الزكيّ في المسجد الأقصى
المتوكل طه
كل صلواتي تبدأ بالقدس وتنتهي باسمها.وفيها جَمال سماوي يرحّب بنا، فلا يجدنا ! وأقرأ على بابها : من الدم يأتي دمٌ جديد ، وأقرأ : ضعفك يا أبي هو الذي قاد المدينة إلى الموت .
وعندما أمرّ بجانبها ، أغلق عيني .. إنه حلم سيء .
فسلامٌ على القدس ، مَن مسّت أرواحنا بقناديلها وزفاتها وأقواسها الباذخة بالأغنيات والتكبير .
وسأرفع الأقصى زهرةً زجاجية إلى أن يُطاول النجوم، وإلى أن تصبح القبّة شمعتي البيضاء ، ويلد السلام في الحقول .
وللجحيم بوابات كثيرة ، وأخطرها بوابة الهيكل المزعوم الوهميّ ..فاصرخوا إذا مرّوا ببساطيرهم الثقيلة في الطرقات ، فكل شبر صلّى عليه نبيّ أو سجد فوقه ملاك مُقرّب . ونصرنا في يدنا إن شئنا ! واصرخوا في وجه كل مَن يرطن بسلام الاستيطان .. فثمة مذبحة بعد الكلمات .
والجنون أفضل من الجُبْن ، ومَن لا يجنّ لا يُعوّل عليه .
والأفعى تحدّق في عيني الأقصى ، فتعطّل حواسه .. ويكاد يستسلم .. لكنه أكبر من فم الأفعى . والدماء رطبة على أرض القدس .
إن قبة الصخرة ثدي الأرض ، والهلال حَلمته التي ترضع الغيوم .
ونقول : يكفي ! لتبتسم لنا الآلهة .
لقد كان صمتنا حرية للعبث . وثمة شرّ قديم يجوب التلال المحيطة بالقدس .. ولا مَن يرقبه !
فيا أيها السامع المرتبك ، لا تكتم أنفاس الأوتار واسمع الحجر كما ينبغي .
وكلما صافحنا القاتل انهدم حجر وأجهضنا شجرة .
وإذا كانت القدس سجننا فهي قبرهم .
وشعبك ، بصدره العاري ، يتنفّس في ظهرك أيها الأقصى .
ولأن الحقيقة جائزة الأحياء ، فهذه حقيقة قديمة ، أرجو أن تبعث من جديد :
ليت لي ما لمحيى الدين بن الزكيّ من نصرِ ، يقف على ضفافه ، ليُبشّرَ بنصرٍ سماوي آخر آتٍ لا محالة . والحكاية أن صلاح الدين الأيوبي عندما فتح الله تعالى عليه قلعة حلب، وقف القاضي الشاعر العالم الفقيه الخطيب محيى الدين الزكيّ أمام المنتصرين - ورهجة الدم تلمع بأرجوانها المخثًر في الأنحاء - قائلاَ :
وفتحك القلعةَ الشهباءَ في حلبٍ
مُبشّرٌ بفتوح القدس في رجبِ
وكأن السماء ، كانت تتلقّف البُشرى ، فبعد أربعة أعوام ، فتح الله تعالى ، ثانيةً ، على المجاهدين بقيادة أبي المظفر صلاح الدين الأيوبي، وتمّ تحرير القدس، وتطهير المسجد الأقصى المبارك في رجب.
وفي أول يوم جمعة ، بعد التحرير ، وقد غسل صلاح الدين الحرم القدسي الشريف بماء الورد، حضر خلقٌ عظيم لا يحصى، فأمر المنتصر بالله صلاح الدين ، الرجلَ النزيه المفوّه المقاتل محيى الدين الزكيّ ليخطب في الناس ، فكانت خطبة عصماء ، من غير إعداد أو تحضير ، تنمّ عن موسوعي جليل، فريد في غير عصر، تعكس علوّ اللحظة ومجدها، وتكشف عن كيفية الشخصية التي ينبغي أن يكون الفقيه عليها ، فلا ينافق ولا يرائي، ليكون ، بحق ، وريث الأنبياء الأطهار .
وأعجب أن مناهجنا التعليمية،المدرسية وغير المدرسية، التي أصابها العطب والارتكاس ، وتمّ تفريغها من محتواها الوطني والتربوي والحضاري، لا تحمل صفحاتها هذه الخطبة الماجدة، ولم تفرد لها مساقاتنا هامشاً ، لتتغذّى بها روح الأُمّة ومداركها .
إن خطبة الخطب هذه ، التي اجترحها هذا الفحل الراسخ ، تتناول القيمة الإلهية للمسجد الأقصى، والموقع الأعلى الذي يمثّله الحرم القدسي الشريف في عقيدتنا السمحاء الحرّه ، وتذكّرُ ، الذين نصرهم الله تعالى بفضله، أن يواصلوا رباطهم ، وسعيهم لتطهير الأرض من دنس الممالك اللاتينية، التي حطّت بسواطيرها على سواحل بلادنا الشريفة، وتظهر المعنى الذي يشتمل عليه المسجد الربّاني منذ أن بناه سيدنا آدم عليه السلام حتى تحريره آواخر القرن السادس للهجرة .
إن ما ما يتعرض له الأقصى منذ الاحتلال، من استباحة نجسة مشبوهة ، يقوم بها الفاشي الدّاهم بكل عصاباته المدجّجة ، يذكّرنا بصلاح الدين، لا لنترحّم عليه فحسب، بل ليتوالد صلاحٌ آخر فينا ،تصيبه القشعريرة والغيرة ، وهو يرى قطعان الإسرائيليين وهي ترتع على مصاطب القبّة الذهبية بين الزيتون والنارنج!! وثمة سبع وخمسون دولة إسلامية وقرابة اثنتين وعشرين دولة عربية، وملايين يدّعون المنافحة عن الدعوة المحمدية ، بعيداً عن الشطط والتعصب والغلوّ ، ولا أحد يحرك ساكناً أو يهتف غاضباً أو يدعو لحماية هذا المسجد الحرام، الذي كان بيت إبراهيم وقِبلة المسلمين الأولى وأرض المحشر وصعيد المنشر ومحراب مريم وعيسى ونافذة زكريا وثاني المسجدين وبساط صلاة محمد بالأنبياء عليهم السلام ، ومعراجه إلى السماء العُلى .
كيف يجرؤ مسلم أوعربي أن يدّعي أنه مسلم بحق، والأقصى عُرضة للانتهاك والتدنيس واللهو التوراتي المتطرّف؟ وكيف سيفتح أحدٌ فمه ليقول أنا عربي والأقصى مبذول لعربدة الاحتلال ومستوطنيه وعبث أوهامهم الخرافية؟ وصلاح الدين قد حرّم على نفسه أن يبتسم ! فقد خجل من أن يضحك والمسجد الأقصى في الأسر !!
وكيف ستلومون، بعد اليوم ، أحداً إذا ما ذهب إلى لغة نهائية ناتئة ، ردّاً على الصفاقة العمياء والعجرفة الاسرائيلية والصمت المشبوه المتطامن؟
إن الاقصى ليس مسجداً أو جامعاً أو محراباً أو قبّة .. إنه كلُ نبضة في صدورنا ، وهو أول أرضنا وآخر بيوتنا، وهو كلُ فلسطين، بل هو كل شيء، إنه الإسلام و العروبة ، وشرف البشرية جمعاء.
إن الضوء الذي يفهق في القدس ليس نور المسجد الأقصى، إنه الحريق الذي يتهدّده.