الورع البارد والغزل

حسن فرحات

نشر أحد أصحابي قصيدة له متغزلاً، وباعتباره من المحسوبين على الشيوخ، أرسل إليه أحد هؤلاء الشيوخ عتاباً قاسياً عنيفاً، كيف يتغزل وهو من المتدينين، واحتدّ بينهما الحوار، وكنت أقرأ ما يكتبان، ويرد أحدهما على الآخر، ولا أعلِّق أو أكتب أي شيء، فاتصل بي صاحب القصيدة يستنجد بي، فكتبت هذا الرد عليه ونشرته على صفحتي وصفحته، وعندها جاء العتاب لي من بعض أصحابي وأقاربي أنني أسرفت في الكلام، لأن ما كتبته معروض على الناس: كبيرهم وصغيرهم، ورجالهم ونسائهم، فقلت له: عندما أنشد حسان بن ثابت هذه القصيدة أنشدها على الملأ، فسمعها الكبير والصغير، والنساء والرجال، والأدهى من ذلك أننا إذا قرأناها الآن أكثرنا قد يفهم بعضها، ولكنه لن يفهمها جميعهاً، وكلٌ يفهم منها قدر ثقافته، بينما في زمن حسان رضي الله عنها كان يفهمها الجميع، ولم يقل أحد لحسان أسرفت، أو خرجت عن المألوف، أو تماديت في الكلام الباطل، ولذلك رددت على أخينا الشيخ بهذه الكلمات:

لم أقرأ عن قضية الإسلام والشعر إلا في كتب المحدثين (بفتح الدال وتخفيفها)، والقدماء كانوا ينظرون إلى الشعر من خلال قصيدة أو بيت أو جملة في بيت ويعلقون عليه مدحاً أو ذماً.

ففي السيرة النبوية نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام: يقول عن أمية بن أبي الصلت: آمن لسانه، وكفر قلبه، ويقول لحسان بن ثابت: اهجهم وروح القدس معك، وأهدر دم عدد من الشعراء الذين كانوا يعادون الإسلام، ويهجون النبي عليه الصلاة والسلام لأنه نبي، وليس لأنه محمد بن عبد الله.

ولو قرأنا شعر أمية بن أبي الصلت لوجدناه كله يتحدث عن الربوبية والألوهية، وينفر ويأنف، بل وينكر ويحارب عبادة الأصنام والشرك، ولكنه لم يؤمن بنبوة النبي عليه الصلاة والسلام.

ولو رجعنا إلى شعر حسان الذي كان يؤيد بروح القدس كما قال له النبي، لوجدناه شعراً أكثره الهجاء، وفيه من الشتائم المقذعة التي يخجل منها كثير من الناس، ولكن الله رحم أجيالنا بأنها تقرأ هذا الشعر ولا تفهم معناه.

وأذكر أنني منذ أكثر من ثلاثين عاماً كنت مدرساً، وكان لنا بعض الأمسيات مع أصدقاء مثلي مدرسين، وأكثرهم عندهم شهادات شرعية فوق ما أحمل من شهادة، فبعضهم كان من حملة (الماجستير)، وبعضهم من حملة (الدكتوراه)، وأحد المتظرفين منهم استشهد ببيت فيه غزل، والشاعر أبدع في تصوير ما يريد من غزله، فانتاب المشايخ الكبار، وأصحاب الشهادات العليا رِعدة، واستنكار، وثارت في نفوسهم حمية الدين، يدافعون عنه، ويشتمون الشاعر، والشعر، فسألني أحدهم: ما رأيك، وكان هذا السؤال لي لأنني أنا مدرس القرآن الوحيد فيهم، فقلت لهم بهدوء: لقد جاء الشاعر بصورة رائعة، وأبدع فيما صوّر، وأظهر ما يريد بأسلوب بياني من المستوى الرفيع، وإذ بالثورة تنقلب ضدي، وبدأ التحول من لوم ذلك المدرس والتطاول عليه إلى لومي أنا، وثارت فيهم نخوة المعتصم من نداء (الزبطرية).

