظيم السوري  (20) عاماً ، وأعيش في المنفى منذ ربع قرن بسبب الحكم علي وعلى إخواني بالإعدام ، وأنا عضو في رابطة الأدب الإسلامي العالمية ، و رابطة أدباء الشام ، والمؤتمر الأول للحوار الوطني السوري ، وأحرزت عدداً من الجوائز التقديرية في الشعر والقصة ، واعتقلت بسبب الرأي داخل سورية وخارجها أكثر من مرة ، ولي عدد من البنين والبنات والحفدة ، وأكتب في الشعر والقصة والدراسة الأدبية والشؤون السياسية ، وقد صدر لي من الكتب ما يلي : أ – في الشعر : ملحمة النور عودة الغائب في غيابة الجب ،( وهو خاص عن اعتقالي في سورية عام 1967م ، كما نشر باسم مستعار: محمد بهار) . بـ - في القصة : الحلبة والمرآة بين القصر والقلعة بلد النوابغ – رواية : خطوات في الليل ، (وهي حول اعتقالي خارج سورية أثناء الأحداث السورية الدامية).ج – الدراسات الأدبية : الفاصلة في القرآن في الأدب والأدب الإسلامي في الأدب والحضارة دراسات في الشعر العربي- دراسات في القصة والرواية في بلاد الشام ذكرياتي مع السباعي صفحات في الفكر والأدب . كما أسهمت في أدب الأطفال : لي ديوانان تحت الطبع ، وأشرطة صوتية : أناشيد مدينة الرسول سلسة الصوت الذهبي التعليمية للأطفال .

س3 – أثناء قيامكم بالتدريس في مدينة عفرين الكردية حدثت بينكم وبين البعثيين مشادات وخلافات ، ودافعتم عن كردية صلاح الدين الأيوبي ، وعن شهامته وحبه للإسلام ، فهل كان هذا مجرد تكتيك سياسي لكسب الأكراد إلى صفوف الإسلاميين ، أم أنكم كنتم تعانون فعلا من تضييق من جانب القوميين والشيوعيين والبعثيين ؟

ج – إن التزامي بالحركة الإسلامية كان قبل عملي مدرساً في عفرين – وذكرياتها ما تزال في بالي – بما لا يقل عن سبع سنوات ، وإن خلافي مع البعثيين والشيوعيين لم يبدأ ، ولم ينتهِ في أثناء عملي في عفرين ، فقد كنت أحد مسؤولي التنظيم الإخواني في جامعة دمشق ، حيث خضت معارك كلامية وصدامية في الجامعة وخارجها ضدهم ، فضلاً عن كتاباتي ردوداً صحفية على الأستاذ حافظ الجمالي البعثي في جريدة (المنار)  الدمشقية ، أو قصائد نقد سياسي ضد أكرم الحوراني في جريدة (اللواء) الدمشقية أيضاً . كما كنت مساعداً  للمرحوم الدكتور مصطفى السباعي في إدارة مجلة (حضارة الإسلام ) الشهرية ، ومن أعوان الأستاذ عصام العطار في معاركه السياسية ضد البعثيين والشيوعيين في عهد الانفصال . وإن حبنا للقائد البطل صلاح الدين الأيوبي ودفاعنا عنه وعن المسلمين الأكراد عقيدة نعتقدها ، ومن مفردات الإسلام : الأخوة في  الإسلام . وهذا غير التكتيك وغير ردود الفعل والاستغلال السياسي . وسوف نظل على هذا الدين حتى نلقى الله تعالى بعقيدة الإسلام الحنيف ، وبحب المسلمين أجمعين : (لو أنفقتَ ما في الأرضِ ما ألَّفتَ بينَ قلوبهم ، ولكنَّ اللهَ ألَّفَ بين قلوبِهم ) صدق الله العظيم . ولهذه الأسباب اعتُقلتُ صيف عام 1967م ، وخرجت من سورية شهر مايس 1980م ، وحُكمَ عليَّ كإخواني بالإعدام .

