" الفقر " قصة من التراث الحموي القديم ..

محمد عماد ناظم العطار

جهّزنا أنفسنا على أحسن حال لكي نذهب إلى الجب "الإرتوازي" ذو المياه المعدنية في شمال شرق مدينة حماة. وعندما حانت ساعة الصفر حملنا أغراضنا وأدواتنا وأكلاتنا وخاصّة الجبنة المسنّرة والخيار والزيت والزعتر والبيض المسلوق والحلاوة الشوشيّة والشنكليش مع البصل والمكدوس والمنضمينا ووضعناهم بسفرطاسين. 

وأهم ماحملناه كانت الألفية الزجاجية المقششة لتعبئتها بمياه الجب المعدنية الشهيرة في تلك الأيام. قام والدي بقفل باب الدار بالمفتاح النحاسي الضخم بعدّة طقات إلى اليمين، ومشى مع والدتي في المقدمة ونحن وراءهم في حي دارالغنم، أربع صبيان وثلاث بنات أكبرنا عمره سبعة عشر سنة والباقي نقّص سنتين سنتين على الماشي وكنا نمشي بشكل رتلا ثنائيا والزكا الأخير كامل. 

سرنا في زقاقنا باتجاه سوق الطويل الذي يقع عند نهايته، لم يبق أحد في زقاقنا إلّا عرف أننا ذاهبون إلى الجب الارتوازي، ابتداء من بيت الشيخ زكريا مفتاح الى بيت أبوحديد النحاس الى بيت عبدالهادي الفتوى الى بيت بهجت الأسود وأدهم الأسود والقباني وجميل التتان وبدر ويحيى الحداد حتى بيت عبدالرحمن النجار وأخوه أبو غزوان إلى بيت محمود ومظهر ويحيى وأبو غزوان وأبو وليد اللبابيدي.

دخلنا سوق الطويل من أمام دكان عدنان شرابي وسرنا يمينا حتى آخر السوق وخلال مرورنا في السوق كانت أعين التجار تتابعنا بنظرات مختلفة لنصل في النهاية إلى موقف باب البلد في المرابط عند نهاية السوق من الجهة الجنوبية. وقفنا عند الموقف الإجباري ننتظر الباص الأصفر (الجي ام سي) القادم من حارة الجسر. ولم يمض أكثر من نصف ساعة على أبعد تقدير حتى وصل الباص المهيب يتهادى بكبرياء يقوده "يحيى الحداد" رحمه الله تعالى الذي كان يلف على خصره مريول زيتي من أجل الحماية من الإحتكاك بالدركسيون الضخم الذي يزيد قطره عن سبعين سم.

صعدنا من الباب الخلفي حسب النظام في ذلك الزمان بعد أن فتح نديم جابي الباص الباب الورّاني. صعدنا الى الباص واحد واحد وبدأ الجابي يقطع التذاكر .. فرنك ونص للكبير، وفرنك للصغير، والصغير جدا على كيس النص (مجانا). وجدنا المقاعد خالية فجلست مع أخي وأخي ثلاثة في المقعد الواسع وسحبت القشاط الكتان وأنزلت الزجاج بقدر نصف عرض الشباك وثبتت القشاط بالنتوء الموجود تحته وبدأنا نستنشق الهواء العليل.

سار الباص عبر شارع المرابط باتجاه الشرق وهدّأ السرعة عندما وصل عند حمام "الدرويشية" في منتصف الشارع حتى لا يصطدم بالباص الشيفروليه الأصفر القادم من الجهة الثانية والذي كان ذاهباً الى "المحطة". وقف باصنا عند ملجأ الأيتام 

ثم تابع ووقف عند مدخل "حاضر الصغير" مقابل صالون الجمهورية، ثم تابع ووقف قبل الساعة عند استوديو "جروا" في الموقف الاختياري لينزل أحد الركاب، ثم لف حول الساعة بعد أن رفع اليد المعدنية التي تشير إلى جهة اليسار بدل الغماز حاليا، ومر من فوق جسر "شفيق العبيسي" ووقف في أول طلعة الحاضر عند أول حي "البارودية". 

