في حوار مع مرح البقاعي

محمد مليطان

واحدة من الأستاذة الأكثر اعتدالا وتأثيرا في الجامعات الأميركية

في تدريس وكتابة مادة الشرق الأوسط

حوار الأديان هو حوار شعوب لا حوار حكومات

·      الأندلس أفضل نموذج للإسلام المستنير والمعتدل

·  لا لتحجيم تعاليم الإسلام الحنيف في نموذج ضيق لإسلامويات الفضائيات وأصحاب فتاوى الماكدونالد. ومدرسة جمال البنا هي النموذج المرتجى لقراءة الإسلام بوجهه النضير.

·      نحن مجتمعات بطرياركوية ذكورية تؤمن بالقوامة والهيمنة

·      مسلمو أميركا معتدلون بحكم شرط المكان

حاورها من واشنطن الأكاديمي الليبي محمد مليطان

من المعلوم أن السياسة الأميركية ترسمها مجموعات من الدراسات التي تصدر عن مراكز البحوث باتجاهاتها المختلفة، ومن هذه المراكز العلمية المهمة في الولايات المتحدة الأمريكية (منتدى الشرق الأوسط) الذي يعد واحد من أهمها ومن أكثرها تأثيرا، ويضم هذا المنتدى مجموعة من المراكز العلمية من بينها(مركز متابعة الجامعات الأميركية) وهو أحد مشاريع منتدى الشرق الأوسط المتخصص في متابعة ما يدرّس في الجامعات الأمريكية، وقد صدر عن هذا المركز قائمة بأساتذة مادة الشرق الأوسط الأكثر اعتدالا وتأثيرا في الجامعات الأمريكية لعام 2008، وكانت الأستاذة مرح البقاعي أستاذة اللغة العربية في جامعة ميريلاند في واشنطن، وأستاذة مادة الإسلام المعاصر في جامعة جورج تاون ذات الأصول العربية السورية من ضمن هذه القائمة التي ضمن أعلاما من أمثال برنارد لويس وآن مايير، باعتبارها الأكثر اعتدالا وتأثيرا، نظرا لتوخيها الموضوعية والحياد العلمي في تقديمها مادة الإسلام المعاصر وعدم انحيازها لأصولها الإسلامية والعربية وكذلك عدم انحيازها لانتماءاتها الأميركية باعتبارها مواطنة أميركية.

ما هو النموذج الإسلامي التي تقدمينه للطلاب الأميركيين؟

أنا أقدم نموذجي الأبيض والأسود دائما، فالأبيض المشرق في التاريخ والحضارة الإسلامية يتمثل في نموذج الأندلس، وهو نموذج رائع قدمته للطلاب وكانوا يتجاوبون معه كنموذج مستنير للإسلام بشكل إيجابي كبير، فقد انبهر الطلاب حين تعرفوا على التسامح الديني في الأندلس، والعمارة الأندلسية، والنظام التعددي الاجتماعي والعرقي، وهو نموذج غير معروف للطالب الأميركي، وأنا أهتم بتقديم الوجه المضيء للإسلام، الإسلام المعتدل، إسلام الاجتهاد لا إسلام الجهاد وحسب، لأن في الاجتهاد جهاد للنفس أولا، وهذا هو قمة الجهاد وأسّه في الإسلام. وللأسف فالأميركي لا يعرف غير بعض المصطلحات عن الإسلام والتي تعد مفاتيح بالنسبة إليهم لفهم الإسلام، وهي مصطلحات في مجملها دموية وعنفية وتقدم أفكارا في العنصرية وكراهية الآخر، وأنا طبعا أقدم نموذجا غير موجود الآن، وإنما استدعيه من التاريخ، وهذا ليس سيئا، فروح التاريخ يمكن أن تستعاد من جديد. وأنا لا يمكنني هنا إلا أن أحيي وأؤيد هنا مدرسة المفكر جمال البنا التي تدعو إلى إحياء الوجه المستنير للإسلام بكافة أبعاده السياسية والاجتماعية والعقائدية.