س4 – سورية حالياً بين فكي كماشة ، ومع ذلك فإن النظام يتخبط في مشاكله، ويرفض الانتقال من النظام التوليتاري إلى الديموقراطية ، فهل هذا فقط سببه أن القطط السمينة لا تريد التنازل عن مصالحها ومكاسبها في البلاد ، أم أن الديموقراطية مضرّة فعلاً ببلادنا ؟

ج – إن الديموقراطية هي البديل الطبيعي للاستبداد والديكتاتورية، وهي أقرب الأنظمة في تطبيقاتها السياسية لنظام الشورى في الإسلام ، لذلك هي خيار التيار الإسلامي وطيف المعارضة السورية بكل ألوانها ، كما أصبحت اللغة العالمية للإنسانية المفهومة المطلوبة حقيقة . وهي لا تضرّ إلا المنتفعين والقطط السمان وأصحاب الارتكابات السابقة ، ارتكابات أمنية أو مالية أو سياسية . ومن الغريب بل المستهجن الزعم بأنها تضرّ بلادنا ، وقد نعمت سورية ببعض منها في بدايات عهد الاستقلال ، فضلا عن الصفحات المشرقة من حضارتنا في صدر الإسلام والعهد الراشدي . وأعتقد أن الإجماع الوطني السوري منعقد على الخيار الديموقراطي ، وهو خيار الفطرة وحركة التاريخ .

س5 – هل صحيح أن الإسلام والديموقراطية يتعارضان ، أم أن المجتمع العربي لا يقبل نظاماً تعددياً ديموقراطياً ؟ وهل هناك تصور إسلامي واضح لدى الإسلاميين السوريين حول موضوع الديموقراطية ؟ البروفيسور دكتور محمد صالح كابوري المختص بعلوم القرآن يرى بأن الإسلامي الذي يرفض الديموقراطية يدعم الديكتاتورية بعلم أو دون علم ؟ فهل توافقونه على هذا الرأي ؟

ج – لا تعارض يذكر بين الإسلام أو نظامه السياسي (الشورى) وبين الديموقراطية إذا طُبِّقتْ تطبيقاً حقيقياً ، أي بالرجوع إلى الشعب ، كل الشعب ، في خيار حرّ : كالانتخابات البرلمانية ، وفصل السلطات ، والمساواة بين المواطنين كل المواطنين في الحقوق والواجبات أمام القانون ، وفي احترام الدستور ، والتداول السلمي للسلطة ، وحرية تنظيم الأحزاب والعقيدة والرأي ، وعودة السياسة إلى المجتمع ، وما شاكل ذلك . أما الزعم بأن المجتمع العربي لا يقبل نظاماً تعددياً ، فهذه فرية يروج لها المستبدون المتسلطون الإقصائيون الاستئصاليون . أما تصور الإسلاميين السوريين حول موضوع الديموقراطية ، فهو لا يختلف في خطوطه العريضة عن تصور طيف المعارضة السورية ، كما ذكرت قبل قليل ، وهو مطلب أولي للحركات الإسلامية الإخوانية في بقية الأقطار العربية . وقد مارس الإخوان المسلمون السوريون الحياة البرلمانية بعد استقلال سورية ، وكان منهم النواب والوزراء وقيادات جماهيرية معروفة في البرلمان وفي الحياة السياسية السورية أمثال : الدكتور مصطفى السباعي ومحمد المبارك ومصطفى الزرقاء والشيخ عبد الفتاح أبو غدة وعصام العطار ونبيل الطويل وعمر عودة الخطيب , وأصدقائهم : أحمد مظهر العظمة ومعروف الدواليبي وفارس الخوري . ولعل الدور الرئيسي للإخوان المسلمين في عهد الانفصال كان وقوفهم ضد الانقلابات العسكرية – كما وقفوا ضد حسني الزعيم والشيشكلي من قبل – لاسيما معارضتهم الإطاحة بالبرلمان وبحكومة خالد العظم ، فقد استطاع الأستاذ عصام العطار (المراقب العام للإخوان آنذاك) وإخوانه في البرلمان : عمر عودة الخطيب وزهير الشاويش وآخرون ، وفي الشارع السوري .. إعادة الشرعية للبرلمان السوري ، وإسقاط حكومة بشير العظمة العسكرية (الحمراء) آنذاك ، كما هو معلوم مشهور .