وتابع في طلعة "الحاضر" وتوقف عند "القحف" بائع الحلويات 

وبعدها تابع ولف الى جهة اليمين ووقف عند قهوة "جلالا"، ثم تابع ولف يسارا في طلعة "الأميرية" وفي نهاية الطلعة لفّ جهة اليمين وتوقف في الجهة المقابلة للمستشفى الوطني القديم ثم تابع ولف يسارا ثم يمينا. وبدأ يعنّ ويسير ببطء في الطلعة المؤدية إلى الجب الارتوازي، إلى أن  وصلنا بسلام والحمد لله.

في كل موقف كان ينزل ناس من الأمام ويصعد ناس من الخلف وطبعا كانت بعض المواقف اختيارية إضافة للمواقف الإجبارية. مد السائق يده اليمنى وأمسك ذراعا معدنية وسحبها ففُتح الباب الأمامي ونزلنا واحداً تلو الآخر. 

قالت الوالدة أول شيء يجب أن تقوموا بتعبئة الألفية حتى  نطمئّن على الماء. جئت لأملأ الألفية فوجدت الناس قد فتحوا الحنفيات عالآخر، أحدهم  أصلع قد وضع راسه تحت الحنفية وصار يفرك قرعته، والثاني يعبيّء ماء بكفوفه ويدلك جسمه، وأحدهم  يغب الماء غباً، وكل واحد يعمل شغلة حسب مرضه على أساس أن الماء هي الشافي المعافي.

أما أنا فتناولت آخر حنفية وكان الماء ينساب منها (صنصولة) فقلت للذي بجانبي:

- خفف الحنفية قليلا فلم يرد 

علي وبعد وقت لابأس به امتلأت الألفية والحمد لله.. 

ذهبنا إلى قهوة "المراح" وحجزنا طاولة داخل غرفة جدرانها من القصب والقش ووضعنا الألفية في مكان آمن حتى لا تنكسر، طلب والدي كباب وطبعا كمية مخفضة لأن معنا (التنشيفة) ليس من أجل شيء يعني على عينك ياتاجر. وبعدها شربنا القاظوظ (مياه غازية) وصرنا نرى عوائل حماة وأقرباءنا يأتون تباعا.

لعبنا نحن مع الاولاد، اما النسوان فبدؤا يطقوا حنك (يتكلمون) مع بعضهم. ووالدي يشرب أركيلة مع بعض أصدقائه ممن حضروا وطبعا كان معظمهم لابسين طرابيش وقنابيز.

بعد العشاء حوالي العاشرة والنصف سمعنا صوت سائق باص البلدية يقول : هذه آخر دورة فمن يرغب بالنزول إلى البلدعليه الصعود إلى داخل الباص.

فتريثنا قليلا وبدأنا نضبضب (نرتب) امتعتنا ولكن الباص مشى فانقطعنا لان سيارات التكسي قليلة في تلك الأيام. فقال والدي بسيطة سنرجع تدريجة (مشي على الأقدام) من عند جسر سلمية. 

وفعلا مشينا رتلا أحاديا بهذه النزلة بشكل شرشرة (كل واحد بعيد عن الثاني) والتدريجة كانت حلوة فالهواء بارد ورطب ومنعش وكأننا في مصايف صلنفة أو بلودان أو عاليه وخاصة عندما عبرنا جسر الحديد ووصلنا أمام مقصف الأربع نواعير.

ولم يعكّر صفونا إلا المعاناة في حمل الأغراض والأشخاص

 مثل أختي الصغيرة التي لاتستطيع المشي ويجب حملها 

والألفية الزجاجية أيضا، بدأنا نتبادل الأدوار في حملها 

والسفرطاسين والسك (الشنطة) فكل واحد يحمل قليلا. وتابعنا السير وكل واحد يتكئ على الثاني ونسحب أرجلنا سحب ومررنا من جانب البلدية ثم الساعة فالمصور "نسيب الرزاز" وبعده صالون الجمهورية ثم شارع المرابط من أمام الدكتور "فايز الاسود" .. حتى وصلنا سوق الصياغ لنرى الحارس الليلي يتفقد أقفال الدكاكين فيشد القفل مرتين اوثلاثة ويتركه حتى يتأكّد من أنه مظبوط، سلم والدي عليه فرد السلام، وقال:

- وين كنتوا لهلأ بنصاص الليالي (منتصف الليل) يا أبو موفق 

- كنا في الجب الإرتوازي 

- اي ياعمي مين قدكم والله العز للرز والبرغل شنق حالو.