ولكنني في الوقت نفسه لا أغض الطرف وأتلافى أن أقدم نموذج الحركات "الإسلاموية" المتطرفة، والتي تعدّ السبب المباشر في كل ما يحدث من شروخات وتصدعات في العلاقات بين الغرب والمنطقة الإسلامية، فلا يمكنني أن أتجاهل مثلا نماذج مثل  أحزاب ومنظمات "عسكرتاريا" الإٍسلام، لأننا إذا لم نتحدث عن المرض ونشخصه لا يمكننا وصف العلاج، فأنا ملتزمة بتقديم الحالتين، الحالة الإسلامية المستنيرة، والحالة التي أوصلتنا الى مرحلة العنف.. والذي أوصلنا الى هذه الحالة في تقديري هو توقف الاجتهاد، فلو لم يتوقف الاجتهاد في الخطاب الإسلامي لما وصلنا إلى حالة الصدام الشديدة جدا بين الفرق الإسلامية فيما بينها، وفيما بين الإسلام ككل والعالم الغربي.

ولكن، ألا تعتقدين أن التاريخ قد يكتب أحيانا بلغة شاعرية وأجندة متملقة ؟

أنا أميز بين التأريخ والتاريخ، فالتأريخ هو ما تكتبه السلطة عادة، أما التاريخ فهو ذاكرة الشعوب، وأنا دائما ألجأ إلى ذاكرة الشعوب الحافظة، فكل فترة تاريخية مسجلة من خلال أشخاص حياديين، كتبوها بشكل علمي، وأنا أتوخى دائما أن تكون مصادري تاريخية، وليست تأريخية، ومهمتي هو استرجاع التاريخ ومحاولة البحث عن حلول للأزمة الحالية من خلال الذاكرة الجمعية الثقافية للشعوب.

كيف تنظرين إلى الطالب الأميركي ؟

أنا معجبة جدا بالطالب الأميركي، لأنه لا يقبل المادة جاهزة دون أن يحاول نقدها، فالفكر النقدي هو الذي يقوم عليه التفكير العلمي في الولايات المتحدة الأميركية، والطالب الأميركي يناقش كل الأمور العلمية دون حدود، ودون أي تحفظ، حتى يصل الى قناعة معينة، ومعلوم طبعا أن الفكر النقدي هو الذي تتطور من خلاله العلوم ولا تقف مكانها.

ما علاقتك مع الباحثين العرب الأميركيين ؟

من خلال تجربتي اصطدمت مع عدد يسير من الأساتذة العرب الأميركيين لأنهم يحملون همومهم السياسية إلى الحرم الجامعي وهذا غير مقبول، فالهمّ السياسي شيء، وتقديم المادة العلمية شيء آخر، فهي تخضع لشروط الأمانة العلمية والأخلاقية في تقديم المادة العلمية، وهذا ليس نظاما أميركيا، وإنما هو تقليد عالمي أكاديمي معروف، وما يدرس في الجامعات قد يؤسس خطا فكريا جديدا، ما يساهم في رسم السياسات مستقبلا.. وهناك بعض الأساتذة لا ينتمون للأسف لهذا المنهج ولا يتبنون الحياد في العمل الأكاديمي.

