في مواجهة الواقع الأليم

أ.د. محمد سعيد حوى

خطبة الجمعة 4/ 11/ 2016م

4 صَـفـر/ 1438هـ

"في مواجهة الواقع الأليم" - أ.د. محمد سعيد حوى

________________

الخطبة الثانية: "منــهــج الاستغفــــــار"

مواقف الناس أمام الواقع:

  في خضم الصراعات والتحديات والفتن والمآسي والآلام، كيف يمكن لنا أن نتعرف إلى الحق ونثبت على الحق ونعمل بالحق؟

كيف لنا أنْ نحقق السكينة والطمأنينة  والراحة والسعادة؟

أمام شدة ضغظ الواقع ومشكلاته وآلامه هنالك مَـن يواجه ذلك بالانحراف والتبديل والتغيير.

وهنالك من يتعامل مع ذلك بالتشكيك والاتهام، ويفقد الثقة حتى بالله، ويفقد الثقة بدينه ومنهجه.

وهنالك من ينهار ويستسلم أمام الواقع ويخضع لعدوه أو شهواته.

وهنالك من يقع في التيه والضياع.

فأمام ضغط الواقع والتحديات والآلام والابتلاءات وجدنا من يتنازل أو يحرف تعاليم الإسلام فيجعله أجزاء متفرقة، وهنالك من يدعو إلى المراجعة والمحاسبة، وأمام المراجعة والمحاسبة يصبح شاكاً في منهجه أنه ليس صواباً، وهنالك من يفقد الرسالة والدور والمبدأ والقيم، كما أن هنالك من يعيش حالة القلق وعدم الاستقرار؛ لذلك نقول: كيف نواجه كل ذلك؟؟

منهج المعالجة:

   إنَّـــه الإيمــــــــان، الإيمان بالله الذي يجعلنا نزداد ثقةً به وتسليماً  بقضائه ورضا عنه، وقياماً بحق العبودية شكراً، ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]

عَنْ زِيَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ المُغِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ - أَوْ سَاقَاهُ - فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ: «أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» متفق عليه، واللفظ للبخاري.

 فقد كان أخص صفات المؤمنين ﴿ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ ﴾ [المائدة: 119]

﴿ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: 8]، فكيف يتحقق هذا الرضا؟

توجيهٌ نبوي عظيم:

نقف مع الحديث الشريف عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» صحيح مسلم؛ فالرضا عن الله هو رضا عن أفعاله وأقداره، والرضا عن الإسلام هو رضا عن تشريعات الله، والرضا عن رسوله التزامُ هديه وسنته ﷺ والتلقي عنه فهو الطريق الوحيد إلى الله ﷻ، هنا تبدأ محاسبتك لنفسك.

عندما يقع القدر أو أمر أو حدثُ في الكون خاص أو عام، وهو لا يخرج عن علم الله وإرادته وقدرته، كيف يكون موقفك وقلبك؟؟

فمن هنا تعلم كم أنت راضٍ عن الله.

وعندما يأتيك التكليف الإلهي، كم تتقبل ذلك بصدرٍ رحب وتسليم وطاعة؟؟

فهنا يتبين كم أنت راضٍ عن الإسلام ومن ثم عن الله.

وحتى تتعرف إلى مراد الله ليس لك طريقٌ إلا رسول الله ﷺ فهل تقبل لنفسك قدوةً غير رسول الله ﷺ؟؟

فمن هنا يتبين لك كم أنت متحقق بحقائق الإيمان.

عندما تحقق ذلك من نفسك (ترضى عن أفعال الله، وتشريعاته، ولا تتلقى إلا عن رسول الله) عندها يرتقي إيمانك وتكون ممن ذاق طعم الإيمان؛ فتستطيع مواجهة الحياة بكل تقلباتها وآلامها وهمومها، وبسكينة وسعادة وقوة وثبات.

موقف المؤمنين:

وكلما كنت كذلك ازددتَ رضا عن الله، وكلما ازددت رضا عن الله ازددت إيماناً؛ وعندئذٍ تفهم عن الله أحكامه وحِكَـمه وأفعاله وأقداره، حتى تذوق الإيمان حقيقةً كأنَّـها أمرٌ حسي له حلاوته، كما قال في ﷺ الحديث الآخر: " ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ " متفق عليه، عن أنس.