وكان مديري في المدرسة متغيباً ذلك اليوم عن هذه السهرة، فشكوني إليه في اليوم التالي، وكان - رحمه الله – فقد علمت أنه توفي من زمن- كان أعمى، وكنت في مكتبة عامة فجاءني ليعاتبني ويقنعني في خطأ فهمي وكلامي ومعتقدي، فبعد أن تكلم ما يريد، لم أجدإلا أن أقرأ له شيئاً من الشعر، فأخذت من المكتبة ديوان حسان بن ثابت، وهو لا يعرف ماذا أحمل، وقلت له: سأقرأ عليك أبياتاً من الشعر، وبعدها أسمع رأيك، وأناقشك، فقال: حسناً، وبدأت أقرأ له مقدمة قصيدة حسان التي قالها في فتح مكة يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كانت القصيدة مملوءة بالمفردات التي لم نتعلمها أو نحفظها أو نعرفها، كنت كلما قرأت شطراً قرأت له شرحاً من كتب اللغويين، وكلما سمع شرحي يتعوذ بالله من هذا الفجور، ومن هذا الانحراف في الأخلاق، حتى قرأت مع الشرح نحواً من عشرة أبيات، قلت له: الآن ما رأيك بهذا الشعر؟ فقال: لا أدري كيف تعتبر نفسك مدرساً للقرآن، وأنت تقرأ مثل هذا الهذيان والفجور، أما تستحي من الله، أما تخافه، فتقرأ ما قاله الساقطون؟ فقلت: سامحك الله ياشيخ؟ لو صبرت قليلاً لعرفت أن قائل هذا الكلام حسان بن ثابت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، يوم فتح مكة، فقال: ولوْ، لقد تغير الزمان، وتغير الناس، وتغيرت الأخلاق، فقلت له: نعم كل هذا صحيح، ولكن في عهد النبي حدثت بعض الحوادث من الزنا، وكان هناك جلد ورجم، وما جاء حكم شرعي إلا وله تطبيق نبوي، فيقول دائماً: ولو، وخرج مسرعاً من المكتبة. فتذكرت أن شيخنا الدكتور محمد أديب الصالح عافاه الله، ومنحه الصحة والعافية وطول العمر، عندما كان يدرسنا في الجامعة إعجاز القرآن والبلاغةالنبوية، وعندما إلى ذكر بعض هذه الأوابد يقول: وهذا من الورع البارد، وتذكرت أن هذا الورع البارد أوصلنا إلى أن نقرأ القرآن ونهرب من تفسير آياته إلى البحث عن أحكامه، مع أنه تحدى الجاهليين ببيانه لا بأحكامه، وتحداهم ببلاغته لا بأحكام الجلد والرجم، بل صعقوا من بيانه، وأخرس كثيراً من ألسنتهم، حتى قال الشاعر لبيد رضي الله عنه، وهو صاحب آخر معلقة من المعلقات السبع، الذي لم يقل بعد الإسلام إلا بيتاً واحداً وهو:

الحمد الله إذ لم يأتني أجلي.... حتى كساني من الإسلام سربالا

قال لبيد لعمر بن الخطاب رضي الله عن الاثنين: لقد أخرستني سورة البقرة.

وتذكرت أن بعض المشايخ من أصحاب مذهب الورع البارد في بداية القرن العشرين عندما نشر معجماً صغيراً ليوزع على طلاب الأزهر قال: لم أفعل في هذا الكتاب إلا ترتيبه حسب حروف أوائل الكلمات، بعد أن كان مرتباً حسب أواخرها، ثم حذفت منه ما يؤذي مسامع النشء، سبحان الله يريدون من اللغة أن تصبح ورعة مثلهم، وبعيدة عن كل ما يؤذي مسامع نابتتنا لتكون النابتة صالحة، فانظر رعاك إلى الله كيف كانت النابتة، والأجيال التي تربت على هذا الورع البارد، لا تفهم ديناً، ولا تقيم خُلُقاً... وإلى لقاء.

وأما قصيدة حسان

هذه هديتي إلى أصحاب الورع البارد أبدؤها بنقل صغير عن الشيخ السفاريني الحنبلي، يستشهد بأبيات لقيس بن الملوح مجنون ليلى، وفيها البيت الذي ذكره أخي أبو همام، وأهمية هذا النقل أنه من كتاب غذاء الألباب للشيخ الحنبلي كما قلت، يقول رحمه الله في غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب: وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةِ مَجْنُونِ عَامِرٍ وَهُوَ قَيْسُ بْنُ الْمُلَوَّحِ الْمَذْكُورِ، تُوُفِّيَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَنَةَ سَبْعِينَ وَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ، وَهَذِهِ الْقَصِيدَةُ طَوِيلَةٌ جِدًّا وَفِيهَا يَقُولُ:

أَلَا أَيُّهَا الرَّكْبُ الْيَمَانُونَ عَرِّجُوا ... عَلَيْنَا فَقَدْ أَمْسَى هَوَانَا يَمَانِيَا

يَمِينًا إذَا كَانَتْ يَمِينًا فَإِنْ تَكُنْ ... شِمَالًا يُنَازِعُنِي الْهَوَى مِنْ شِمَالِيَا

أُصَلِّي فَلَا أَدْرِي إذَا مَا ذَكَرْتهَا ... أَثْنَتَيْنِ صَلَّيْت الضُّحَى أَمْ ثَمَانِيَا

أُرَانِي إذَا صَلَّيْت يَمَّمْت نَحْوَهَا ... بِوَجْهِي وَلَوْ كَانَ الْمُصَلَّى وَرَائِيَا

وَمَا بِي إشْرَاكٌ وَلَكِنَّ حُبَّهَا ... كَمِثْلِ الشَّجَا أَعْيَى الطَّبِيبَ الْمُدَاوِيَا

وَأَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الْبُيُوتِ لَعَلَّنِي ... أُحَدِّثُ عَنْك النَّفْسَ بِاللَّيْلِ خَالِيَا

خَلِيلَيَّ لَا وَاَللَّهِ لَا أَمْلِكُ الَّذِي ... قَضَى اللَّهُ فِي لَيْلَى وَلَا مَا قَضَى لِيَا

قَضَاهَا لِغَيْرِي وَابْتَلَانِي بِحُبِّهَا ... فَهَلَّا بِشَيْءٍ غَيْرِ لَيْلَى ابْتَلَانِيَا

وَلَوْ أَنَّ وَاشٍ بِالْيَمَامَةِ دَارُهُ ... وَدَارِي بِأَعْلَى حَضْرَمَوْتَ اهْتَدَى لِيَا

وَمَاذَا لَهُمْ لَا أَحْسَنَ اللَّهُ حَالَهُمْ ... مِنْ الْحَظِّ فِي تَصْرِيمِ لَيْلَى حِبَالِيَا

وأما قصيدة حسان بن ثابت التي ذكرت أنه قالها عقب غزوة بدر، فمقدمتها قول حسان رضي الله عنه:

تبلت فؤادك في المنام خريدة ....تسقي الضجيع ببارد بسام

تبلت فؤادك: أصابته بالمرض، وذهبت به بسبب الحب الذي ملكه، ولم يفلته، فأصابه شيء من البِلى (الاهتراء بالعامية)؛ لأن التبل هو الإفناء، وتبله الحب: أسقمه وأفسده، وأذهب عقله، خريدة: امرأة حسناء، ويقال عن اللؤلؤة التي لم تثقب وما تزال على هيئتها الأصيلة: خريدة، والمقصود هنا العذراء الحيية الخفرة، تسقي: السقي ما يقدم للشرب من ماء ولبن، وغيرهما، وقوله تَسقي بدلاً من:تُسقي لأن تسقي للشفتين، وتُسقي للماشية والأرض، وتسقي بالسين رواية إدى طبعات الديوان، وبعض كتب الأدب، وأكثر كتب الأدب روايتها بـ(تشفي) بالشين المثلثلة المعجمة، لا بالسين المهملة، أي أن ريقها يؤدي إلى شفاء مضاجعها، والضجيع: المضاجع الذي يضاجعها وينام معها، ببارد بسام: بريق من فم بارد جميل دائم الابتسام، ولذلك قال عنه بصيغة المبالغة بسّام، أي أصبح الابتسام ملازماً له، وقال الدماميني: تسقي الضجيع ريقَها بفمٍ باردٍ ريقُه.

كالمِسْكِ تَخْلِطُه بماءِ سَحابةٍ ... أو عاتقٍ كدَمِ الذَّبيحِ مُدَامِ

فهذا الريق فيه نفحة المسك، وكأنه خلط بماء المطر، فماء المطر يعتبر بكراً طاهراً، حتى أن النبي كان يقول عنه إنه لم يعرف المعاصي التي يقوم بها العباد العصاة، أو أن هذا الريق مخلوط من خمر معتقة قديمة، لونها لون الدم الذي يخرج من الذبح.

قال الجياني: والعاتقُ بالقاف الخمر القديمةُ، والمدامُ اسمٌ من أسماء الخمر.

نُفُجُ الحقيبة ِ بَوْصُها مُتَنَضِّدٌ... بلهاءُ، غيرُ وشيكة ِ الأقْسامِ

قال الجياني: نفج، من رواه بالجيم فمعناه مرتفعةٌ، ومن رواه بالحاء المهملة فمعناه متسعة الحقيبة، والأوَّل أحسنُ، والحقيبة ما يجعله الرَّاكب وراءه، فاستعاره هاهنا لردف المرأة، والبوص الرِّدف، ومتنضِّدٌ معناه علا بعضه بعضاً، من قولك نضدت المتاع، إذا جعلت بعضه فوق بعض. (وقوله) : بلهاء. معناه غافلة. ووشيكة سريعة، والأقسام جمع قسمٍ وهو اليمين، ومن قال الإقسام بكسر الهمزة فإنَّه أراد المصدر،

بنيتْ على قطنٍ أجمَّ كأنهُ... فُضُلاً إذا قعدَتْ، مَداكُ رُخامِ

هذا الأرداف كما قال الجياني: القطن: ما بين الوركين إلى بعض الظَّهر. (وقوله) : أجمُّ. معناه ممتلئٌ باللحم غائبُ. ولامداكُ الجرُ الَّذي يسحق عليه الطّيب، ومن لونها الأبيض الرائق، لم يقل كأنه الرخام، بل هو الرخام نفسه، وطيات أردافها وتنضدها كأنها (مداميك) الرخام.

وتكادُ تكسلُ أن تجيء فراشها...في لينِ خرعبة ٍ، وحسنِ قوامِ

والخرعبةُ اللينة الحسنةُ القوام، وأصل الخرعبة الغصن الناعم

أما النهارُ، فلا أفترُ ذكرها...والليلُ توزعني بها أحلامي

وقال ابن كثير في السيرة النبوية: قَالَ ابْن هِشَام: تركنَا فِي آخرهَا ثَلَاث أَبْيَاتٍ أَقْذَعَ فِيهَا.

ومع ذلك يجب أن نعلم أن الشعراء يتخذون الغزل طريقاً لإثبات أفكارهم، ولا يمكن أن يكون ما قاله الذين كانوا يعلموننا إن القصيدة الجاهلية اعتمدت على وحدة البيت صحيحاً، ولذلك كان الشاعر يتنقل من غرض إلى غرض في قصيدته كيف يشاء، وهذا إجحاف بحق الشاعر العربي، واعتباره لا يعرف أصول الكلام وترابطه، ولم يستطع النقاد خلال زمان طويل أن يربطوا بين موضوعات القصيدة، وذلك لأن القصائد كانت لا تصل كاملة، ولا مرتبة كما قالها صاحبها؛ لأن العمدة على النقل كانت هي الذاكرة، ولما بدأ تقييد الشعر وتسجيله، واكتشف النقاد قصائد جاءت كاملة ومرتبة، فاكتشفوا أنه ليس هناك أغراض متعددة في القصيدة الواحدة، إنما هو غرض واحد جاء متناسقاً ليثبت فيه الشاعر ما يريد، فمثلاً هذه قصيدة حسان التي ألقاها أمام النبي عليه الصلاة والسلام، وأخذ يتحدث عن صاحبته في أكثر من عشرة أبيات، وكلها تتحدث عن محبوبة أنالته ما يريد، وأرته لحظات نفسية رائعة حتى قال:

أقسمتُ أنساها، وأتركُ ذكرها...حتى تُغيَّبَ في الضّريحِ عظامي

فهو يقسم أنه لن ينساها حتى موته، وهو سيعصي لوامه فيها، ولن يردّ على عذاله، ويذكر حبيبته هذه أنها إن كذبته في مشاعرها وأحاسيسها، فهي ستنجو كما نجا الحارث بن هشام خائفة مذعورة تبحث عن مكان تختفي فيه من سيوف المسلمين في بدر، وكان الحارث بن هشام من مشركي قريشن وبدأ بهجاء الكفار وقد انتصر المسلمون عليهم، وبدأ حسان يسخر منهم، ويرينا فرحه بالنصر، وسخريته من المشركين كما فرح بلقاء ومعاشرة محبوبته، وسخريته من عذاله، وأنهم لن يقدروا على تحويله عن رأيه.

وانظر تغزله في في قصيدة له بعد غزوة أحد وما أصاب المسلمين فيها من آلام:

السيرة النبوية (4/ 98)

أشاقك من أم الوليد ربوع.... بلاقع ما من أهلن جميع

عفاهن صيفي الرياح وواكف ... من الدلو رجاف السحاب هموع

فلم يبق إلا موقد النار حوله...رواكد أمثال الحمام كنوع

فدع ذكر دار بددت بين أهلها...نوى لمتينات الحبال قطوع

وقل إن يكن يوم بأحد يعده...سفيه فإن الحق سوف يشيع

فانظر إلى هذا الجفاف والبكاء وخلاء الديار من أم الوليد، وكيف أن الريح مسحت حتى آثارها، والأمطار غسلت كل كل شيء فلم يبق إلا موقد النار، ومن حوله من الساكنين رواكد كانعين.

وأقف هنا لأني أطلت الكلام على هذه القصيدة، مع أنها من أجمل القصائد، وأقلها هجاء قبيحاً.

وأختم هنا بأبيات قليلة لحسان قالها من قصيدة قبل فتح مكة بقليل، وفيها من الغزل والإقذاع الشيء الكثير، وهي مشهورة ومطلعها:

عفتْ ذاتُ الأصابعِ فالجواءُ...إلى عذراءَ منزلها خلاءُ

وأما الأبيات التي أختم بها من هذه القصيدة قول حسان:

هجوتَ محمداً، فأجبتُ عنهُ،..وعندَ اللهِ في ذاكَ الجزاءُ

أتَهْجُوهُ، وَلَسْتَ لَهُ بكُفْءٍ،...فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُمَا الفِداءُ

هجوتَ مباركاً، براً، حنيفاً،...أمينَ اللهِ، شيمتهُ الوفاءُ

فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ،...ويمدحهُ، وينصرهُ سواءُ

فَإنّ أبي وَوَالِدَهُ وَعِرْضي...لعرضِ محمدٍ منكمْ وقاءُ

بعد جولة في معاني مفردات قصيدة حسان رضي الله عنه، أعود لأسبر شيئاً من أغوارها الاجتماعية والنفسية والتاريخية، فقد أستطيع الكشف عن شيء من جمالها، ومعرفة ما يحويه من زخم نفسي واجتماعي شعرنا القديم، ويظهر لنا مدى بُعدنا عن هذه اللغة الشريفة الكريمة الرائعة، فحسان تحدث هذا الحديث بعد الانتصار في غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية للهجرة النبوية، وغزوة بدر لم يكن لها إعداد لمعركة متوقعة، وإنما هي حملة صغيرة قام بها النبي ببعض أصحابه الذين يزيد عددهم عن الثلاثمائة قليلاً، يريدون اعتراض قافلة تجارية لأبي سفيان بن حرب كان قد عاد بها من بلاد الشام، وفيها من الخيرات الشيء الكثير، فنهض مع النبي هذا العدد القليل؛ لأنه لم يقصد حرباً، ولا جمع له، وهنا تكمن فكرة القصيدة التي تبدأ بالغزل العجيب الفريد، فهذه الفتاة التي يتحدث عنها حسان، ويقول إنها أفسدت قلبه، فجعلته مريضاً متيماً فيها وبحبها، فأذهبت عقله، وأحرقت قلبه، لأن التبل هو الإفساد وإذهاب العقل، والفؤاد هو القلب إذا كانت النار تكويه، وتشويه شيّاً، ولذلك ابتعد عن لفظ القلب الذي يحوي الحب والعاطفة الجميلة الرائقة، بينما الفؤاد لا بد له من نار وشواء وكيّ، وهذه الفتاة عذراء، واستعمال كلمة عذارء لا تعطي المعنى الذي يريده الشاعر، فاستعمل لفظة (خريدة)، وهي الحيية الساكنة الناعمة البكر التي لم تتزوج، فقد تكون الفتاة عذراء، ولكنها لا يحوطها الحياء والخفر، وهنا استعمل الخريدة ليفيد هذه المعاني جميعها، وجعلهاتفعل فعلها مع أن هذا الأمر كان في المنام، فالأمر الذي حصل في بدر، هو كالمنام أيضاً، انتصار لفئة قليلة لم تتأهب لمعركة، أو قتال، بل خرجت مسرعة لمهاجمة قافلة تجارية، وإذا بها تواجه جيشاً من ألف مقاتل تجمعوا وتعاضدوا وجمعوا لهذه المعركة كل ما يستطيعون من إعداد نفسي وعددي وعسكري، وهم يعرفون أن الذين سيقاتلونهم ثلة قليلة، فتوقعوا أن لا تقف أمامهم إلا مقدار (غلوة) في إعداد طعام خفيف، وهذا النصر الذي حصل للمسلمين، جعل حسان يفرح هذا الفرح الخيالي الذي جاءته به محبوبته من إفساد لعقله وإذهاب به، وبدأ يعيش خيالاً يتناسب مع هذه الظروف التي حصلت للمسلمين، فهو نصر قد لا يكون إلا في الخيال، لولا من يتحدث عنهم حسان، وكيف هربوا أمام المسلمين، وكيف جندل المسلمون طغاة المشركين، وصناديدهم وفي مقدمتهم أبو جهل وابنا ربيعة المخزوميين، وأمية بن خلف الجمحي، وغيرهم من كبراء قريش، ولذلك كان هذا الخيال العجيب في الاحتفال بهذه الفرحة التي سيطرت على عقل الشاعر، فجعلته كالسكارى من هذا النصر، ففتاته إذا نام معها ليضاجعها وعانقها، يجد في ريقها البارد برداً وسلاماً، من فم جميل يسيطر عليه الابتسام، فهو بسّام، مملوء بريق يدخل السُّكْر على شاربه، فهو كالمسك في الرائحة، ولكنه خلط بماء السماء المبارك الذي لم يعرف معاصي العباد، فهو بكر ينزله الله على عباده ليطهرهم، كما حصل مع المسلمين في غزوة بدر، حيث غسلهم الله بماء المطر، وطهرهم به، فكان هذا الريق المخلوط بهذا الماء من مطر السماء الطاهر، ولكن لونه أحمر قانٍ، فقد كان هناك دماء في غزوة بدر، وريق حبيبته عذب مسكر، كأنه مخلوط بخمر لونه لون دم الذبيحة، وهذا يذكرنا بما حدث من دماء كثير من المشركين الذين قضوا في هذه المعركة، وهنا يشعرنا حسان بمدى فرحه، وسكره بما حصل من حبيبته التي لم تتعبه كثيراً حتى يصل إليها، بل جاءته بكل سهولة ويسر، كما حصل مع المسلمين في غزوة بدر، بل يشعرنا بأمور مادية كثيرة حصلت معه من خلال هذا الحب العجيب، فحبيبته أردافها كالحقائب المليئة، وإذا جلست عليها ظهرت كأنها مداميك رخام منضد بعضها فوق بعض، فهي صافية اللون في بياضها، فالمرأة عند العرب دائماً توصف بالدمية التي تصنع من المرمر (الرخام) كقول النابغة عن حبيبته:

أو دُميَة ٍ مِنْ مَرْمَرٍ، مرفوعة ٍ،...بنيتْ بآجرٍ ، تشادُ ، وقرمدِ

وكقول إبراهيم بن المدبر:

ما دمية من مرمر صوّرت ... أو ظبية في خمر عاطف

فهذه حبيبة حسان في لون جسدها صفاء،ثم يصفها بأنها بلهاء عفيفة، لا تعرف الشر، وهو لا يحتاج لإقناعها بمرامه منها، فهي كما يريد، وتبتعد عن الأيمان والقسم، وهذا الجمال في أردافها، وضخامة هذه الأرداف مبنية تتكئ وتقوم على المنطقة القطنية التي تحملهما، وهذا القطن ممتلئ سمين باللحم الكنيز، وإذا جلست فهي تجلس بلباس خفيف يظهر لونها وجمالها، وإذا قعدت  كان ردفها كالطباق بعضها فوق بعض في تنضيد وتصفيف جميل، كأنه مصفوف (كمداميك) الرخام المبنية بشكل متناسق جميل، وهي تمشي متكاسلة تُظهر ضعفاً ومرضاً، لتبعث النشوة في نفس حبيبها على هذا المشي الكسول، مع لين بهذا اللحم الذي يلف جسدها،  وهي تشبه الأغصان الناعمة المتمايلة كما قال عبد الملك العصامي:

بدا قَدُّكَ الميَّاسُ في حُلَلِ الْبَها ... فألْبَسنِي جِلْبابَ سُقْمِيَ والحُزْنَا