لماذا لا يستجيب العقل العربي لاشتراطات العلمية ؟

السبب هي الأمراض الاجتماعية المنقولة إلى هنا، وغياب حاسة النقد، فنحن مجموعات بشرية لا تقبل النقد، وتعتبر أي نقد موجه إليها هو اعتداء، وكل فكر نقدي هو فكر معادٍ! ثم إننا مجتمعات بطرياركوية ذكورية تؤمن بالقوامة والهيمنة، وأي نقد لها هو اختراق لنظامه ومحميّته التي يسيطر عليها، فنحن مجتمعات منغلقة، مجتمعات أقرب إلى الممارسات البدوية الغرائزية القديمة، كما أن الإسلام وتداخله في الحياة الاجتماعية، وأزلية النص الديني أيضا سبب آخر في عدم قبول فكرة النقد، كما أن علاقة الدين مع السلطة عامل مهم جدا في هذا الإنغلاق، حيث إن الإسلامويين هم ظهير لآل الحكم، وآل الحكم ظهير لهم، وشكلوا، معا، على مدى حقب طويلة علاقة وطيدة جدا، وعلاقة مصالح مشتركة، فالبقاء في الحكم والسيطرة على المجتمعات العربية لا يتم إلا بتحالف بين السلطوي والديني، والإسلام المضيء الذي قام في الأندلس كان قائما على سوق العمل والتعددية، فهو مدفوع بالعامل الاقتصادي، وليس بأي عامل آخر، فسوق العمل يستقطب أجناسا وأعراقا مختلفة، ويفرض نوعا من الحياة التعددية والتعايش السلمي بين الأديان والأعراق والأجناس، كما أن الجغرافيا لها علاقة أيضا، فأنا من المؤمنين بأن التاريخ هو محصلة للجغرافيا.

ما هي خارطة الطريق الإسلامية العابرة بالمنطقة نحو مستقبل أفضل ؟

هناك حالة مدنية في الإسلام، لو تم استشرافها يمكن الخروج من مطب التطرف الديني الذي لم يقتصر على الإسلامويين، بل وقع فيه حتى الإسلاميين، وهناك حركة تسير في هذا الاتجاه كنموذج "الإخوان المسلمون" في الأردن، عندما حاولوا أن يتحولوا من حركة دعوية إلى حزب سياسي مشارك في الحياة السياسية العامة. فاستشراف الحالة المدنية للإسلام قد تعيد للإسلام زمنه الذهبي، الذي أعتبر الأندلس نموذجا له، وقد تعيد حركة الاجتهاد إلى الخطاب الديني، وأقصد هنا اجتهادات العلماء، وليس اجتهادات الفتاوى على القنوات الفضائية العربية، لأن الاجتهاد نفسه وقع الآن في أيدي قناصة العمل الاجتهادي في الخطاب الإسلامي، وصار هؤلاء القناصة نجوم فضائيات، وهؤلاء هم الذين يحددون فكر الشارع العربي الإسلامي، ويرسمونه رسما كاملا للأسف الشديد! فعندما تحدثنا عن الاجتهاد وقعنا في مطب الفتاوى الفضائية التي تشكل عقول ومستقبل الشباب العربي.. والاجتهاد فقط ليس كافيا، لأنه ليس من السهولة الخروج من هذه الأزمة لأنها عميقة جدا، والأزمة عمرها مئات السنين، فهي أزمة تراكمية تمتد من مقتل عثمان إلى هذا اليوم، والاجتهاد ليس هو الحل السحري ولكنه حل من الحلول.. وحتى لا يقع الاجتهاد فريسة للتطرف لابد من طرح الأسئلة الآتية: من يقوم على الاجتهاد؟ هل هم رجال الدين؟ أم هم رجال الفكر الديني؟ أم هم أصحاب العلم؟ ما هو الهدف من الاجتهاد ؟ والاجتهاد على ماذا ؟ وفي أي اتجاه؟ وما هي حدود الاجتهاد؟ ومن يرسمها؟!

فالإسلام ليس دينا فقط، بل هو نسيج اجتماعي متلازم، ولا يمكن فصل المجتعات الإسلامية عن الحالة الدينية، فما العمل في هذه الحالة طالما الدين متداخل في اللحمة الاجتماعية للمجتماعات العربية والإسلامية؟

لابد من إعادة قراءة الخطاب الديني بما يتناسب وروح العصر، هكذا بكل بساطة، بعيدا عن فتاوى الفضائيات، فتاوى الماكدونالد، لأن هذه الفتاوى تذهب بنا إلى المزيد من الإسفاف والابتعاد عن السبب الأساسي للجوء إلى الاجتهاد.. وهذا تحديدا ما أقصده من الاجتهاد.

