نقد الواقع كمدخل لمستقبل أفضل

صبحي غندور

نقد الواقع كمدخل لمستقبل أفضل

صبحي غندور*

[email protected]

العرب، إلى أين؟ فأجواء الانقسامات والصراعات الداخلية تحوم في أكثر من بلدٍ عربي، والمنطقة العربية تؤكل أراضيها وسيادتها بعدما أُكِلت ثرواتها وخيراتها لعقود طويلة ..

صحيحٌ أنّ للأطراف الخارجية، الدولية والإقليمية، أدواراً مؤثّرة في تأجيج الانقسامات، لكن ماذا عن مسؤولية الذات العربية نفسها عمَّا حدث ويحدث من شرخٍ كبير داخل المجتمعات العربية؟

ماذا عن مسؤولية المواطن نفسه في أيّ بلدٍ عربي وعن تلك القوى التي تتحرّك لتغيير الواقع وتعمل بين المواطنين وبين أبناء العروبة، وهل أعمالها كلّها تصبّ في صالح الأوطان ووحدتها؟!

إنّ أسوأ ما في الواقع العربيّ الراهن أنّه لا يحمل في سياق سلبياته المتراكمة ما هو بديل يشكّل مبعث أملٍ لمستقبلٍ أفضل، بالطبع مع استثناء ظاهرة المقاومة التي هي أصلاً معنيّة بالتحرير لا بالتغيير.

فالتداعيات الجارية في أكثر من بلدٍ عربي تحمل مخاطر وهواجس أكثر ممّا هي انطلاقة واضحة نحو نهضات وطنية وعربية.

ولو أمكن استطلاع رأي المواطنين العرب في أيِّ مكان عن واقعهم وعن رؤيتهم للمستقبل لكان الجواب مزيجاً من نقدٍ للواقع وخوفٍ من المستقبل.

خطورة هذا الأمر أنّه يفرز العرب بين تيّارين: تيّار اليأس والإحباط وفقدان الثقة بنتيجة أيّ فكر أو أيّ عمل، وآخر انفعالي متهوّر يرى في الانتحار وحده طريقه لبناء حياةٍ أفضل!

التيّار الأوّل يصبح عن غير قصد عاملاً مسانداً للأسباب كلّها التي دعت أصحابه إلى اليأس، كما يكون بمجرّد وجوده مبرّراً لوجود التيّار الآخر، إذ أنّ اليأس من أيّ عمل يعني الجمود والفراغ، وهذه مبرّرات كافية لانبثاق حركات تحاول ملء الفراغ ولو بمضمون خاطئ.

إنّ نقد الواقع ورفض سلبياته هو مدخلٌ صحيح لبناء وضعٍ أفضل، لكن حين لا تحضر بمخيّلة الإنسان العربي صورة أفضل بديلة لواقعه، فإنّ النتيجة الحتمية هي تسليمه بالواقع تحت أعذار اليأس والإحباط.

وكذلك هي مشكلة كبرى حين يكون هناك عمل لكن في غير الاتجاه الصحيح.

وأحسب أن المسؤولية عن تردّي هذا الواقع شاملة، شمولية المجتمع العربي لمن فيه من حكّام ومحكومين وسلطات ومعارضات.

فالأمر ليس "عدواناً خارجياً" أو "مخطّطاتٍ صهيونية وأجنبية" فقط، رغم وجود هذه المخطّطات ومخاطرها وأعمالها السلبية، إذ إنّ موقع العطب هو في "الداخل" العربي الذي أباح ويبيح استباحة "الخارج" لشؤون العرب وأراضيهم.

إنّ العرب يواجهون تحدّياتٍ مصيرية تزامنت في هذه المرحلة وفي المدى القريب المنظور مع بعضها البعض: تحدّيات سياسية داخلية، وما فيها من مخاطر الانشطار والتقسيم للمجتمعات على أسس عرقية أو طائفية أو مذهبية أو قبلية، وتحدّيات خارجية أمنية، من جرّاء استمرار الاحتلال الإسرائيلي ومن الحرب على العراق ومن تداعيات نتائج أحداث أيلول/سبتمبر 2001.

أيضاً، يواجه العرب عموماً التحدّي الثقافي، الذي يستهدف نزع الهويَّة العربية، عبر استبدالها بهويّة "شرق أوسطية"، بل حتى نزع الهويّة الوطنية المحلّية والاستعاضة عنها بهويّات عرقية ومذهبية وطائفية .. وفي هذا التحدّي سعيٌ محموم لتشويه صورة الإسلام والعروبة معاً.