فهذا القوام الرائع الميّاد الليّن، لهذه الفتاة بهذا الجمال، وهذا العطاء، هل من الممكن أن ينساها من يقع في هواها، فهو يذكرها في النهار، ويبقى يلهج بحبها أمام كل الناس، ويفتخر بها، وفي الليل لا يحتاج إلى ذكرها، فهي تأتيه في المنام، فيزداد ولعه وتولعه فيها، وتغريه بحبها، ولذلك يقسم الشاعر هنا  أنه لن ينساها، ولن يترك ذكرها حتى يموت، وحتى يُغيّب تحت الثرى، وعظامه تُغطى بما فوقها من طين القبر، فهذه الفتاة فعلت به كل هذا الولع، والخروج عن حدود المعقول كما فعلت غزوة بدر، فكل ما في هذه الفتاة من جمال وإغراء كان في غزاة بدر، وكل ما في هذه الفتاة من ذكريات جميلة يفوق ما فيها كل ذكريات غزوة بدر، ولذلك يلوم عاذلته في نهاية القسم الغزلي من هذه القصيدة وأنها جاءت تقول له أنت تعيش في وهم، وإنما هذه أكاذيب أتيتك بها، فقال لها يثبت صدق ما هو فيه من سعادة، ظاهرها خيالي، ولكنه حقيقي، قال:

إنْ كنتِ كاذبة َ الذي حدّثتِني،...فنجوتِ منجى الحارثِ بن هشامِ

هذا الذي هرب من سيوف المسلمين/ لا يلوي على شيء، وبدأ يتكلم عن الأحداث بشكل مباشر، بعد أن أرانا الأثر النفسي لهذه المعركة التي جعلته يتغزل بهذه الطريقة المكشوفة الرائعة، كما فعلت غزوة بدر بكشف جيش المشركين، واندحاره، وهذه العلاقة بين الغزل والواقع كان في كل الشعر العربي، وليس في هذه القصيدة فقط، ولذلك نجد مثلاً أن غزل عنترة كان يسيطر عليه السمو النفسي الذي يجب أن يثبته الفارس النبيل، والقائد الشهم، حتى يحظى بحب محبوبته، بينما جاء المحبون في عصر بني أمية يتخصصون في الغزل بسبب الاستقرار والغنى في الحياة الاجتماعية، والراحة النفسية، وابتعاد ميادين المعارك عن الحواضر الإسلامية، فعمر بن أبي ربيعة الشاب المدلل المتفرغ للعشق والغزل، وهو في بيئة يأتيها النساء من كل بلاد المسلمين، وهن يحملن كثيراً من عادات تلك الأماكن وأحوالها، فكان مثالاً لهذا المجتمع المدني المتمدّن، بينما كان العذريون أبناء بوادٍ بعيدة عن الحواضر، والاستقرار عندهم موجود، ولكنه بعيد عن الغنى الذي يصل إلى حد الترف، فعندهم الحياة بسيطة، والدين الغامر يملأ بساطة هذه الحياة، فجاء غزلهم راقياً في سموّه وروحه، ويؤيد هذا غزل الجاهلية كذلك، فامرؤ القيس ابن ملك، وحياته كلها استهتار كما كان قريبه الزير سالم زير نساء لا يعرف إلا الضلال، فسالم سماه العرب بالزير لفسقه وفجوره وفحشه، وامرؤ القيس أطلقوا عليه اسم الملك الضلِّيل، لضلاله وفجوره أيضاً، وهذا ما علمناه من أن النبي عليه الصلاة والسلام قال عن امرئ القيس إنه حامل لواء الشعراء إلى النار.وبقي الشعراء يستنجدون بالغزل، لأنه العاطفة المشتركة بين كل أفراد الإنسانية، فحب المرأة مغروز في حياة الإنسان، حتى قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (حبب إلي من دنياكم: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، إذن لا يمكن أن يُنزع حب المرأة، والتغزل بالمرأة من نفوس الناس، وإن بلغ بعض الناس مبلغاً جعلهم يبتعدون عن هذا الأمر، وينأون بأنفسهم عنه، لتقوىً، أو فهمٍ فهموه من الدين، فهذا لا ينفي ما ثبت في القلوب الإنسانية، وأفئدة الكثيرين التي تُشوى بحب النساء، فالناس مراتب، ومراحل، وطبقات، ويحضرني قصة رائعة ذكرها الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في الإصابة في تمييز الصحابة أنّ عاتكة بنت زيد كانت زوج عبد اللَّه بن أبي بكر الصّديق، وكانت من المهاجرات، تزوجها عبد اللَّه بن أبي بكر الصّديق، وكانت حسناء جميلة فأولع بها، وشغلته عن مغازيه، فأمره أبوه بطلاقها فقال:

