التمكين في ظلال العبودية

أ.د. محمد سعيد حوى

خطبة الجمعة 27 شعبان/ 1437هـ

3/ 6/ 2016م

الخطبة الثانية: "أبواب الخير"

يقبل شهر الخير والإحسان والجود.

شهر التوبة والنفحات والرحمات والروح.                                           

شهر الإقبال على الله والجهاد والإعداد. شهر الفقراء والمساكين.

شهر الثورة على الشهوات والشبهات. شهر المساجد والملائكة، والقيام، والصدقات، وصلة الأرحام.

شهر الاتقاء والارتقاء والنقاء والصفاء. يقبل الشهر الكريم هذا في وقت تتطلع الأمة فيه إلى التمكين والاستخلاف والأمن. ولذلك يتساءل المؤمنون كيف يكون لنا الاستخلاف والتمكين والأمن في الأرض؟ إن كل ذلك بسر كلمة واحدة (يعبدونني). هكذا أخبرنا ربنا، قال تعالى ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].

العبودية الشاملة طريق التمكين: أي إنه يجب علينا أن نتحقق بالعبودية في كل لحظة وفي كل أمر وفي كل شأن وفي كل فكرة، نعم ففي كل شأن وأمر وفكرة طاعة وانقياد وخضوع؛ حباً ورضاً وتعظيماً لله. إذاً؛ (تعبدونني) ليس المقصود العبادة بمعناها الخاص، فالعبادة بمعناها الخاص تستغرق جزءاً يسيراً من أوقاتنا، بينما المطلوب أن نكون في كل لحظة في عبادة، إذاً المقصود العبودية الشاملة، وعندما تتحقق الأمة بمعنى العبودية الشاملة يتحقق الأمن والاستخلاف والتمكين، ومفتاح التحقق   بالعبودية وتنوير القلب والعقل وتقويم السلوك هو العبادات الخاصة، فجاء بعد الآية السابقة: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النور: 56] بهذه الروحية وبهذه الفكرة وبهذه المنهجية؛ منهجية تحقيق العبودية لله نستقبل شهر رمضان المبارك.

لتحقيق ذلك: نستقبله بالتوبة («إن الله ليعجب من العبد إذا قال: لا إله إلا أنت إني قد ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت قال: عبدي عرف أن له ربا يغفر ويعاقب») ابن السني، عن علي، صحيح، 804.

واجبنا تجاه القرآن في رمضان: وتحقيقاً لمعنى العبودية لا بد أن يكون فيه للقرآن نصيبه الأعظم، كيف وقد قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]. أي أنزل فيه القرآن ليكون هداية للناس وفي هذا القرآن بينات أي معجزات وبراهين على صدقه وأحقيته ودليل صحة توجيهه، تقود هذه البينات والمعجزات أيضا إلى الهداية والفرقان بين الحق والباطل، لذلك عندما تحققت الأمة بالقرآن كان الفرقان أي بدر.

 ونقبل على القرآن لأنه غذاء الروح، وهو الروح، ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾ [الشورى: 52] ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ﴾ [الشعراء: 193] إذاً لتحيا به الروح.

أركان عمل المؤمن في رمضان:

ومن هنا نستطيع أن نقول أن أركان عمل المؤمن في رمضان:

1-             القيام بحق القرآن.

2-             العلم وخاصة ما يتعلق بمدارسة كتاب الله.

3-             مجالسة الصالحين.

4-             الجــــــــــــــــــود (جودٌ بالعطاء والكلمة والخلق).

نستمد ذلك من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ») صحيح البخاري، 6 .

رسالة المسجد وإحياء اللــيــل:

كما نستقبله بروحية الإقبال على العبادة ليزداد القلب نوراً لنتحقق بالعبودية فنقبل على المساجد وإحياء رسالتها، والحفاظ على الجماعة فيها، كما نقبل على قيام الليل، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ») صحيح البخاري، 2009 .

ولتحقيق العبودية نسعى لتصحيح السلوكيات:

 (عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ") صحيح البخاري، 1904 . (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ») صحيح البخاري، 1903. (عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ".. وَأَمَرَكُمْ بِالصِّيَامِ، وَمَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِي عِصَابَةٍ مَعَهُ صُرَّةُ مِسْكٍ فَكُلُّهُمْ يُحِبُّ أَنْ يَجِدَ رِيحَهَا، وَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ عِنْدَ اللَّهِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ..") أحمد، والترمذي.

فالمطلوب أن تكون مسكاً بأخلاقك وكلامك وعلاقاتك. ونبتعد عن المزاجية السلبية والعصبية، ولا نحمِّل ذلك للصوم، ونبتعد عن الجشع وغلاء الأسعار، ولا نحوِّل بيوتنا وأوقاتنا وليالينا إلى مطاعم لتصبح شغلنا الشاغل، ونزداد همة ونشاط لا نقع في الكسل كما قد يفعل البعض بحجة الصوم فهذا يتنافى مع حقيقة مدرسة الصوم، ونبرمج لصلة الارحام. ولنجعل من رمضان مدرسة في التغيير الإيجابي فإذا ما رأيت عندك عادة سلبية ففرصة في رمضان للتغيير لأن الصوم يقوم على الضبط والمراقبة والصبر والإرادة.

الخطبة الثانية:

أبواب الخير

نستقبل هذا الشهر بحديث عظيم ليكون بمثابة برنامج عملي، (قال مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ (انظر اهتمامات الصحابة). قَالَ: " لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ (لاحظ طريقة النبي في التوجيه)، تَعْبُدُ اللهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ " ثُمَّ قَالَ: " أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ " ثُمَّ قَرَأَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] ، حَتَّى بَلَغَ، {يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] ثُمَّ قَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: " رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ " ثُمَّ قَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ " فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللهِ. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، فَقَالَ: " كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا " فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: " ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ،  أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ، إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟ ") مسند أحمد، 22016.