أمل

سعيد رمضان

[من افتتاحية مجلة المسلمون. رمضان 1373ه. لرئيس تحريرها سعيد رمضان (المصري)]

المسلمون في حاجة إلى أمل. هذه حقيقة يجب أن تضعها الحركة الإسلامية في رأس منهاجها، فإن الظلمات التي تكتنف حياة المسلمين، والمصائب النازلة بهم، شديدة الوطأة. والأمم لا يحييها منطق العقل وحده، ولا ينهض بها التذكير الجامد بالواجب الثقيل. ومن الظلم أن نحكم على شعوبها حكماً سهلاً بالتفريط، أو أن نيأس منها ونزدري كل بارقة أمل تحملها انتفاضة مفاجئة أو حركة نامية.

لا... وأقول "لا" وتاريخ الأمم ماثل بين عينيّ، وليس منها أمة عاشت عمرها خالياً من فترة تردّت فيها إلى درْك لم ندركه نحن المسلمين بالرغم من كل ما فينا، ثم إنه ليس منها مَن أنهضه من كبوته فكرة فيلسوف، إنما هي العاطفة المشبوبة تبعثها دائماً قلة واعية، فتُطلق بها المواهب المكبلة، وتحبب بها الواجب الثقيل، وتهون بها العقبة الصعبة.

وليس من حركة غيّرت وجه التاريخ إلا ووراءها مغامرة أشعلتها عاطفة لم يقدرها "العقلاء" قدرها إلا بعد أن رأوا ثمرتها.

أجل... والقرآن الذي أنزله الله دعوةٌ حارة تقتحم الأسوار الكاذبة إلى قرارة النفس، وتُشعل في هذه الأعماق جذوة الحياة وسراج الطريق، وتقرر في هذا النور وحده حقائق الحياة وتكاليف الطريق: (أوَ مَن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس؟)، ونبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، وهو سيّد العقلاء، لبث في مكة ثلاثة عشر عاماً يخاطب هذه النفس، والكثرة الكاثرة من القرآن المكي آيات تزرع العقيدة، والذين بادروا إلى الإيمان بها حول النبي لم يكونوا أعقل الناس في عرف أهل مكة يومئذ، بل إن أعداءهم قالوا: (أنؤمنُ كما آمن السفهاء؟). وإن الحجاب الذي حجب حقائق الإسلام عمن كفروا به، كان حجاباً أسْدَلَتْه النفس المظلمة على العقل المبصر: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)، ولعمري لو أنه لم يقل "التي في الصدور" لوجدنا مَن يزعم أنه إنما عنى بها العقول على مذهب في اللغة!.

هؤلاء الذين دعاهم كفار مكة بالسفهاء، هم الذين أصبحوا عقل الجزيرة العربية الجديد في التمييز بين الحق والباطل، وهم الذين صنعتهم عاطفة الإيمان صناعة جديدة ركزت في حياة الناس العملية ما يسمونه بـ"الضمير" ويسمّيه القرآن تقوى الله ورعاية حدوده، وهم الذين قوّضوا سلطان الجاهلية بكفاح مذهل، رسم له العقل المؤمن خطّتَه، وصنعت له العاطفة المؤمنة عجائب الفتح الذي دوّخ الروم والفرس، ونماذج التضحية التي رأينا منها المرأة يُصرَع في المعركة ابنها وزوجها وأخوها فتنساهم جميعاً لتسأل: كيف فعل رسول الله؟!.

* * *

وما زلنا في الأمل... ذلك أن الأمل الذي نعنيه ليس هو النزوة الطارئة التي تزينها الحماسة، ولكنه الشعور النابض الذي تبعثه العقيدة. إن معركة الحياة عند المؤمن هي المعركة بين الحق والباطل، وهي معركة على عين الله حين يتميز طرفاها، وليس بينه وبين النصر فيها إلا أن يوثّق صلته بالحق ويَصْدُقَ في ذلك، فإن هو فعل فقد تشبّعَ بالأمل وتحرّرَ من اليأس: (إنّه لا ييأس مِن رَوح الله إلا القوم الكافرون). وفي صلة المؤمن باللّه وعد قائم دائم بالمغفرة كلما أذنب، وبالرحمة كلما أناب. وجماهير المسلمين في العالم كله لا تزال تنطوي على جذوة الإيمان بالرغم من كل ما تعانيه، فإن نحن طرقنا قلوبها، ونفخنا في هذه الجذوة فيها، وذكّرناها بدينها الحق، ودعوناها إلى طَرْقِ باب رحمة الله، وناشدناها أن تنيب إلى الله إنابة جديدة، وسُقنا إليها وعد الله بالنصر والتأييد مهما كانت قوى أعدائها، لأن الله أقوى، ومهما كان تفريطها فيما سلف، لأن الله غفور، وتَلَونا عليها في ذلك مثل قول الله: (الذين قال لهم الناس: إنّ الناسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً وقالوا: حسبُنا الله ونِعمَ الوكيل. فانقلبوا بِنِعمةٍ مِن اللهِ وفضلٍ لم يمْسسهم سُوء)... فإننا بذلك نبعث أملاً جيّاشاً عميق الجذور، ونُطلِق موجةً عاتية تخشاها قوى الكفر كل خشية، ونُحيط الحركة الإسلامية بسوار عزيز من طوايا هذه الأمة المظلومة.

إن بعث هذا الأمل بسلطان العقيدة هو أمر قريب إذا حاولناه، وحق صريح لا نتكلّفه، وهو السبيل الذي نحرر به المسلمين من أكثر أغلالهم، فإن الخرافة التي دُسّت باسم العقيدة لا يطاردها إلا العقيدة نفسها، وإنّ الخمول والغفلة اللذين شاعا باسم التوكل لا يبددهما إلا تصحيح معنى التوكل في النفوس، وشعور الغفلة الذي قطع الأكثرين عن قضاياهم لا يعالجه إلا التذكير برقابة الله وبالمسؤولية الشديدة بين يديه، وبالعقاب الذي كتبه على المفرطين: خزياً في الدنيا وعذاباً في الآخرة!.

* * *

إنه ما من أمةٍ نهضت إلا ووراء نهضتها عاطفة مشبوبة تبعثها دائماً قلة واعية هي ركيزة الأمل، وهي المفتاح للقُفل الصعب. وثباتها على معاني دعوتها، وإشراقها وفطنتها، وبقدر قوتها وصلابتها، يمكن للثروة المبعثرة أن تجتمع، وللعملاق المصفّد أن يستوي على قدميه، وللقفل الصعب أن ينفتح!.

ومعنى ذلك أن تركيز هذه القلة وتربيتها، واستعمال كل الوسائل في تهيئتها، يجب أن يظل الهدف الأمثل، ويجب أن يكون الأساس في بناء الغد المرتقب، وما لم تنجح هذه القلة في أن تكون مثلاً صادقاً لما تدعو إليه، وأملاً مرموقاً للحيارى في كل وطن، فإن هذه الآمال ستظل أمانيّ لا تجدي، وليس الإيمان بالتمنّي!!.