يقولون طلّقها وخيّم مكانها ... مقيما تمنّي النّفس أحلام نائم

وإنّ فراقي أهل بيت جمعتهم ... على كثرة منّي لإحدى العظائم

ثم عزم عليه أبوه حتى طلقها، فتبعتها نفسه، فسمعه أبوه يوماً يقول:

ولم أر مثلي طلّق اليوم مثلها ... ولا مثلها من غير جرم تطلّق

فرقّ له أبوه، وأذن له فارتجعها، ثم لما كان حصار الطّائف أصابه سهم، فكان فيه هلاكه، فمات بالمدينة رحمه الله.

نصحني بعضُ من أحبُّه بأسلوب مؤدب راقٍ، وقال لي: إن ما تقوم به فيه نوع من الإفراط، فأنت تتكلم بكلام يؤذي بعض المشاعر، ويثير بعض الأحاسيس، فاتق الله في أحداثنا وشبابنا، فسألته: عن أي شيء تتحدث؟ فقال: مثلاً إسهابك في الكلام عن قصيدة حسان رضي الله عنه، فسألته: هل خرجت في هذا الكلام عن مفهوم القصيدة وما ترمي إليه من معانٍ وأفكار؟ فقال: لا، ولكن هذا فيه إثارة للشباب، وأنت تعلم أن الشباب أمره مخيف إذا انحرف. فقلت: والله صحيح، إن الشباب أمره مخيف إذا انحرف. ثم توقفت قليلاً عن الكلام، فرأيت في ملامحه استغراب واستفسار كأنه يريد كلاماً مزيداً ليعرف رأيي في ما قال. فتابعت حديثي قائلاً: هل قال حسان عند إنشاده هذه القصيدة إنها للمثقفين فقط، أم للكبار فقط، أم لمن يفهمون اللغة التي قيلت فيها فقط. فقال: كلهم كانوا يفهمون هذه اللغة، وكلهم ثقافاتهم متقاربة، فلم يكن فيهم من يجهل اللغة، ومن لا يجهلها، بل كلهم عالم بها، متكلم بها، صغيرهم وكبيرهم. فقلت له: سامحك الله، أجبت على نفسك بنفسك، إذن هذه القصيدة أنشدها الكبار والصغار، وحفظّها الكبير للصغير، حتى لا ينسى لغته، وكلهم فهم ما فيها، ولم يخف الكبير على الصغير، ولا الأب على الفتاة، بل من أجل أن يبقى فهم اللغة قائماً كانوا يحفظون حتى أشعار الجاهلية بما فيها من عجر وبجر، وبما فيها خلل وعلل، ونحن نريد أن نمنعها عن نشئنا حتى يبقى بعيداً عن لغتنا، ولا يفهم ما يقرأ... فقال محتجاً غاضباً: ألم تجد إلا قصيد الغزل تعلمهم به اللغة، أما يكفيك مثلاً ديوان الشافعي، أو ديوان عبد الله بن المبارك، وغيرها من دواوين الوعظ؟ فقلت: سامح الله ابن عباس، فقد كان يعلّم الناس دواوين الجاهلين، ويحفظ ديوان عمر بن أبي ربيعة، فسن لنا سنة تحاربونه بها، رضي الله عنه، كان ترجمان القرآن، وأرى أنكم ترجمان الأحزان، فقد حضرت زفافاً (إسلامياً، وأنا أعترض على هذا التعبير بشدة وعصبية)، فأتى بمنشد نوّاح، بدأ يتحفنا بقصيدة كانت منتشرة أيامها عنوانها (أنا العبد)، وبدأ النائح ينوح في هذا الزفاف: أنا العبد الذي سيموت، وليس عنده كفن يكفيه، وتكفنه زوجته، ثم تستبدله برجل آخر، ولم ترعَ له حرمة، ومات عن صبية صغار.... ويبكي ويُبكي من حوله بمناسبة هذا الزفاف الرا(قع)، وهو يظن أنه يتقرب إلى الله بهذا النواح، في (سكة الأفراح)، وابتعد عن منكرات الأفراح. فلا حول ولا قوة إلا بالله صاحب القوة الجبار العزيز.