إن ما ذهب إليه الأخ الدكتور محمد صالح كابوري المختص بعلوم القرآن بأن الإسلامي الذي يرفض الديموقراطية ، إنما يدعم الديكتاتورية بعلم أو دون علم ، هو رأينا الذي نتفق معه كل الاتفاق ، كما يدل على عمق في التفكير وبُعد نظر ، وعلى فهم حقيقي للإسلام ومقاصد الشريعة السمحاء .

س6 – الأدب العربي عرف حيزاً واسعاً من الحوار والجدال ، وكذلك بعض المدارس الفلسفية القديمة في ظل الإسلام .. فماذا حدث حتى انقض المستبدون على الأنظمة العربية ، والمتطرفون على الساحة  الإسلامية ؟ هل صحيح أن العثمانيين بمدارسهم الصوفية كانوا سبباً في ذلك ؟

ج – انقضاض المستبدين على الأنظمة العربية ، والمتطرفين على الساحة الإسلامية له أسباب متعددة ، وليس التصوف العثماني السبب الأول والأخير .

إن انحراف التصوف العثماني وغير العثماني يشير إلى سبب أول رئيس ألا وهو الجهل بالإسلام الحنيف ، أو الانحراف في تطبيق الإسلام سياسياً في الأقل .

يرى المفكر الجزائري مالك بن نبي ، ومعه كثير من المفكرين المسلمين ، أن بداية العطب كانت منذ تحول الحكم الإسلامي الراشدي إلى ملك عضوض ، أي حكم وراثي ، أو تسلطي بالقوة ...هذا سبب رئيس تتفرع منه فروع كثيرة ، تخصنا نحن المسلمين ، تختصر بكلمة (التخلف) ، ويعبر عنها مالك بن نبي – رحمه الله – في مؤلفاته المنشورة تحت عنوان (مشكلات الحضارة) بقوله : (القابلية للاستعمار) .

أما السبب الرئيس الآخر فهو تقليد الآخرين – لا سيما فتنة الفكر الماركسي وقبله الفكر الفاشي أو النازي – مما دفع القيادات العسكرية المغامرة للسيطرة على الدولة ، وإقصاء بقية المواطنين والمجتمع كله : من قادة رأي وأحزاب وبرلمان ومؤسسات مجتمع مدني أو نقابات ومثقفين وصحافة حرة وقضاء نزيه ....وقد تخلت الجهات التي تمَّ تقليدها في أوروبة عن الفاشية والنازية والحكم الشيوعي الشمولي ، ولم تتخل حكوماتنا عنها . وإن إفلاس الأنظمة الاستبدادية عندنا مؤشر على صحوة شعبية وعودة إلى الصواب إن شاء الله تعالى .

س7 – الأستاذ سعيد النورسي ( بديع الزمان الكردي) دافع بقوة لدى انهيار الدولة العثمانية عن (المشروطية) ، وكافح (الاستبداد) حتى أُجبر على الإقامة بعيداً عن موطنه لأكثر من عقدين من الزمان .. فلماذا الصوت الإسلامي العربي الداعي للديموقراطية ضعيف في مرحلة انهيار الديكتاتوريات في  المنطقة ؟ هل هو سوء فهم للإسلام ؟ أم للديموقراطية ؟ أم لكليهما معاً ؟