- اي شو كنا بسويسرا ؟

فضحك وتابعنا سيرنا ودخلنا سوق الطويل فتنفسنا الصعداء، ومنه الى زقاقنا والدنيا هادئة بلا أصوات، وكل الناس نايمين طبعا لأن الساعة قاربت على الثانية عشرة.

وعندما وصلنا عند باب الدار أمسك والدي المفتاح النحاسي الضخم وأدخله في قفل الباب وبرم المفتاح أول طقة وتاني طاقة على اليسار ودفع الباب. دخلنا الى البيت وكان قد حان دوري في حمل الألفية فدخلت المطبخ وأنا أضع إصبع يدي اليمنى في حلقة الألفية وهي على كتفي فأنزلتها من على كتفي ولكنها فلتت من يدي وسقطت على الأرض وانطبشت وتكسّر الزجاج وطش الماء في المطبخ ولكن القش بقي سليم.

وانتظرت أن تأتيني عبارة (الله لا يعطيك العافية بعد تعبك) أو شي كف ولكن والدي بلعها. قالت أمي:

- انتهى عمرها مقطوع منها النصيب .. يالله انكسر الشر.

أخرجوا الزجاج المكسور واجمعوه في الصفيحة إلى أن يأتي من يشتري الخبز اليابس والزجاج المكسور فنبيعه إيّاه. وضعوا القش جانبا بانتظار أن نأتي بزجاجة أخرى ندخلها في القش.

على كل الأحوال جاء ماهو أعظم وهو أن الراديو وماكينة الخياطة غير موجودتان في مكانهما الثابت. الراديو كان موقعه عادة على الرف يمين باب القصر (كما كان يطلق على الغرفة الكبيرة في الطابق الثاني لبيتنا) والماكينة كانت على الطاولة الخشبية المتينة على يسار الباب بجانب السرير.

أمي فقدت صوابها ووالدي اللي شالو ماحطو (فقد صوابه) واعتبروها طعنة في الصميم لأن هذين الجهازين أغلى مقتنياتنا وهما مثل درة التاج البريطاني.

أهلي نسو طبشة الألفية وجلسوا يضربوا أخماسهم بأسداسهم عمّن فعلها لأنه كان كل شيء سليم يعني السارق فتح الباب ودخل بهدوء ولم يكسر شيء. وطبعا وجهت التهمة للحسد والعين التي أصابتنا (على أي شيء لا أدري) قالت والدتي:

- لازم يكون أحدهم قد علم بخبر ذهابنا إلى الجب الارتوازي

 فقلت لها:

- كل حارتنا يعرفون

- هذا هوالسبب.

بعدها قال والدي: 

- الآن ناموا والصباح رباح.

والدي ووالدتي لم يغمض لهما جفن وهم يفكرون ويتباحثون، قالت والدتي:

- أبو موفق انت قفلت الباب طقتين؟ 

- نعم قفلته، ولكن هل تظنين أن القفل شغال؟ 

- لكن ليش قفلته؟ 

- تمويه .. من أجل أن يظن الحرامي أننا قفلنا الباب .. أصلا مافي بكل حارتنا قفل شغال كل الناس عايشين عالبركة ومافي بالعادة حدا يسرق.

- يعني طبق علينا المثل (طول عمره النجار بلا باب دار)

في اليوم التالي ومن بعد صلاة الصبح شكّلت الوالدة لجنة تقصي الحقائق من إخوتي الصبيان للبحث عن المسروقات في أماكن مختلفة وسؤال الجيران هل شاهدوا أحد يدخل الى بيتنا .. قال لها أخي:

- خليّنا نبلّغ الشرطة يامو.

- أعوذ بالله شو شرطة ماشرطة يمكن استعارهم أحد من الجيران.

- معقول يامو حدا يستعير غرض حدا تاني بدون علمه.

- بصير يامو نحنا وجيراننا مثل الأهل بجوز صار عندهم حالة طارئة على كل الأحوال هدا مو شغلك .. اعمل مااقوله لك وبدون تعليقات.

فعلا بدأنا عمليات البحث والتقصي وماطلع معنا شي وعدنا ظهراً بخفّي حنين دون أن نعثر على أثر للمسروقات. ولكننا عند عودتنا لم نجد والدتي في البيت، وبعد ساعة وصلت وما أن دخلت من باب الدار حتى قالت :

- توقفوا عن السؤال والبحث.

وأصدرت مذكرة كف بحث 

- لماذا؟

- خلص .. نطلب عوضنا من الله هذه الأدوات مقطوع منهم النصيب.

