بين مَشاهد الدنيا ... ومنازلُ الآخرة

شريف قاسم

هذا المشهد ــ مشهد عرفات ــ كان ، وسيبقى إلى آخر عمر الحياة الدنيا بمشيئة الله تبارك وتعالى . رغم كل عداوات المغضوب عليهم والضَّالين وأعوانهم وتلامذتهم من مختلف الملل والنحل . فهذا المشهد يؤكدُ متانة وثبات الفطرة في نفوس الخلق ، وهم يصغون إلى ثناء الله عليهم : ( اللهُ وليُّ الذين آمنوا ) ، ومَن كان اللهُ وليَّه فله النورُ إذا أظلمت الأيام ، وله العزةُ إذا أناخ بالناسِ الذلُّ والهوان ، وله الأمنُ إذا دلهمت جنباتُ الكون بالخوف ، وله النصرُ إذا أذنَ الله . فالله سبحانه يتولى الصالحين الذين إليه قصدوا ، وبه استجاروا ، وعليه توكلوا . والآخرون ليس لهم من ذلك شيءٌ ، لأنهم كفروا بالله ، وأدبروا عن نبوةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم . قال الله عزَّ وجلَّ : ( ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لامولى لهم ) 11 سورة محمَّد . فلا عبرة ــ أبدا ــ لقوة الباطل العسكرية والعلمية ، بل ولا لقوة مكرهم وخداعهم وتضليلهم . لأنهم لامولى لهم ، وأمام كل هذه القدرات الهائلة التي يملكها أعداء الله يصمدُ أولياءُ الله ، وتصمد الأمةُ المسلمة ، ويزداد المجاهدون إيمانا بحتمية النصر ــ بمشيئة الله ــ فلا خوف من قوة الباطل : ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيمانا ، وقالوا : حسبنا اللهُ ونعمَ الوكيلُ ... ) . لأن أصحابَ هذا المشهد زكُّوا أنفسَهم ، وارتقوا بإيمانهم وتقواهم على مدارج الملأ الأعلى ، فهم المفلحون بتوفيق الله . وليس ذلك لغيرِهم . يقول تبارك وتعالى : ( قد أفلح مَنْ زكَّاها ، وقد خاب من دسَّاها ) ، وأولئك هم أهلُ البشارة الربانية : ( يبشرهم ربُّهم برحمةٍ منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إنَّ اللهَ عنده أجرٌ عظيم ) 22/سورة التوبة .

ففي هذه الدنيا توجد بيئتان : بيئة المؤمنين بالله ، وبيئة الكافرين به ، ولا بد من فراق أهلِ  هاتين البيئتين لهذه الحياة الدنيا ، ولكنَّ الفرقَ كبيرٌ بين المصير الأبدي لكل منهما يوم القيامة . عن أنس رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مَنْ فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لاشريك له ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ... فارقها والله عنه راضٍ ) رواه ابن ماجة والحاكم وقال : صحيح على شرط البخاري ومسلم . وإن رضوان الله هو باب عفوِه رحمته وجنَّتِه للمخلصين في عباداتهم وطاعاتهم، عن ثوبان رضي الله عنه قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( طوبى للمخلصين أولئك مصابيحُ الهدى ، تنجلي عنهم كلُّ فتنةٍ ظلماء ) رواه البيهقي ، وهذا لأهل البيئة الأولى . وأما أهل البيئة الثانية فليس لهم ذلك . وإنما لهم سخط الله وعذابُه الذي وُعدوا به ، لهم جهنم التي : ( وقودها الناس والحجارة ... ) تلك النار التي يقول عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( أُوقِدَ عليها ألفَ عام حتى احمرَّتْ ، وألفَ عامٍ حتى ابيضَّتْ ، وألفَ عامٍ حتى اسودَّتْ ، فهي سوداءُ مظلمةٌ لايُطفَى لهيبُها ) .

فأهل الأرض اليوم بحاجة إلى مراجعة ، وبحاجة إلى كسر سجون الأهواء والمصالح الذاتية ، بحاجة إلى الخروج من ظلمات هذه المآزق العالمية والأخطار المحدقة ، والتي كانت نتيجة طبيعية لمخالفة فطرة الله التي فطر الناس عليها . ولقد علمنا الفرق الكبير بين بيئة الخير ، وبيئة الشَّرِّ المناوئة لفطرة الله ومنهجه القويم وصراطه المستقيم . الناس اليوم بحاجة إلى أن يستحوا من خالقهم الذي وهبهم القلوب والأسماع والأبصار ، ليعوا سبب وجودهم في الحياة ، ولينصروا أنفسهم على الأهواء والوساوس الشيطانية ، كي تبقى النفس منتصرة بفطرتها وسلوكها النظيف ، ولتميز بين الحق والباطل ، وبين الجيد والرديءِ ، ولكي تحرر الوجدان من سطوة الهوى والخوف ، وتسمو به إلى مثالية الرشد ، لعلها تدرك أهل المفازة يوم العرض على الله سبحانه وتعالى . إنَّ المؤثرات على أهل البيئتين عديدة وشديدة ، وقد تجتاح حصنَ العقل ، وقد تداهم ردهات القلب ، وتؤثر في الحسِّ الإنساني ، فتسوق تلقائيته بعنف نحو الحق والخير ، وقد تجره بنفس القوة إلى نحو  الكفر والشَّرِّ والأذى . .. أي نحو التغيير وهيهات : ( إنَّ الله لايغيرُ مابقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسِهم ) ، ولو تمَّ التغيير إلى جانب الحق والخير فإن الإنسان يخرج مما هو فيه إلى أنوار الحقيقة التي تدله على أسباب وجوده في هذه الحياة ، يقول المولى تبارك وتعالى : ( وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون ... ) 56/الذاريات . وهنا تأبى عليه نفسُه الانصياع لبهرج مهما كان صوتُه عاليا وحليتُه موشاة بالزخرف واللجين ، بل إنه ليجدُ المتعةَ  الفريدة ــ التي كان مغيَّبُا عنها ــ في دخوله رحاب اليقين بأن الله مولاه وأن محمَّدًا صلى الله عليه وسلم نبيَّه ، وأن الإسلام دينه ، وأن منهج الله ــ هو وحده ــ المرجع النافع للبشرية أفرادا ومجتمعاتٍ وأمما . وأنه الدواء الناجع الذي يقضي على هذا الصداع المتمكن من الأفراد والشعوب على حدٍّ سواء  ، يقضي على أسباب الصداع بشكل جذري ، فليس هو من المهدئات ، ولا هو من الصرعات والموضات ، بل إنه ليس من صناعة البشر ، وإنما هو دين الله الذ   ي ارتضاه للخلق ( إنَّ الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) وهو وحي الله ورحمته لخلقه أجمعين ، والإسلام يصون الفرد ويرقى ببشريته على الاستقامة مدة عمره ، ويكون من أهل الحظوة في قبره إذا مات ، ومن أهل الأمن إذا بُعث ، ومن أهل النجاة يوم الحساب ، ويكون أهلا للنظر إلى وجه الله تبارك وتعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه . فعن صهيب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل أهلُ الجنة الجنَّةَ . يقول الله تبارك وتعالى : هل تريدون شيئا أزيدُكم ؟ فيقولون : ألم تبيِّضْ وجوهنا ، ألم تدخلْنا الجنَّةَ وتنجِّنا من النار . قال : فيُكشَفُ الحجابُ فما أُعطوا شيئا أحبَّ إليهم من النظرِ إلى وجهِ ربِّهم . ثمَّ تلا هذه الآية : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) رواه البخاري ومسلم .وكذلك  يصون الأمة من الانحدار والتفرقة ، ويمنحها الخيرية والقوة الفاعلة ، وينجيها من كل صداع يجلب لها الضعف والوهن ، ويجعل لها مخرجا من الأزمات ، كهذه المهالك والأزمات التي تمرُّ بالبشرية اليوم لبعدها عن ربها ومجافاتها لقرآنه وسُنَّةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، ولم يجد المتنفذين خداعُهم وأباطيلهم ، وقد زال الانبهار بالحضارة الآسنة الكافرة ، ولعل البشرية تصحو من نومها وسكرتها ، ولعلها ترفض بعد اليوم المسيرات التهريجية في شوارع التضليل المقيت ، بعد سقوط الشيوعية والرأسمالية والحداثة والعولمة التي تعرَّت تماما وخفت بريقُ سرابِها الخادع المقيت . أرادوها انقلابا على الفطرة ، وزينوها بالحلي وصبغوها بغير صبغة الله ، ولكنها ظهرت كعجوز شمطاء رعناء سافرة بلا حياء:

فإذا بها رُفضتْ لقبحِ مزاجِها

وبدا تولُّعُهم بها عن خدعةٍ

 