ج – أحسنت في ضرب المثل بالأستاذ سعيد النورسي – رحمه الله تعالى – وهو أحد زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث وأواخر العهد العثماني بالذات ، يوازيه كل من الشيخ شامل في داغستان ، والبشير الإبراهيمي في الجزائر ، وعبد الرحمن الكواكبي والشيخ محمد عبده ورشيد رضا في العالم  العربي ، ولولا هؤلاء الأفذاذ لكانت الغارة على العالم الإسلامي وسقوط الخلافة العثمانية كوارث مضاعفة ، وما الحركات الإسلامية المعاصرة في أقطار العالم الإسلامي وخارجه إلا وريثة شرعية لجهود هؤلاء الأعلام الأئمة . أما ضعف الصوت الإسلامي الظاهري – وهو الصوت الأقوى في الساحة – الداعي للديموقراطية ، فسببه الجهود القمعية التي تكمّ الأفواه ، وتصادر الحريات ، وتقمع المعارضات النزيهة الشريفة ، التي يغلب عليها الطابع الإسلامي ، وخيارها الأول هو الديموقراطية أو (الشورى) ، وما تعبير (الصحوة الإسلامية) ومظاهرها إلا صدى هذا التيار الشعبي الإسلامي الذي يتعزز يوميا ًمن طنجة إلى جاكرتا ، بعد تراجع الإيديولوجيات الوافدة ، وسقوط المباديء والمذاهب المناوئة للإسلام . وفي أوساط الإخوة الأكراد صحوة إسلامية وتنظيمات إسلامية أيضاً ، لا تقل عما هي عليه في العالم العربي أو بقية شعوب المسلمين .  وقد اعترف الأعداء قبل الأصدقاء بأن أي انتخابات ديموقراطية في العالمين العربي والإسلامي سوف تأتي بممثلي التيار الإسلامي ، وهو ما تخشاه الدوائر الأمريكية والصهيونية ومن يدور في فلكها . وما معنى التحالف الهندوسي الصهيوني الجديد ؟

نعم هناك من يرفضون مصطلح الديموقراطية (لفظياً) في الأرجح ، وذلك في ظنهم من باب التميز من الآخرين والمفاصلة، لكن منطق هؤلاء – في تقديرنا – محدود ، وحجمهم في الساحة كذلك . أما الفكر الإسلامي الغالب ذو الطابع الحركي، فهو فكر جماعة (الإخوان المسلمين) والحركات الإسلامية الشقيقة الموازية ، كالجماعة الإسلامية في باكستان ، وحزب ملي سلامات أو الخلاص في تركية ، فهي مع الشورى أو ما أطلق عليه أحياناً ب(المشروطية) أي الشورى المُلزمة ، والتطبيقات الديموقراطية . يضاف إلى ذلك أثر الجهل بحقيقة الإسلام ومقاصده من جهة وبحقيقة الديموقراطية حين تطبق في بلادنا من جهة ثانية ، مع العلم أن الديموقراطيات الغربية نفسها ليست نمطاً واحداً .

س8 – هناك تيار عربي سوري وآخر كردي سوري يناضلان من أجل سورية ديموقراطية ، فأين يقف الإسلاميون السوريون الآن ؟ مع النظام بسبب مواقفه تجاه الحرب في العراق أو تجاه (مشروع الطريق) في فلسطين ؟ أم مع المعارضة في صفوفها ؟ وهل هناك خطوات باتجاه المعارضة غير الإسلامية بعد ظهور الميثاق الوطني ؟

ج – إن جماعة الإخوان المسلمين فصيل من فصائل المعارضة السورية ، وخياره هو العمل الوطني الديموقراطي مع طيف المعارضة ، وكان المؤتمر الأول للحوار الوطني وإقرار ميثاق الشرف للعمل الوطني فيه .. آخر تجليات هذا الموقف للجماعة ، لكنه ليس الأخير ، لأن المساعي قائمة للتنسيق مع بقية فصائل المعارضة ، ولا سيما ما يتعلق بشؤون القطر الداخلية التي تتداخل أهميتها مع الاستحقاقات الخارجية أو تتقاطع أحياناً ، وهذه المساعي في خط بياني إيجابي متصاعد ، لاح بعض منه في بيان جماعي ضد التهديدات الأمريكية بمناسبة ذكرى يوم الجلاء في شهر نيسان الماضي . أما موقف النظام من العراق أو فلسطين ، فهي ليست مواقف مصيرية لا تتزحزح ، بل هي مواقف خاضعة للمساومات ، وللتأرجح تحت وطأة الضغوط التي لا يتحملها نظام هش معزول جماهيرياً ، منخور حتى العظم بنيوياً . وما ضياع جبهة الجولان ، ولا ذبحه المقاومة الفلسطينية في لبنان وغير لبنان في الثمانينيات وبعدها كذلك .. عنا ببعيد . وقد صرح وزير خارجية النظام فاروق الشرع قبل سقوط صدام حسين بقوله :"إذا سقط صدام حسين فلن نذرف الدموع عليه" . إن مواقف الإسلاميين كإخوان سورية من قضايا التحرر الوطني مثل تحرير فلسطين والجهاد ضد الاحتلال مواقف معلومة، ومنظمة حماس في الأرض المحتلة جناح من أجنحة الإخوان المسلمين .