هل هذا يعني أن فقهاء الفضائيات عاطفيون وليسوا علميين ؟

نعم، فالاعتماد فقط على تهييج العواطف وتخدير العقول أبعد ما يكون عن العلمية، وأي طرح يعتمد تهييج العواطف وتخدير العقول وإبعادها عن النقد والقراءة النقدية ليس بالمنهج العقلاني على الإطلاق، هذا هو المحك.. الشباب العربي بحاجة ماسة لأن يمارس المزيد من التفكير البراغماتي القائم على نقد كل ما يدور حوله، ليخرج جيل الشباب العربي المسلم  بتصور جديد لمجتمعه وبإنارة من الفقهاء، إذا كان هؤلاء الفقهاء فعلا علميين ويريدون المساعدة في هذا الاتجاه، بعيدا عن حالات التهييج العاطفي.  المحك هو إغناء العقول قبل إثارة العواطف..

ما هو موقف الأميركي من ( إسلام الفضائيات ) ؟

الأميركي شخص يعتمد المعرفة، والأرقام التي تقدم إليه عنوان يبني عليه قضية وتصور معين، وهو براغماتي جدا، وبرامج التربية المعتمدة عند الأميركيين في تربية الأطفال تقدّس السؤال وتربي الجيل عليه، فالأب والأم حريصون على الإجابة على سؤال الطفل مهما كانت حساسيته، فيكبر الأميركي على السؤال وعلى حب المعرفة، وعلى عدم قبول ما يقدم له بشكل جاهزز

من هذا المنطلق تجد أن أميركا الدولة العظمى التي يحكمها القانون، لا قانون راكد وحرفي فيها، القانون الأميركي محصليّ وتراكميّ، وكل قضية جديدة تضيف اجتهادا قانونيا في النصوص المعتمدة.

وكذا بالنسبة للمسلمين في أميركا، فالحياة اليومية في أميركا تفرض على المسلم الأميركي أن يكون معتدلا في الممارسات الدينية، لأن أميركا هي عبارة عن معسكرات عمل، فالعمل اليومي والمنافسة الكبيرة والبحث عن حياة أفضل والتحديث اليومي لكل شيء في حياتك ـ فأميركا بلد التحديث اليومي ـ  وكذلك حجم المعلومات اليومية المتدفقة واتساع حجم دائرة المعرفة الإنسانية، هي عوامل حيوية تؤثر مجتمعة على الممارسات الدينية الضيقة، وكلما اتسعت دائرة الحراك الاجتماعي والمعرفي والمهني، كلما تقلّص حجم الممارسة الدينية المنغلقة والمتعصبة.

هل هناك مشاريع مقترحة لـتقديم صورة(إسلام حداثي) يستفيد من الثورة المعرفية الكبيرة المعاصرة؟

لا أعتقد أن هناك حركة حقيقية في هذا الاتجاه، ولا أراها، فممارسة الإسلام هنا وحتى الفقهية منها لا تتعدى بناء جوامع أنيقة، ولا تصل إلى حركة علمية إسلامية، هناك فقط في كاليفورنيا حركة إسلامية تنادي بإحياء الصوفية، وهذا جميل، ولكنها ليست حركة علمية، ويبقى العبء على الأكاديميين المهتمين والدارسين للإسلام وبصورة مجهود فردي، ولا توجد حركة عامة متكاملة في هذا الاتجاه.

نحن الآن بصدد التأسيس لمعهد الوارف للدراسات والذي سيكون أحد مشاريعه هو الحوار بين الأديان السماوية الثلاثة : اليهودية والميسحية والإسلامية وذلك بالشراكة والتعاون مع مؤسسة: مجلس ابن رشد وابن ميمون الذي أسسه المفكر العربي طارق الحجي. المشروعان سينطلقان بالتوازي قريبا في العاصمة الأميركية واشنطن.