يزرعنهم أشجاراً ويودعنهم شهداء

سامح عوده

يزرعنهم أشجاراً ..  ويودعنهم شهداء

صورة من عطاءات المرأة الفلسطينية في عيد الأم

سامح عوده/ فلسطين

[email protected]

عبر تاريخ طويل من المعاناة للشعب الفلسطيني ، تجلت خلاله إبداعات المرأة الفلسطينية وتضحياتها في سبيل وطنها .. وفي سبيل الأرض الطاهرة التي تعيش عليها ، ابتداءً من معاناة النكبة الفلسطينية عام 1948، والسنوات الصعبة في المخيمات والمنافي، وحتى الانتفاضة الثانية _ انتفاضة الأقصى_ وليس انتهاءً بهذا الحصار الخانق الحالي الذي يتعرض له شعبنا في الضفة وغزة  .

لقد أثبتت المرأة الفلسطينية على مدار هذا التاريخ من الألم والمعاناة أنها قادرة على تحدي الصعاب مهما كانت ليس في البيت وحده ولا حتى العمل بل بخوض معركة النضال جنبا الى جنب مع الرجل ، وهي رقم صعب في معادلة النضال الطويل ، فكان التحاقها بالعمل النضالي منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية ، وقد شهدت المعتقلات الصهيونيه على بأس المرأة في تحدي قيود السجان .

ما تزال المرأة الفلسطينية تُثبت يوماً بعد يوم أنها تشكل حالةً نضالية متقدمة في تاريخ القضية الفلسطينية ، فمنذ انطلاقة الثورة الفلسطينية نحو العمل المقاوم، لم تتوانَ المرأه الفلسطينية تقديم نفسها رخيصةً فداءً لوطنها الغالي ، فكانت أسماء عديدة  من المناضلات الفلسطينيات ممن سطّرن أروع ملاحم البطولة بدمائهن وأجسادهن الطاهرة ، فعلمن المحتل ما لم يفهمِ .

وفي انتفاضة الأقصى المباركة ظهرت المرأة الفلسطينية من جديد وألقت بكل ما أوتيت من قوة في الانخراط فيها ، التي قدم الفلسطينيون قوافل من الشهداء والاستشهاديات ، فوقفت المرأة الفلسطينية إلى جانب الرجل في العمل الجهادي المقاوم ، لكن هذه المرة بالأحزمة المفخخة التي يزين بها أجسادهن عوضاً عن القلائد والمجوهرات التي تزين أجساد فتيات اليوم .

وقد تعددت ادوار المرأة الفلسطينية  حيث حظيت بمكانة خاصة داخل أسرتها بفعل نضال طويل، وتراث متراكم من الفعالية القيادية، والسيرة النضالية الحافلة بالعطاء والإنتاج ،  ففي حالة غياب الأب نتيجة للاعتقال او الاستشهاد تشكل المرأة الفلسطينية الرافد الأساس للاسره حيث تتعدد أدوارها من إعالة الأسرة الى تربية الأبناء وإخراجهم للمجتمع قاده قادرين على تحمل المسؤولية التاريخية التي يجب عليهم أن يحملوها .. في ظلِ احتلالٍ بغيضٍ يسرق الأرض ويهتك العرض ، فهل تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا الطوفان  الجارف الذي يجتاح وطنها   ؟

لقد تجلت إبداعاتها في كل شيء   حيث أثبتت أنها قادرة على فعل الأمور الصعبة على الرجال ،  حتى لو كان الموت الذي يخافه البشر .. فقد أدارت دفة الحياة عبر هذا التاريخ من العطاء بحنكة ودراية دون كللٍ او مللٍ او تعب من تحمل هذه الأعباء الثقيلة التي تعجز عن تحملها الجبال..   فقد اعتبرت ( دينمو ) الحياة ومحركها ،  ومنظمها  الرئيس سواء في التربية أم في الإنتاج أم في الحقل السياسي الذي عج بالرموز النسائية البارزة ، التي واكبت مجريات الأحداث على الساحة الفلسطينية  حيث  كان لها لمساتها الواضحة في تاريخ القضية الفلسطينية  ..

ففي الوقت الذي تنشغل فيه نساء العالم في مواكبة أحدث موضى الأزياء ،  وتزين أنفسهن بأحدث ما توصلت اليه تكنولوجيا التجميل ومستحضراته ،.. ومواد الزينة التي بدأت تغزونا من كل الاتجاهات ، عبر الشركات العالمية .. وللأسف الأمريكية والاسرائيليه منها !! حيث تجني المليارات من أموال شعوبنا دون أن ندري إلى أي جيوب تذهب هذه الأموال  ،    وإيجاد أحدث طريقه للروجيم.. والرياضة  النسائية  والبحث عن الخادمة الأفضل في التعامل مع ( الاتيكيت(   ، والسفر والسياحة .. وما إلى ذلك من وسائل  الرفاهية التي نعرفها .

هنا في فلسطين تنشغل الفلسطينيات في إنجاب الأبناء وتربيتهم بما يتناسب وطبيعة الحياة في فلسطين  - وهنا لا اقصد ان المرأة في باقي بقاع الأرض لم تحسن التربية _ بل إن طبيعة الحياة ومجرياتها في فلسطين تلقى بظلالها على حياة المرأة وواقعها فتجعلها أكثر استجابة للظروف ومستجداتها ، لذلك كان لازماً عليها ان تتحمل مناظر الدم والخراب الذي تمارسه آلة الاحتلال المجنونة على هذه الأرض الطاهرة   ، لتدنس ما تبقى من طهارة وقدسية وتاريخ ما يزال شاهداً على صمودها وعنفوانها الأسطوري ، أمام هذا المنظر البشع  تجد المرأة الفلسطينية صلبةً كالصخر قويةً كالفولاذ تتحمل الفاجعة تلو الفاجعه والمصيبة تلو المصيبة   .  

فالمرأة الفلسطينية وأمام طبيعة الحياة وقسوتها .. تربي أطفالها حتى يصبحوا أشجاراً واقفة   تنتصب  في عنان السماء ،  جذورهم في الأرض راسخة ً كأشجار الزيتون ، يصمدون في وجه الرياح والأعاصير فلا ينحنون إلا لله ، يموتون واقفين كما هي الأشجار،   تسقيهم من ماء البطولة وتطعمهم من زاد التضحية ،  حتى يكونوا أهلاً للمسؤولية التي أوكلت إليهم .. وهي  الموت في سبيل الوطن .. والاستشهاد في سبيل قضيتهم العادلة .

لذلك ومع إشراقة كل صباح تجد الأمهات الفلسطينيات ينشغلن في توديع فلذات أكبادهن   ، وفي تشييع جثامينهم الى الآخرة حيث دار الخلود  في الجنة  ، أو في  البحث عن ما تبقى من أطلال منازلهن المدمرة لإعادة بنائها وإعمارها من جديد .. بالرغم من الصعاب التي تواجههن الا أن الصعاب تهون أمام ذلك الهدف المقدس  حتى تستمر الحياة ويزرعن أشجاراً جديدة تحمي الأرض وتحافظ عليها .