س9 – ما رأيكم في الوضع الحالي في العراق ؟ هل سيتمكن مجلس الحكم الانتقالي من الصمود في وجه كل المشكلات العالقة ، أم أنه سينتكس ، ويتصرف الأمريكان كقوة (احتلال) زمناً أطول ، وإلى أين يسير العراق إن لم تدعم الدول العربية هذا المجلس ؟ ولماذا صبرت الجامعة العربية ثلاثة عقود على نظام صدام والأنظمة الأخرى ، ولا تتمكن من الصبر سنة أو سنتين على هذا المجلس العراقي ؟ أم أنها تخاف حقاً من احتمال ظهور حكومة منتخبة ديموقراطياً فعلاً ؟

ج – الوضع الحالي في العراق هو وضع احتلال أجنبي لأرض مسلمة ، لذلك هو وضع مرفوض ، يجب التخلص منه بأقرب فرصة ممكنة . يزيد من خطورة هذا الاحتلال أنه بالتنسيق أو التواطؤ مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين الأرض المقدسة ، أو يصب في مصلحة ذلك الاحتلال ، فضلاً عن تداعيات أخرى قد تنشأ عن ذلك الاحتلال ، ضمن القطر العراقي ، أو في أقطار مجاورة ،أو بقية أقطار العالم الإسلامي أيضاَ . أما كيفية التعامل مع هذا الاحتلال للعراق ، فلأهل القطر المحتل الكلمة الأولى . قد نختلف معهم في التفصيلات أو التوقيتات – وهذا واقع فعلا – لكننا لن نختلف وإياهم في النتيجة وفي الاستراتيجيات والمآل ، والأحداث ما زالت دائرة .

إن مجلس الحكم الانتقالي واجهة للاحتلال حتى الآن ، لا حول له ولا طول يذكر ، ونقدر أن عمره لن  يطول ، أو يجب ألا يطول ، من أجل قيام انتخابات حرة ، أو حكومة وطنية عراقية حقيقية . ونقدر أن الأمريكان يراهنون على إطالة مدة وجودهم في العراق ، لكن مراهنتهم في تقديرنا خائبة ، وأن إقامتهم أو إقامة قوات أجنبية بديلة ..عظيمة التكاليف ، والتكاليف البشرية فضلاً عن التكاليف المالية في ازدياد . ويخطيء من يظن أن المقاومة العراقية من أتباع صدام حسين وحدهم . أما موقف الجامعة العربية من الوضع الجديد في العراق ، فهو جزء من مواقف الأنظمة العربية ، وهي في معظمها مخادعة ، تقول شيئاً لجماهيرها ، وتفعل في السر ما هو خلاف ذلك ، وقد حضر الوفد العراقي مؤتمر وزراء خارجية الدول العربية في الجامعة مؤخراً ، ولم يحتج العرب أو أنظمتهم لإمهال مجلس الحكم مدة سنة . وما نظن أن الأنظمة العربية خائفة جدياً من ظهور حكومة عراقية منتخبة ديموقراطياً ، لأنه ليس من المتوقع أن تحرص الإدارة الأمريكية على ديموقراطية في العراق أو في أي قطر عربي أو إسلامي ، من خلال سياساتها المعلومة ومصالحها في منطقتنا ، المناقضة لمصالح الشعوب والجماهير العريضة ، لأن نهب ثروات المنطقة كالنفط من جهة ، ودعم وجود الكيان الصهيوني من جهة ثانية ، هي من أولويات السياسة الأمريكية في منطقتنا . هناك حالة واحدة افتراضية هي تخويف الأنظمة العربية إن لم تستجب للعصا الأمريكية ، لكن المشهد يفيد أن هذه الأنظمة أو معظمها لا يحتاج لعصا ، بل للابتسامة الأمريكية . ومن أجل استبعاد الإجماع الوطني العراقي تزرع الإدارة الأمريكية الأسافين ، وتحاول شق صفوف العراقيين ، وتؤلب بعضهم على بعض  (سياسة فرق تسد) . قد تحقق السياسة الأمريكية أهدافاً على المدى القريب ، لكنها خاسرة على المدى البعيد ، لأنها تحولت إلى استعمار جديد ، يبحث عن مصلحته وحدها ، ولأنها استعدت شعوب العالم بأسره ، ولأنها مازالت مرتهنة للتحالف الاستراتيجي مع الصهيونية أو الكيان الصهيوني في الأقل .

