العدالة لا الثأر

الياس خوري

في 4 آب (أغسطس) 2020 رأى سكان بيروت ومعهم كل اللبنانيين مرآتهم التي حاولوا حجبها طويلاً.

رأى الناس موتهم وشظايا أجسادهم وأرواحهم وقد تحولت إلى مرآة عملاقة تنتصب في وجوههم.

ما تبقى من مرايانا هو الحطام، واجتاحنا شعور غريب بأننا غرباء في مدينتنا وبلادنا، كأننا استفقنا من منام طويل لنجد أنفسنا مرميين على أرصفة المستشفيات والدم ينزف من كل أنحائنا.

سؤالنا «هل هذه بيروت» لم يكن استعارة أدبية، أو محاولة للتعبير عن الغضب والحزن وقد امتزجا ورسما أعيننا من جديد.

سؤالنا كان نابعاً من شعورنا بأننا تهنا في شوارع نعرفها، ولم نعد قادرين على اكتشاف الاتجاهات، كأن بيوتنا التي تحطمت ليست بيوتنا.

هذا الضياع صنعته صدمة الانفجار، فاعتقد كل بيروتية و بيروتي أن الانفجار حصل في منزله. ثم حين خرج الناس راكضين بدمهم النازف إلى المستشفيات اكتشفوا أن المدينة ضُربت كلها، وأن الزجاج المطحون وبقع الدماء وبقايا الأشلاء غطت كل الشوارع.

في اللحظات الأولى التي أعقبت الذهول، افترسنا الضياع.

ماذا جرى؟

وعندما بدأت الأخبار عن انفجار كبير في المرفأ حطّم ثلث المدينة، كانت ردة فعل الناس أنها إسرائيل.

من يمتلك هذا الحقد وهذه اللامبالاة بمصائر الناس وحيواتهم سوى إسرائيل؟

نعم إنها إسرائيل وقد قررت الانتقام من مدينة أذلت جيشها مرتين.

لم يخطر في بال أحد أن الفاعل قد يكون لبنانياً أو عربياً.

ثم بدأت التطمينات، ويا ليتهم لم يطمئنونا، لا ليس هجوماً إسرائيلياً، إنه انفجار في المستودع رقم 12 الذي يحتوي نيترات الأمونيوم. قالوا إن الحريق امتد من مستودع للمفرقعات، وقال آخرون إن الحريق حصل بسبب التلحيم.

قال رئيس الجمهورية إنه كان يعرف، وقال رئيس الحكومة إنه ألغى في آخر لحظة زيارة إلى المرفأ كي ينظف المستودع من النيترات.

قالوا شيئاً ثم قالوا عكسه.

وتنطح عميد سابق في الجيش كان يعيش تقاعده في النسيان، وضرب الحظ والانحناء ضربته فصار وزيراً للداخلية، قال هذا الرجل المجهول إن التحقيق سينتهي خلال خمسة أيام.

وجاء قاض وعُزل، وخلفه قاض ثان، يقومون اليوم بمحاولة شلّ قدرته على العمل. تظاهر أهالي مئتي ضحية حتى تعبت منهم الشوارع، صرخوا وبكوا، حملوا صور الشهداء، حاولوا ولكن عبثاً.

الفاعل مجهول، والمتهمون محميون بقوة الحصانات والفذلكة والتشبيح واللعب بتأويل القانون.

لكننا اكتشفنا بعد سنة من الانفجار، وكانت سنة حافلة بالسقوط والافقار والنهب، أن علينا طرح الأسئلة من جديد.

الاكتشاف هو أن القتلة الذين أدخلوا النيترات وغطوا عمليات تسريبها هم لبنانيون. فالانفجار لم يكن حدثاً عابراً، بل جاء تتويجاً لسياسة القتل والتجويع التي لجأت إليها الطبقة الأوليغارشية الحاكمة، بعدما أفلست سياسياً، وهرّبت أموالها/أموال اللبنانيين إلى الخارج.

الانفجار التدميري القاتل كان ذروة ممارسة سياسية واقتصادية واجتماعية امتدت عقوداً، ولم يكن مجرد مصادفة أو إهمال من هنا ولا مبالاة من هناك.

