خِطاب السُّكون!

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

مساقات

-1-

إذا رأيتَ المرءَ يأخذ عن مصدرٍ واحدٍ بكلِّ ما فيه، ويرفض من مصدرٍ آخَر كلَّ ما فيه، حتى ليوشك أن يقول: "أنا الحقُّ، والحقُّ أنا"، فاعلم أنه قد تُوُدِّع منه؛ لأنه لا يتبع الحقَّ، بل يتبع الهوى، أو الإديولوجيا، أو السياسة، وأنه خروفٌ من قطيع، يمضي مع قطيعه في سِربٍ واحدٍ، في اتِّجاهٍ واحد، وإنْ إلى حيث ألقت أُمُّ قشعم؛ لأنَّ طالب الحقِّ- كما قال (مالك بن أنس)- يأخذ من كلام كُلٍّ ويَردُّ، لا يأخذ فقط، ولا يردُّ فقط.

-2-

وإنْ كان لا بُدَّ من موتنا، فاسبقوني إلى الموت، كي تحملوني..

وتستقبلوني!

خذوا زوجتي معكم وخذوا أُسرتي..

وجهاز القلق..

ولا تُنشئوا أيَّ حِزب هناك!

ولا تأذنوا لقُدامى الضحايا بأن يسكنوا معكم!

ولا تسمحوا للتلاميذ أن يسرقوا دمعكم!

ولا تفتحوا صُحفًا للحديث عن الفرق بين الحياة على الأرض أو تحتها!

ولا تسمحوا للمعارضة المستبدَّة أن تتساءل عما رفضتُ التساؤل فيه!

أنا الموتُ.. والموتُ لا ريب فيه!

هكذا عبَّر (محمود درويش)- بلسانه الصدَّاح- على لسان نموذجٍ بَشريٍّ من هؤلاء، في قصيدته "مختارات من خطاب الديكتاتور العربي"، ضمن  "خطاب القبر".  ولئن سلَّم أحدهم بأن الموت آتٍ لا محالة مهما عُمِّر، فإنه ليطمع في الاستبداد بالآخَرين حتى بعد الموت.

-3-

في كتابه "ما بعد الربيع العربي: كيف اختطف الإسلاميُّون ثورات الشرق الأوسط"، يُشيد الصحفي الأمريكي (جون آر برادلي)(1) بـ(تونس) ما قبل الثورة، لا ما بعدها.  لكن ما معاييره؟  قائمة طويلة ممَّا أسَّس لها (المجاهد الأكبر)، معظمها يُعَدُّ مرذولًا أخلاقيًّا واجتماعيًّا حتى في الغرب نفسه.  وهذا نموذجٌ للنفاق الغربيِّ في النظر إلى الثقافات الأخرى.

قال صاحبي: هناك من يعتقد أن خَلْعَ الثقافات والعقائد عملٌ مسرحيٌّ سهل، يَدَّعي نظريًّا التقدميَّة والحُريَّة المطلقة وبلا حدود، وهو في الواقع بنقيض ذلك.  غير أنك ستجد في المقابل فلسفةً جديدة، ربما صارت مذهبًا، تدلُّ على مدَى الانحطاط القيمي، وإنْ باسم الدِّين.  تتجلَّى، مثلًا، في ضُروبٍ من الحجاب، أصبحت تكتنفها الشبهات، في تقليديَّة شكلانيَّة، تبعث على المراجعة؛ من حيث لم تعد تدلُّ بالضرورة لا على الدِّينيَّة ولا حتى على الأخلاقيَّة.  وأزياء الشعوب في عمومها لها صِلَةٌ بالثقافة والبيئة والشخصيَّة والهويَّة.  الأصل فيها أنها محايدة في علاقتها بطاقات العقل نفسه، وأنَّ أثرها نِسبيٌّ في الحركة والعمل والعطاء الإنساني بآفاقه المختلفة، ولا علاقة بين ما يلبس الإنسان وبين مَلَكاته الفكريَّة، أو بين ما يَضَع على رأسه وقدراته العِلميَّة، أو بين السَّتر والتعرية وقابليَّات الإنجاز والعمل. هذا إلى تبعيَّةٍ ثقافيَّةٍ وقيميَّةٍ للآخَر، أيًّا ما كان ذلك الآخَر، الذي تُصبِح قِيَمُه نموذج الرُّقيِّ أو التقوَى معًا، وقِيَم غيره نموذج الانحطاط أو الضَّلال، وَفق عُقَد النموذج الأعلى المركَّبة، التي عبَّر عنها (ابن خلدون)، على طريقته.  بَيْدَ أنَّنا بين التخلُّفين المذكورَين سنجد نموذجَين لا يحملان العُقَد نفسها.  نموذجًا إسلاميًّا شرقيًّا، لم يَجِد تلك العُقدة التي وجدها العربيُّ المعاصر حيال اللباس، ونموذجًا غربيًّا، لا يحمل عُقدة الدُّول الأوربيَّة، ذات التاريخ العنصري ضِدَّ الألوان والشعوب والثقافات، هو نموذج (الولايات المتحدة الأميركيَّة)، ولاسيما قبل الحادي عشر من سبتمبر، حيث ظلَّ للمرأة أن تلبس ما شاءت، أو أنْ لا تلبس ما شاءت، ترتدي حجابها أو لا ترتديه.  على أن (باب سَدِّ الذرائع) ربما أصبح عالميًّا في بعض الحالات؛ بمعنى منع شيءٍ خوفًا من وقوع شيء، أو التذرُّع باحتماليَّة وقوع ما لا تُحمَد عُقباه لمنع الحُريَّات الشخصيَّة ومصادرة حقوق الإنسان.  ولحُسن الحظ أن أبوابَ أخرى لمَّا تُعَوْلَم بَعد!

غير أنك- كما يقول كاتب هذا المقال: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي- سترى التيَّارات جميعًا في كلِّ زمانٍ ومكانٍ واقفةً سَدًّا ضِدَّ حُريَّة التغيير، الذي يُهَدِّد مصالحها الماديَّة والمعنويَّة، وستجدها كلَّها لذلك تلعن ما تسميه "الفِتنة"، لتُطَوِّب السُّبات العميق على ما سَنَّه الآباء.   وأعداء الحقِّ دائمًا يلوِّحون بفزَّاعة "الفتنة": "لا تَفْتِنَّا!"، "أَلَا في الفِتْنَةِ سَقَطُوا!"  وكلُّ الأنبياء والمصلحين والمفكِّرين والمغيِّرين: مُثِيرو فتنةٍ نائمة، بالضرورة.  كلُّ أولئك أثاروا الفِتَن بهذا المعنى؛ لأن ما من ثورةٍ حضاريَّةٍ سُكونيَّة.  ومَن يتذرَّع بعدم إيقاظ الفتنة النائمة، في هذا السِّياق، إنما يتذرَّع بعدم إيقاظ الأُمَّة/ الأَمَة النائمة، خوفًا من خفافيش ظلامٍ أن تنشر فيروسًا كونيًّا، "فَشَرَ" (فيروس كرونا المستجد) مقارنةً به!

-4-

اطلُبُوا العِلْمَ، ولَوْ في (الصِّيْنِ)، هِيْما؛

إنَّ كُلَّ الطُّـرْقِ تُـوْدِيْ صَوْبَ (رُوْما)!

 (1) ترجمة: شيماء عبد الحكيم طه (القاهرة: كلمات عربية، 2013).