ليكون لحياتنا معنىً وحقيقة

أ.د. محمد سعيد حوى

خطبة الجمعة 17/ 2/ 2016م                            20 جمادى الأولى/ 1438هـ

الله تعالى يقول: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83]

﴿ وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]

نتساءل كيف يكون لحياتنا معنى وحقيقة وكيف نحقق السعادة في هذه الحياة؟

وقد قال أهل العلم:

( لا تستغرب وقوع الأكدار ما دمت في هذه الدار؛ فإنَّـها ما أبرزت إلا ماهو مستحق وصفها).

موقف أهل الدنيا:

نظر الدنيويون والماديون إلى الدنيا فظنوها كل شيء ، ونهاية كل شيء، ولا شيء بعد هذه الحياة؛ فلم يعملوا إلا لأجلها، ورأوا أن المنطق العقلي يقتضي أن تعيش متلذذا متنعماً مستمتعاً بكل شيء، لا تحرم شيئاً، ولا تحرم نفسك من شيء، وكل ما يصل إلى يدك  فهو لك، وابذل كل وقتك وعقلك وقوتك وطاقتك  لأجل هذه الدنيا، فهي حياتك، ونهايتك، ولكن النتيجة أن هذا جعل الصراع أشد؛ إذ اصطدمت مصالح البشر، ولم يحقق الأكثرون أكثر ما يريدون من متع، ومن ثم لم يحققوا سعادة، ووصفهم الله بقوله: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [الروم: 7]

ووصفهم ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ﴾ [محمد: 12].

﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾ [الجاثية: 24]

فأي حياة لإنسان - مهما تنعم أو استكبر أو استلذ أو طالت ثم هو لا هدف حقيقي إلا الاستكبار أو المتعة الفانية – فأي حياة ومصيره إلى نار تلظى خالدة؟؟؟

وقال تعالى: (إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى) طه 74.

فنجد سياستهم قامت على المصالح، والمادة، وكل ما يقتضيه ذلك من خداع وقتل، فأنى يلتقي مع منهج الإيمان؟

وكان من أثار ذلك أنْ يصبح الهوى مصدر التشريع؛ ليرضي مصالحهم وأهواءهم.

موقف أهل الإيمان:

أهل الإيمان علموا أن الدنيا إنما هي ممر، ومزرعة للآخرة ، ودار ابتلاء وتكليف، وعمل واجتهاد، لا دار جزاء، ويعمل الإنسان فيها، لا لأجلها، يعمل فيها لأجل الآخرة لأجل رضوان الله ﷻ، لأجل الخلود السعيد الأبدي النعيم المقيم، ومن ثم فإن الإنسان إنما وجد فيها مستخلفاً من الله ليعمرها بمراد الله ﴿ الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ ﴾ [الملك: 2] .

ولذلك كان في المنهج الإسلامي ما جاء في الحديث: (خير الناس من طال عمره وحسُــنَ عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله).

ولذا كان التوجيه النبوي لا يتمنين أحدٌ الموتَ لضرٍ نزلَ به ... .

فكان من شأن المؤمن التلقي عن الله منهج الحياة ومنهج الحلال والحرام، وما يجوز وما لا يجوز ، وكيف يسعى في الدنيا ليعمر آخرته، فهو في عبادة في كل أحواله، ولم يعمل للدنيا لذاتها وإن عاش فيها ، وإلا لو عمل للدنيا لذاتها وهي الفانية فماذا سيأخذ إلى قبره، أو ماذا سيأخذ بعد مماته، فهو لم يعتزل الدنيا ولم يتركها، ولم يتخل عن واجباته فيها؛ ولكنَّـه قامَ بأمر الله فيها، وعندها يكون قد عمل الصالحات فيكون كما قال تعالى:

 ﴿ وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَى ﴾ [طه: -75]. وكما قال تعالى: ﴿ وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]. فالمتعة الدنيوية عند المؤمن إنما تكون بما أباحه الله وأذن به، فعندما يتناول هذه المتعة بهذا المفهوم هو في عبادة، واجتهاده في بناء المصانع والتجارات ملتزماً فيه الحلال والحرام مستحضراً نية صحيحة مسخراً قوته لنصرة دين الله مكثراً من الأعمال الصالحة فهو مخلد أعماله عند الله سبحانه وتعالى، وهنا تكمن السعادة الحقيقة وتكمن معنى الحياة،  وهو إن أحب الحياة فلأنها مزرعة للآخرة، فهو يجتهد فيه بصدق وحب لأنها طريق الآخرة الخالد، وما أحرانا أن نفكر بذلك دائماً وملياً.

﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7-8]

(إنّا نحن نحي الموتى ونكتب ماقدموا وآثارهم، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) [يس: 26-27].

إذن حال الإنسان كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً، وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً، وَيَصْلَى سَعِيراً، إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً، إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ، بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً ﴾ [الانشقاق:6- 15].

لذلك فمنهج المؤمن في هذه الحياة حرص على العمل الصالح والإخلاص فيه لله وتحري الحلال ونصرة الحق ورفض الظلم ودقة الموازين واتقان العمل وهو مستعد في ذلك لكل معاني التضحية والشهادة والعطاء لما يعلم عند الله من العطاء الأعظم الخالد، وأن هذه الدنيا فناء وانقضاء.

لا شيخوخة ولا استقالة ولا تقاعد ولا فراغ:

لذا فالمؤمن لا يعرف شيئاً اسمه أمراض الشيخوخة من عزلة وقلق أو استقالة ولا تقاعد، فهو في عبادة طيلة حياته، يستثمر عند الله كل لحظة، ولا نقصد بالعبادة هنا فقط الصلاة ونحوها ، بل كل عمل صالح خيّـر، وما فيه نفع الناس.

موازين أهل الدنيا والآخرة:

إن قيم العدل والحقوق والصبر والتضحية والحلال والحرام  والعطاء مكلفة جداً؛ فإذا جئت تقيمها بموازين الدنيا فأنت خاسر، وإذا جئت تقيمها بموازين الآخرة فأنت في قمة السعادة والفوز؛ لذا لا تستغرب أن يُمنح بعض الكافرين علواً واستكباراً وتمكناً وسعة في الدنيا لأنهم إنما عملوا لها ولها فقط، وتعاملوا معها أنها خلودهم الخالص، وسمح الله بذلك لأن الشأن كما قال ﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَادُ ﴾ [آل عمران: 196-197].

الأخذ بالأسباب والسنن:

ولكن هذا لا يعفي المؤمن من الأخذ بالأسباب والاجتهاد لنصرة دين الله وإعلاء كلمة الحق والأخذ بالأسباب لأنه يجب أن نعمر الدنيا بمراد الله لأجل الآخرة لا أن نتخلى.

لذلك فأحوال المسلمين اليوم لا تسر من حيث أخذهم بسنن الله في النصر وواجبهم تجاه نصرة دين الله، ولا نريد أن نخوض في التفاصيل، ولكن نأخذ بعض الجوانب:

 فنجد بعض رموز العالم الإسلامي مشغولة بقضايا جزئية أو شُغِلت بها، ولم يكن لها حضور في القضايا الكبرى، فبينما نجد رموزاً دينية غربية[بقطع النظر عن مواقف أخرى، وحقيقة الموقف] نجده يتحدث عن ما يتعرض له المسلمون في ميانمار ويقول:( إنهم ليسوا مسيحيين ولكنهم أناس جيدون)، ويقول:(أخوتنا وأخواتنا من الروهينغيا، يلاحقون من قبل ميانمار، وتعرضوا للتعذيب والقتل لمجرد أنهم يريدون الحفاظ على الإسلام ديناً)، وتجده ينتقد بشدة فكرة بناء الأسوار التي طرحها ترمب، هنا نتساءل (وبقطع النظر عن حقيقة المواقف القلبية)  ما الذي يجعل رموزاً دينية غير مسلمة تتكلم في الشأن الإنساني بينما من نظنه رموزاً دينية في عالم الإسلامي العربي تصمت صمت القبور وتنشغل في الجزئيات؟! بل وتدافع عن الظالم وتزين له كذلك الذي أخذ يروج حديثا مستنكراً  عن الجند الغربي ليتملق؟؟؟؟

وفي الوقت الذي نجد أن رموزاً دينية في الغرب وسياسية تعلي من شان الدين بقطع النظر عن صحته بالنسبة لنا  نجد سياسيين ينتسبون إلى الإسلام يصرحون سنطرد من الجيش كل من له توجه ديني، متناسياً أن التدين هو الصفة الطبيعية والفطرية لكل أبناء شعبه، هو لم يقل سنطرد كل من يحمل توجه سياسي، هذا أنموذج لحال بعض ما يعيشه المسلمون من أحوال، قد تفسر لنا جزئياً لماذا وصل المسلمون إلى ما وصلوا إليه.

شعر:

إذا الإيمان ضاع فلا أمانَ *** ولا دنيا لمن لم يحي دينَا

ومَن رَضِيَ الحياة بغير دِين *** فقد جعل الفناء لها قرينَا

عندما نجد في الغرب أن الصحف تفضح وبشدة مرشحاً للرئاسة بسبب رواتب وهمية وأن مسؤولاً يستقيل لشبهة في تصريحاته وعلاقاته وأن القضاء يسقط قرار رئيس أكبر دولة لصالح موقف إنساني وينتصر للإنسانية بينما نجد في عالمنا الإسلامي  لا يمكن المحاسبة ولا يمكن تقرير حرية ونزاهة القضاء المطلق،  ولا يوجد معنى للانتصار للمشكلات الإنسانية فقد نعلم من وراء ذلك جزئياً لماذا تقدم الآخرون وتخلفنا؟.

وأيضاً التقدم المدني له أسبابه من العلم والعدل والنزاهة والإنسانية والحق، ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب بعيداً عن المحسوبيات فإذا لم يتحقق ذلك نعلم جزئياً لماذا نحن فيما نحن فيه؟

إن الدنيا لا تمنح على أساس الدين وحسب، بل لها سنن وموازين وما لم نأخذ بهذه الموازين والسنن فنحن محاسبون في الدنيا والآخرة، في الدنيا بأن نبقى متخلفين وتنزل بنا المصائب، وفي الآخرة نحاسب أننا قصرنا في واجباتنا بالقيام بما أمر الله سبحانه وتعالى.

ومن هنا كان درس أحد وحنين لما وقعت المخالفة وقعت العقوبة، لكن الصحابة استدركوا سريعا، فمتى نستدرك؟