انكشفت لعبة الموت، معلنة أن الطبقة اللبنانية الحاكمة التي يقودها حزب المصرف، تلعب في مستويين:

فهذه الطبقة هي حزب واحد على مستوى السياسات الاقتصادية والاجتماعية. لا فرق بين «معتدليها» و«ممانعيها»، أو بين «حلفاء» السعودية و«حلفاء» إيران، أو بين أيتام الغزو الإسرائيلي وأيتام الوصاية السورية. رؤيتهم الاقتصادية واحدة تقوم على تحويل النيوليبرالية القاتلة إلى منظومة نهب ورشوة وفساد.

وهذا الحزب يمتلك رؤوساً متعددة اسمها البنى الطائفية والصراع على حصص الطوائف، وهو صراع مضبوط ولا ينفلت من عقاله إلا حين تشتد التناقضات الإقليمية التي تتجاذبه.

الانقسام الطائفي هو صمام أمان النظام ومقتله في آن معاً. هو مصدر قوة الطغمة الحاكمة ونقطة ضعفها.

وفي أزمة اقتصادية واجتماعية صنعها الانهيار الشامل، وهي أزمة لا سابق لها منذ تأسيس دولة لبنان الكبير، انكشفت عورات الحزب الحاكم، وتحولت رؤوسه الطائفية المتعددة من مصدر قوته إلى سبب انسداده السياسي الشامل، وصارت الجريمة هي عنوانه الوحيد.

الحزب الحاكم كشر عن أنيابه في 4 آب (أغسطس)، وفي قراره حماية المجرمين. كلهم مجرمون، وكلهم صنعوا لبلادنا فخ الموت هذا.

وعشية الذكرى السنوية الأولى للرابع من آب (أغسطس)، يشتعل في قلوب الناس الغضب وترتفع صيحات الثأر والانتقام.

لكن المصادفة وقرارات تأجيل انتخابات نقابة المهندسين رسمت مساراً آخر، فهذه الطبقة بحزبها الواحد وأحزابها المتعددة، مُنيت بهزيمة تاريخية كبرى. النقابة التي انتفضت، كانت جزءاً منظماً من قرار شعبي شامل بإسقاط الحزب الحاكم وإسقاط طائفيته ومحاصصاته وزعبراته وزعرانه.

الانتصار المدوي لانتفاضة النقابة هو جزء من مسار تأسيس العدالة.

فالمافيا الحاكمة وعصاباتها يجب أن تساق إلى عدالة المجتمع قبل أن تستطيع عدالة القضاء أن تتحول إلى فعل.

العدالة وليس الثأر.

العدالة هي أمانة 17 تشرين.

والعدالة يصنعها العادلون.

التغيير الذي بدا صعباً وشبه مستحيل، يتشكّل كل يوم، صنعه الطلاب أولاً، ويصنعه المهندسون اليوم، وسبق للمحامين أن افتتحوه في نقابتهم.

هذا التغيير ليس إصلاحاً لما أفسده الدهر، وليس مساومة مع الطائفيين وعملاء الدول الإقليمية.

إنه أفق ثوري لاستعادة الوطن.

تحية إلى الرفيق عارف ياسين وصحبه، لقد كتبتم أيها الرفاق بداية ذكرى 4 آب (أغسطس)، وجعلتم منها أفقاً للعدالة التي يؤسسها المجتمع.

أيها العادلات والعادلون اتحدوا، فنحن نعيش في الهزيع الأخير من ليل لبنان المؤلم والطويل.

وأنتم يا أهالي ضحايا انفجار المرفأ، ستصنعون العدالة باصراركم، وستكون عدالتكم شاملة تبدأ بالعدالة للمخطوفين الذين قتلتهم آلة الجريمة الطائفية، وتمتد إلى عدالة شهداء المرفأ وضحايا الانهيار الذي صنعه لصوص هذا النظام.

وبعد أسبوعين، في ذكرى تدمير بيروت بنيترات الأمونيوم، سيكون للعدالة موعدها مع العادلين.