، فمما يعينك على التحقق بالإيمان والارتقاء حب الله ورسوله، والإخاء، وكراهة الكفر وأفعال الكفر.

هنا يستقبل المؤمن كل قضايا الوجود بثباتٍ وطمأنينة، مع كونه يعلم أنَّ كل ما يحدث في هذا الكون وفق سنن الله، وهو في ذلك يبحث عن تكليف الله له وواجبه في كل ذلك، وهذا طريقه منهج الذكر والتسبيح والتعظيم لله؛ ليتحقق الرضا، كما في قوله تعالى: ﴿فاصبر على ما يقولون وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾ [طه: 130].

بعض مواقف الغافلين:

  فأولئك الذين رأوا أنْ أمَد الاحتلال طالَ فأرادوا أن يقدموا تنازلات؛ انهياراً أمام الواقع، سيأتي يوم يندمون فيه، ويتمنون أنْ لو لم يبدلوا ويغيروا؛ لأن كل مكاسب الدنيا تافهة.

 و أولئك الذين أرادوا أن يتنازلوا عن مفاهيم الإسلام من حيث شموليته وعدالته ووجوب العمل به كلياً؛ إرضاءً لجهات أو استبطاءً لنصرٍ سيأتي يوم ويندمون أيضاً.

كما أنَّ هؤلاء الذين يجرمون في حق الأمة ويتسببون في دمارها، ويدَّعون أنهم يمثلون دولة إسلام هم كذبة مارقون، قتلة منحرفون، سيلاقون مصيرهم وجزاءهم في الدنيا والآخرة ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً، ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ﴾ [الكهف:103- 106]، فيعمدون إلى تكفير الناس وإلى احتكار الحقيقة، وإلى التسبب في تدمير الأمة.

موقف المؤمن في الشدائد:

 والمراد من كل هذا أنَّ من أخص صفات المؤمنين قوله تعالى: ﴿ مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾ [الأحزاب: 23].

وفي المحن والشدائد تظهر حقائق المؤمنين؛ لذلك قال تعالى: ﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 3].

 ﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ المُنَافِقِينَ ﴾ [العنكبوت: 11].

ولنا في الأنبياء قدوة:

 انظروا إلى ثبات الأنبياء، فعندما يقص الله علينا قصة نوح (950 سنة) فلم يقل طال الأمدُ فلأراجع منهجهي أو أتنازل عن قيمي أو ليقع شكٌ.

وعندما اشتدت الابتلاءات على يوسف عليه السلام ما ازداد إلا يقيناً بالله.

وعندما ابتلي إبراهيم ابتلاءات عدة قامَ بحقها جميعاً، قال الله في حقه: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124].

وعندما اشتد الحصار على أصحاب النبي ثلاث سنوات، أو اشتد الحصار في الخندق ما ازدادوا إلا إيماناً ويقيناً، بينما ماذا كان حال المنافقين؟؟ كان حالهم الشك بالله وسوء الظن بالله، ﴿ إِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 49].

﴿ وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾ [الأحزاب: 12].

نعم للمحاسبة مع الثبات على المبدأ:

 من هنا نؤكد كيف يكون منهج مواجهة التحدي، والتعامل مع الواقع من غير تغيير ولا تبديل، فنقرر أنَّـه لا بدَّ من مراجعة الأخطاء والمحاسبة على وجود التقصير، لكن لا يكون شكاً بالمنهج ذاته، ولا تخلياً عنه ﴿ أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 165].

قد تتخذ مواقف استثنائية وتكتيكية ومرحلية، لكن لا تنسبها إلى الإسلام، ... قل هي اجتهادك، ولا تدعي أنَّـها الحق المطلق.

هنا يتجلى موقف العالِـم والمؤمن الحق كيف يتعامل مع الواقع من غير تبديل ولا تغيير، وكيف يفهم سنن الله في الكون ويتعامل معه، كلّـه في ظلال الإيمـــان.