طبعا نحن لم نقتنع بهذا الكلام لازم الموضوع فيه إنّ ..

قالت والدتي :

- تعالوا معي إلى دكان أبوكم ..

ذهبنا كلّنا لعند والدي الذي خرج من الدكّان عندما رآنا 

فقالت له والدتي :

- اشتر لنا من عند جارك الحاج "صالح الدوري" راديو وماكينة خياطة؟ فقال والدي: حاضر .. تعالوا معي ..

قطع الشارع الى الجهة الثانية ودخل مباشرة محل الحاج صالح، وقال له نريد ماكينة خياطة ماركة "سنجر" وراديو "فيلبس" رد الحاج صالح:

- وين الراديو والماكينة تبعكم ماصرلكم سنة مشترينهم؟ 

- قال ابي: راحوا لصاحب النصيب ..

- رد الحاج: بسيطة .. ولايهمك أبو موفق كل المحل على حسابك ..

بلغ ثمن الراديو والماكينة حوالي مائة ليرة لم يدفع والدي من ثمنهم شيء ..

وقال له الحاج صالح : كل ماصار معك ورقة ورقتين .. أي شي .. عطيني اياهم وعلى أقل من مهلك. 

حملنا الماكينة والراديو وذهبنا بهم الى البيت وفرحنا لأنهم أحدث من سابقاتهم وخاصة الراديو فهذا حديث يشتغل خلال دقيقتين فقط أما القديم فكان لايعمل إلا بعد خمس دقائق على أقل تقدير. بعدين هذا أصغر فلا يزيد طوله عن خمس وثلاثون سم وعقرب الموجات يمشي بسهولة بينما القديم كان يجب علي أن أبرم المفتاح عدة مرات حتى يمشي وينتقل إلى محطة أخرى. ولكن السلبية الوحيدة كانت في أنّ شاشة الراديو السابق علّمها والدي بأن كتب مكان قنوات صوت العرب ولندن ومونت كارلو بقلم كوبيا بينما هذا الراديو يحتاج الى تحديد من جديد.

بقي سر سرقة الراديو والماكينة يحيّرنا والأكثر حيرة هو تنازل والدي ووالدتي بسرعة عن البحث عنهما ومحاولة معرفة السارق. وبعد مدة من الزمن كنا جالسين مع والدتي ورجوناها أن تخبرنا بسر السرقة، فقالت:

- هناك امرأة كانت تأتي لمساعدتي في أعمال البيت وفي اليوم الذي قررنا به أن نذهب إلى الجب كانت موجودة عندنا وتسمع الحديث ولذلك قلت في نفسي: مافي غيرها أخذت الماكينة والراديو فذهبت الى بيتها بشارع العلمين وطرقت الباب ففتحت لي ورحبت بي ومن دون أن أسألها قالت لي:

- أنا أخذت الراديو والماكينة 

- قالت أمي: لماذا أخذتيهم؟ 

- ردت: ضاقت بي الدنيا والأولاد جائعين وأبوهم ممددا على الأرض لا من يده ولا من رجله لأنه وقع من فوق السّقالة وأصيب في ظهره والدائنين يلاحقونني، فلم أجد أمامي غير أني آخذ أي غرض وأبيعه لكي أطعم أولادي وأُسكت الدائنين.  

- قالت امي: لو أنك ذهبت إلى أناس مهبرين غيرنا على قولة المتل (اجا المبقوط الى المهتري وقلو بدي دوا للعافية).

- والله ماخطر على بالي غيركم ..

- قالت امي: طيب حتى يكونوا الأغراض حلال أنا سامحتك فيهم ولا تذكري هذا الأمر لأحد وأنا من عندي لن أدع أحد  يعلم بالأمر وسأحاول مساعدتك على قدر استطاعتي بس ادعيلي الله يحميلي عيلتي .. 

- ردت: روحي .. الله يستر عليكي ويحميلك عيلتك والله مابنسالك هالمعروف طول عمري.

- قالت اني: وحّدي الله وصلي عالنبي محد حاطط على رأسه خيمة (لا يوجد إنسان غير معرض  للأزمات) والناس لبعضها بخاطرك.

وأكملت والدتي كلامها: ثم رجعت إلى دكان أبوكم وأخبرته بالأمر، فدمعت عيناه .. ثم عدت إليكم وأخبرتكم بعدم البحث.