س10 – أمريكا تعتبر الإخوان المسلمين حاضنة كل الحركات المتطرفة والإرهابية ، والإخوان يعتبرون أمريكا أمّ الشرور كلها .. هل سيؤجج نار الخلاف بين الطرفين بصورة أقوى ، أم أن هاتين القوتين الكبيرتين في العالم ستجدان طريقة للتفاهم بينهما ، وتحقيق توازن واعتدال على الساحة الفاصلة بينهما ؟

ج – في عرض القضية (أمريكا والإخوان المسلمين) تبسيط كبير، لأن أمريكا ليست كتلة واحدة متجانسة ، فهناك الإدارة الأمريكية ، وهناك الشعب الأمريكي ، وهناك اللوبي الصهيوني واللوبي العربي والإسلامي الناشيء ، هذا في المكان والسكان ، وهناك سيرورة التاريخ فوق ذلك وقبله وبعده : أمريكا الأمس ، وأمريكا اليوم ، وأمريكا الغد . وهناك أيضاً الثقافة الأمريكية المطبوعة بطابع الفلسفة (النفعية : البراغماتية) ، وهناك الخطوط البيانية حضارياً لمسار أمريكا التاريخي ، لأن كتابات ضخمة داخل أمريكا وخارجها تفيد بأن المدنية الأمريكية إلى سقوط غير بعيد .

أمريكا اليوم لا يقف في وجهها تنظيم القاعدة وحسب! وأمريكا اليوم بجبروتها وبغطرستها لا تعادي الإخوان المسلمين والإسلام وحسب! بل تعادي كل الأمم والشعوب : بدءاً من الكتلة الأوروبية وانتهاء بالصين والعالم الإسلامي . والحرب أنواع ، كما أن السياسة نفسها امتداد للحرب لكن بلغة غير السلاح العسكري. فهناك صراع حضارات ، أو تلاقح حضارات ، وهناك صراع مصالح ، وتداخل مصالح ، وفي السياسة لا يوجد صديق دائم ولا عدوّ دائم – كما هو معلوم – وما كان مع أمريكا من أوروبيين لن يظلوا معها إلى الأبد!

لما جاء الاستعمار الأوروبي إلى العالم الإسلامي ، تصدى له أمثال الشيخ شامل ورشيد عالي الكيلاني وإبراهيم هنانو وعمر المختار وعبد القار الخطابي والمهدي السوداني ، وكان لهؤلاء القادة وأتباعهم جولات ناجحة في مقارعة الاستعمار ، وفي إخراجه ولو بعد حين من استقراره ، والأمر نفسه يكاد يتكرر اليوم مع الاحتلال الأمريكي الذي لن يدوم .

والإخوان المسلمون ليسوا ضد أمريكا ككل ، إنما هم ضد العدوانية الأمريكية ، وضد التصهين الأمريكي ، أي ضد الإدارة الأمريكية الحالية ، وإن الإدارة الأمريكية سوف تتغير ، كما أن سياسات أمريكا نفسها سوف تتغير ، وأن الانفكاك الأمريكي الصهيوني لابد حاصل يوماً ما ، لأنه ليس من مصلحة أمريكا هذا الارتباط الحالي كما نقدر ، ولأن هناك تياراً في أمريكا – ولو كان ضعيفاً حتى الآن – ضد الصهينة . وما أشرت َ إليه أنت (من إيجاد طريقة للتفاهم ، وتحقيق توازن واعتدال على الساحة الفاصلة) ضمن هذه المعطيات سوف يكون يوماً ما ، إذا بقيت أمريكا أيضاً !

