تحريم التعذيب في سوريا: صفاقة الأسد وتعدّد الاقتداء

صبحي حديدي

إذا لم ينتزع امرؤ عقله من مكانه ويضعه على الكفّ، كما يقول المثل السائر في توصيف الغرائب والعجائب، فلن يكون يسيراً تصديق القانون رقم 16 تاريخ 29/3/2022 الذي أصدره رأس النظام السوري بشار الأسد؛ حول تجريم التعذيب، ومعاقبة مرتكبه بلائحة عقوبات تبدأ من 3 سنوات وتنتهي بالإعدام. وإذا جاز، من حيث المبدأ، انتظار أيّ سلوك من نظام همجي السياسات وحشي الأدوات إجراميّ النشأة والتاريخ ولا حدود لسعاره في اقتفاء النجاة وحفظ البقاء؛ فإنّ هذه الخطوة كفيلة بنقل مدارات السلطة إلى مستوى من الصفاقة غير مسبوق، سواء على صعيد 52 سنة من حكم آل الأسد، أو حتى على صعيد التواريخ التي دوّنتها الإنسانية للعهود البربرية.

فإذا صدّق المرء ذاته، صاحب العقل الملقى على الكفّ، إحصائيات الأمم المتحدة أو منظمة “العفو الدولية” أو منظمة “هيومان رايتس ووتش”، أو العشرات سواها؛ فإنّ الفترة ما بعد 2011 شهدت إعدامات صورية لأكثر من 13000 مواطن سوري في سجون ومعتقلات النظام، وأنّ 75000 آخرين اعتُقلوا وباتوا في عداد المفقودين. وإذا صحّ، منطقياً، أنّ الغالبية الساحقة من هؤلاء تعرضوا لأشكال شتى من التعذيب؛ فإنّ موادّ قانون الأسد يتوجب أن تعاقب (بالسجن 3 أو 6 أو 8 سنوات، أو المؤبد، أو الإعدام) قرابة 80,000 على الأقلّ من سجاني وعناصر أجهزة الأمن العاملة في عشرات السجون والمعتقلات في سوريا، والمتورطة حكماً في صنوف التعذيب المختلفة. هذا إذا استبعد المرء الفظائع التي كشفتها صور التعذيب المسرّبة من المصوّر العسكري المعروف باسم “قيصر”، وبلغت أكثر من 55,000 معتقل/ قتيل.


ومنذ سنة 2013 كانت منظمة “هيومن رايتس ووتش” قد أصدرت تقريراً مفصلاً عن أنماط الاحتجاز والتعذيب، التي كان مواطنون سوريون قد خضعوا لها في مختلف مقارّ ومعتقلات استخبارات النظام السوري (أمن الدولة، المخابرات العسكرية، مخابرات القوى الجوية، الأمن السياسي، والأمن الجنائي). وفي خلاصات التقرير جاء أنّ “الأنماط الممنهجة للمعاملة السيئة والتعذيب” التي وثقتها المنظمة، “تشير إلى وجود سياسة انتهجتها الدولة، تتلخص في تعذيب وإساءة معاملة الأفراد، ومن ثمّ فهي ترقى لكونها جريمة ضدّ الإنسانية”. واتكاءً على معلومات متقاطعة، جُمعت من أفراد معتقلين نُقلوا إلى أكثر من 17 فرعاً أمنياً مختلفاً، كتبت المنظمة إلى مجلس الأمن الدولي، باسم الحكومة السويسرية وبالنيابة عن 57 دولة (بينها فرنسا وبريطانيا وألمانيا والنمسا وبلجيكا وفنلندا واليونان والنروج والبرتغال وهنغاريا وأستراليا واليابان…)؛ تطالب بإحالة الوضع في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية، بما “يعطي الزخم للجهود الدولية الرامية إلى وقف الانتهاكات الجسيمة المرتكبة”. كذلك ألحّت المنظمة على “انضمام الدول الأخرى إلى هذه الدعوة، من أجل دفع أعضاء مجلس الأمن المترددين إلى إدراك ضرورة الاهتمام بقضية المحاسبة على وجه السرعة”.
غير أنّ الرسالة تلك سقطت على آذان صمّاء وأعين عمياء داخل المجلس، وظلّت الدول الغائبة عن اللائحة مترددة في التوقيع، أو رافضة للفكرة من الأساس. المرء يفهم بسهولة أسباب امتناع دولتين مثل روسيا والصين، لانّ ركائز حقوق الإنسان وحرية التعبير في البلدين قائمة على بيوت من زجاج، ولا تشجّع كثيراً على رشق أجهزة الأسد بالحجارة؛ هذا فضلاً عن مواقف موسكو وبكين المعطِّلة، إجمالاً، لأيّ قرار أممي حول النظام السوري. ولكن… ماذا عن الولايات المتحدة، “راعية حقوق الإنسان” كما يحلو لساستها أن يرددوا كلما رنّ ناقوس؟ هنا أيضاً كان سبب الامتناع هو بيت الزجاج ذاته، حتى إذا اختلفت أحجام الحجارة التي يمكن أن تهزّ أركانه، وتباينت مقادير الانتهاكات، وتنوعت أنساق التعذيب (إذْ أنها ليست، البتة، نسقاً واحداً متماثلاً) هنا وهناك، حيث تنشط أجهزة العمّ سام الأمنية.