حتى من المستهترِ المتعنتِ

بيدَيْ نظامٍ ماجنٍ متعنتِ

وهكذا يبقى طريق خداعهم حرجا ، لأن الخطوات ضالة ومبعثرة ، ولأنها قائمة على أنقاض حضاراتٍ أخرجها شياطين الإنس باسم الفلسفات المتهافتة على مـرِّ الحقب في غفلة من الجماهير ، أو تحت سياط الظلم ، أو بالتزوير والخداع . والأمم بلا شك تنتظر المنقذ وترنو بعَيْنَيْ فطرتها إلى الأفق ... تبحث عن أمنها وسعادتها وعن لقمة عيشها على أقل تقدير . وهذا المنقذ القادم ، هذا الغائب الحاضر هو دين الله تبارك وتعالى ، هو الإسلام يعود بخيره وأمنه وبشاراته تحت رايات الأيدي الطاهرة التي مابرحت تتوضأ في جوف الليل وترفع دعاءَها إلى الله تسأله اللطف والعفو والفتح المبين

إنها الخطوات المباركة التي يذكرها تاريخ الأرض المديد ، وتتألق بها ذاكرة الأزمان ، وأكرمها ديوان التوثيق الخالد لأن كل حقبها تخلو من الجور والظلم والفساد والاستكبار . إنها الخطوات التي يحنُّ أصحابُها إلى قداسة ساعة البداية الأولى لبدء الحياة على وجه الأرض ، الحياة المؤقتة التي يقتربون من خلالها إلى ساعة البداية للحياة الأبدية في جِوار الله رب العالمين . خطوات تكتب للأصفياء صياغتهم لمشاهد الرحلة ، يغذون بها السير حبا لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام ، وشوقا لساعة اللقاء ورؤية الله تبارك وتعالى ، وقد أعدوا العدة وبين أيديهم نور الله ، ووعده وتوفيقُه في رصيد من الطاعات والعبادات ، حيثُ أشغلوا ألسنتهم بذكر الله ، واهتزت أحناؤُهم بما وردها من الله رغم طول السُّرى أواخر الليالي المقمرات ، فهنيئا لأهل المشاهد الذين اتبعوا سُنَّةَ رسولهم صلى الله عليه وسلم في صلاتهم وصيامهم وزكاتهم وفي حجهم وفي يوم وقوفهم على عرفات الله.

وهل كانت الرسالات والنبوات إلا ليلتفت الناسُ إلى ما يحيي قلوبهم ويشد عزائمهم لينالوا ما أعد الله لهم من نعيم مقيم ، والتكاليف مدار اختبار للإنسان وللأمة ، وإذا صدق الإنسان وأخلص فإن الله يأخذ بيده إلى سواء السبيل ويجعل له الفرج والمخرج ، وأما إذا كفر وتنكَّر وظلم نفسه : ( فإن الله لايهدي مَنْ هو كاذبٌ كفَّار )2/الزمر  ، وكذلك الأمة إذا صدقت وأخلصت فإنها خيرُ أمة ولها النصر والتمكين والتأييد من الله ، وإذا ظلمت نفسها بالنأي عن شريعة ربها : ( الله لايهدي القوم الظالمين ) 258/البقرة . والحق أن يُقامَ شرعُ الله في الأرض ، وأن يشرع الناس في تطبيق وإنجاز التكاليف التي جاءت في دين الله ، وهذه المبادرة دليل على استجابتهم لنداء الرسل عليهم الصلاة والسلام يقوا الله تعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ... ) 25/الحديد فالفرد لايستقيم أمرُه إلا بهذا الدين ، ومجتمع الأمة لايسعد إلا بهذا المنهج مهما امتدت مساحات وجوده على الأرض . والفرد الذي وعى معنى البشارة والنذارة الذي جاءت به الأنبياء يعيش ذا عزة بالله ، وذا تواضع له سبحانه فلا يظلم ولا يخدع ولا يعتدي . ويعيش بهذا المعنى بحيويته ونشاطه وقوته وبأمله الذي لايطويه اليأس أبدا . وكذلك مجتمع الأمة يعرف الحقوق والواجبات ، ويدرك أهمية الانقياد لله والطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم ، إذ أقبل على دين الله مؤمنا مختارا : ( لاإكراه في الدين قد تبيَّن الرشدُ من الغي ... ) 256/البقرة .

في هذا اليوم المبارك ، يرجو المسلمون ربَّهم ويبتهلون إليه بالدعاء وقد أحسنوا به الظنَّ ــ جلَّ وعلا ــ في عرفات الله ، وفي كل أرض تُولَّى الوجوه منها إلى بيت الله الحرام ، فللأمة البشرى بهجرتها من المعاصي إلى التوبة ، وبصبرها وجهادها في سبيل الله يقول الله تبارك وتعالى : ( إنَّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أُولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم ) 218/البقرة . ويقول عليه الصلاة والسلام : ( أنا عند ظنِّ عبدي بي ، وأنا معه حيثُ يذكرني ) رواه أبوهريرة رضي الله عنه .