س11 – قديماً كان بعضهم يرى أن الشيوعية عندما تتحقق ستمنح الأكراد حقهم القومي ، وهكذا يرى الإسلاميون العرب أيضاً عندما يتحدثون عن الإسلام والوحدة الإسلامية ، والأكراد يطالبون بحقهم كقومية أسوة بكل قوميات العالم الأخرى ، ومن علماء المسلمين من دافع عن هذا الحق بقوة .. فما رأيكم بمطالب الكرد في سورية ؟ أم أنكم تعتبرون حل القضية الكردية في تعريب الكرد والقضاء على ثقافتهم ولغتهم القومية وصهرهم في بوتقة الأمة العربية ؟

ج – رأي جماعة الإخوان المسلمين هو رأي الإسلام في كل شؤون الحياة ، لا سيما الموضوع القومي : ( يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا . إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ، فالتعارف لا التناكر والتفاخر ولا الفاشية أو تعريب الأقوام أو تكريدهم .. هو المطلوب . وتشبيه الموقف الإسلامي بالشيوعية هو من باب التبسيط المخل في النظرة الأممية ، لأن الإسلام يؤاخي بين الأقوام ، ويتعامل مع الإنسان بتكريم ، لارقماً حسابياً ، ولا مسماراً في آلة صماء ، يقول الله تعالى : (ولقد كرمنا بني آدم على العالمين) . إن أهم عنصر في الإنسان هو العقيدة أو الفكر أو الدين في نظر الإسلام ، ومع ذلك قال الله تعالى في كتابه : (لا إكراه في الدين) ، فإذا لم يكن جائزاً الإكراه في الدين ، فكيف يكون الإكراه فيما سواه ، كاللغة أو القومية ؟ حتى الأخذ للأمر اليسير بأسلوب الاستحياء غير مباح (ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام ) . إن أفضل المسلمين بعد الرسول – وهو أفضل البشر عليه السلام – هم الصحابة الكرام ، ومن الصحابة : بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي . كان يقف بباب الخليفة عمر بن الخطاب ناس كثيرون ، يستأذنون بالدخول عليه ، فيؤذن لبلال الحبشي قبل أبي سفيان ، ولما احتج أبو سفيان على ذلك ، قيل له : إن بلالاً سبقك في الدخول في الإسلام ، ويسبقك في الدخول على أمير المؤمنين . هذه مقاييس الإسلام ووقائعه التاريخية . ومن المعلوم أن الإسلام نهى عن تشبه الرجال بالنساء ، وعن تشبه النساء بالرجال ، بل لعن الرسول عليه السلام من يفعل ذلك ، والحكمة هي تحريم تبديل خلق الله ، فكيف تغير القومية بالإكراه ، أليست القومية من قبائل وشعوب من خلقة الله وفطرته التي فطر الناس عليها ؟ إن علماء المسلمين الذين يقرون بحقوق الأكراد أو القوميات الأخرى ، إنما ينطلقون من أحكام شرعية ، تعبر عن روح الإسلام وحقيقته ومقاصده الشرعية السمحة ، وكل مسلم كردي أو عربي أو باكستاني يعرف ذلك من نفسه ومن دينه أصاب العلماء أو أخطأوا. إن القرآن الكريم والحديث الشريف والتاريخ الإسلامي حافل بالشواهد والنماذج والوقائع ، وإن مواقف الحركات الإسلامية المعاصرة تصدق ذلك : (المسلم أخو المسلم أحب أم كره ، لا يسلمه ولا يخذله ..) ( لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ) (كلكم لآدم وأدم من تراب ) . ولهذا قال الشاعر المسلم منذ القدم :

أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواهُ            إذا افتخروا بقيسٍ أم تميــمِ

كما قال شاعر الإسلام المعاصر محمد إقبال :

الصينُ لنـا والهِندُ  لنــا           والعُربُ لنــا والكلُّ لنــا

أضحى الإسلامُ لنــا ديناً            وجميعُ الأرضِ لنـا وَطَنـا