وكان الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما قد ماطل طويلاً، حتى مغادرة البيت الأبيض، في الوفاء بواحد من أبرز وعوده الانتخابية، حول إصدار إذن رئاسي بنشر ما يُسمّى اليوم “مذكرات التعذيب” الصادرة عن كبار مسؤولي وزارة العدل والبنتاغون في الإدارة السابقة. وإذا جاز أن تُسجّل باسم أوباما خطوات إيجابية، مثل حظر التعذيب رسمياً (على الأراضي الأمريكية فقط، كما يتوجب التذكير دائماً!)، وإصدار الأمر بإغلاق معتقل غوانتانامو منذ الولاية الرئاسية الأولى (ثمّ التلكؤ في التنفيذ، حتى النهاية)؛ فإنّ سياسات البيت الأبيض الأخرى، وعلى رأسها اغتيالات الأفراد عبر الطائرات من دون طيار، والسكوت عن انتهاكات حقوق الإنسان هنا وهناك في العالم، والتراخي في محاسبة مجرمي الحرب، وتشجيع البعض منهم عن طريق رسم “خطوط حمراء” زائفة… كلّ هذه تجعل واشنطن قدوة حسنة، ومثالاً يُحتذى، وذريعة في ممارسة التعذيب.
وفي سنة 2004 نشر صحافي التحقيقات الأمريكي سيمور هيرش تحقيقاً على الموقع الإلكتروني لمجلة “نيويوركر”، أوضح فيه أنّ ما نُشر من صور تعذيب وتحقير وإهانة الموقوفين العراقيين في معتقل أبو غريب لم يكن سوى دفعة أولى حول ما خفي وكان أعظم وأدهى، وأبشع وأشنع. وأثبت هيرش أنّ الإدارة الأمريكية كانت تعرف، في ضوء التقرير الذي أعدّه العميد أنتونيو م. تاغوبا، وسلّمه إلى البنتاغون، وانطوى على 53 صفحة حافلة بوقائع رهيبة حول واقع السجون العراقية في ظلّ الاحتلال الأمريكي. وقال تاغوبا إنّ الجيش الأمريكي ارتكب أعمال تعذيب “إجرامية، سادية، صاخبة، بذيئة، متلذّذة”، سرد بعضها هكذا: صبّ السائل الفوسفوري أو الماء البارد على أجساد الموقوفين، الضرب باستخدام عصا المكنسة والكرسي، تهديد الموقوفين بالاغتصاب، واستخدام الكلاب العسكرية لإخافة الموقوفين وتهديدهم.
فإذا لم يكن أوباما هو قدوة الأسد في تحريم التعذيب قانوناً والسكوت عنه أو ممارسته فعلياً، فإنّ قدوة أخرى حسنة يمكن للنظام السوري أن يستمدها من موسكو، في تعذيب النشطاء الشيشان على وجه الخصوص وإنكار الممارسات كلما رنّ ناقوس هنا أيضاً؛ بل شنّ حملات هجومية منتظمة ضدّ منظمات حقوقية مشهود لها بترصّد الحقائق، أو ضدّ لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة. التقارير الحقوقية وثّقت طرائق روسية في التعذيب تبدأ من الضرب والصعق الكهربائي وتسميات “الفيل” و”السنونو” و”المغلّف” و”صلب المسيح”؛ وليس عجيباً أنها تتصادى مع 72 طريقة تعذيب شاعت في معتقلات النظام السوري، تحت مسميات مثل “الكرسي الألماني” و”بساط الريح” و”الغسالةّ و”الشبح”…
وقد يتساءل متسائل، مولع بالتَمَنْطُق الأجوف غالباً: ولكن لماذا يصدر الأسد قانوناً مثل هذا، إذا كانت “الجهات المختصة” لن تلتزم به؛ وهنا أيضاً فإنّ اعتصار إجابة ما، من أيّ طراز، قد يستدعي نقل العقل مجدداً إلى الكفّ، قبيل التذكير بأنّ هذا النظام/ المزرعة لا دستور يحكمه ولا قانون يسري فيه، وليس ذرّ الرماد في العيون واستغفال عقول الناس عن طريق القوانين الخلبية والمراسيم التهريجية سوى التكتيك الأكثر شيوعاً في تحويل الأباطيل الكاذبة إلى مكاسب أكثر كذباً. فمنذا الذي، في وزارة عدل النظام أو على صعيد قضاته ومحاكمه، سوف يجرؤ على استدعاء عريف عامل في أيّ من عشرات الأجهزة الأمنية؛ وهذه هي الرتبة الدنيا، فما بالك بالألوية والعمداء والعقداء…؟
الأجدى قد يكون الأخذ في الاعتبار طبائع الاقتداء، أمريكية كانت أم روسية أم كورية شمالية أم بريطانية أم فرنسية، التي دفعت الأسد إلى إصدار هذا القانون اليوم؛ ولا خلاف، من حيث المبدأ أيضاً، في أن يكون سياق إقليمي أو دولي قد حثّه على اتخاذ الخطوة، أو زُيّنت له محاسنها… المسرحية منها، في المقام الأوّل.