***

تُرى، لو لم تستبِح جيوشُ بعض الدول العربية سلطات أوطانها أولاً ثمَّ حقوق دولٍ عربيةٍ أخرى، ولو لم تستبِح حكوماتٌ عربية حقوق مواطنيها، هل كانت الأمَّة العربية لتصل إلى هذا الحدِّ من الضعف والعجز والانقسام والاستباحة من الخارج؟

أن يكون العرب الآن أمَّة مستباحة لحينٍ من الزمن، فهذا مردّه لضعفٍ وعطبٍِ في الداخل، ولجبروت الخارج. لكن عدم علاج الضعف وإصلاح العطب هو الذي سيسمح للخارج دائماً بالتدخّل والهيمنة وإشعال الفتن الداخلية.

المؤلم في واقع الحال العربي أنّ الأمَّة الواحدة تتنازع الآن فيها "هويّات" جديدة على حساب الهويّة العربية المشتركة. بعض هذه الهويات "إقليمي" أو "طائفي"، وبعضها الآخر "أممي ديني"، كأنَّ المقصود هو أن تنزع هذه الأمَّة ثوب هويّتها ولا يهمّ ما ترتدي بعده من مقاييس أصغر أو أكبر، فالمهمُّ هو نزع الهويّة العربية !

لو أنَّ كيانات هذه الأمَّة العربية قائمة على أوضاعٍ دستورية سليمة تكفل حقّ المشاركة الشعبية في الحياة السياسية وتصون الحقوق السياسية والاجتماعية للمواطنين، فهل كانت لتعيش ضعفاً وتنازعاً كما حالها الآن؟.

إنّ للأمَّة العربية حقوقاً على أبنائها المقيمين والمهاجرين، والتحدّيات التي يواجهها العرب الآن وبالمستقبل تستدعي من الحكومات العربية إقرار حقّ المواطن "السائل" و"المحروم": المواطن "السائل" عن حاضره وعن واقعه .. "السائل" عن مستقبله وعن المستقبل المجهول لأولاده .. "السائل" عن لقمة عيشه وعن أسباب الفساد والانهيار والتصدّع في المجتمع والوطن.. "السائل" عن هويّته وعن ثقافته. والمواطن "المحروم" من حقّه في المشاركة .. من حقّه في التعبير.. ومن حقّه في التنقّل والعيش بكرامة دون خوفٍ أو جوعٍ أو تشريد.

هذه الحقوق، للمواطن العربي "السائل" أو "المحروم"، تتطلّب من الحكومات العربية (وهي هنا ليست في سلّة واحدة بل عليها مسؤولية موحّدة) أن تقرّر فيما بينها (على غرار ما فعلته حكومات أوروبا الغربية رغم ما بين دولها من اختلافات وتاريخ حافل بالصراعات) هذه الحقوق والحرّيات لأبناء الدول العربية:

        (1) حرّية التفكير والمعتقد.

        (2) حرّية القول والتعبير.

        (3) حرّية المرور والتنقّل بين الدول العربية.

        (4) حرّية العمل والاستثمار لأبناء الدول العربية.

أي تطوير شعار "آدم سميث"، مؤسس الفكرة الرأسمالية: "دعْه يمر .. دعه يعمل"، إلى شعارٍ عربي رباعي يقوم على: "دعه يفكّر.. دعه يقول.. دعه يمر.. دعه يعمل"! بحيث يتوفّر للمواطن العربي حق القول والفكر والمعتقد، وفرص العمل المتكافئة، وحرّية التنقّل والاستثمار بين البلدان العربية.

إنّ التحدّيات الخطيرة التي تواجه العرب الآن تتطلّب، في الحدِّ الأدنى، هذه الحريات للمواطنين العرب، كما تستوجب في جزءٍ منها، حدّاً أدنى من التضامن العربي على أسس جديدة تُضمَن فيها "الحرّيات الأربع" وتُحترَم فيها حدود وسيادة دول الجامعة العربية وحقّ كلّ دولة فيها باختيار النظام السياسي الملائم لها.

أمّا على مستوى المعارضات العربية، فإنّ التحديات الراهنة تستوجب منها:

إقرار مبدأ نبذ العنف في عملها السياسي، واتّباع الدعوة السلمية القائمة على الإقناع الحر، والتعامل بالمتاح من أساليب العمل السياسي، ثمّ التمييز الحازم بين معارضة الحكومات وبين تهديم الكيانات، حيث أنّ عدّة قوى عربية تخلط بين صراعها مع السلطات وبين تحطيمها - بوعيٍ أو عن غير وعي- عناصر وحدة المجتمع ومقوّمات وحدته الوطنية.

ولعلَّ من المهمّ أيضاً، أن تدرك المعارضات العربية، أنّ الإصلاح المنشود هو مطلوبٌ لها أولاً.

إنّ الأرض البور قد تصطلح إذا كانت هناك إرادة إنسانية فاعلة ومهيَّأة لعمل الإصلاح.. لكن المعضلة تكبر حين لا تكون الأرض بوراً، بل أرض خيرات وثروات، بينما القيادات هي البور!

               

* (مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن)