خارج السِّرب

بسام الهلسه

بسام الهلسه

[email protected]

* عندما كتبنا مع قلة من الكتّاب والمعلقين غداة انتخاب أوباما رئيساً للولايات المتحدة، مُشكِّكين في جدية التزامه بالتغيير كما وعد خلال حملته الانتخابية، بدا وكأننا نغرِّدُ خارج السرب، أو كالشخص المشاكس المزعج الذي يفسد على المحتفلين بهجتهم، وآمالهم وتوقعاتهم التي بلغت ذروتها –عربياً- بعد إلقاء خطابه في جامعة القاهرة.

لم نكن نصدر عن سوء نية مسبق، ولا نتكهن بالغيب، عندما وصفنا أداءه بأنه لا يزيد عن كونه حملة علاقات عامة هدفها تزيين وإعادة تسويق السياسة الأميركية التي زاد سلفه بوش الابن من قبحها في نظر العالم أجمع، وخصوصاً في نظر العرب والمسلمين. كنا ببساطة، نتتبع حركة مراكز القوى الكبرى الفاعلة في الولايات المتحدة، ومصالحها الحقيقية، وتأثيرها في السياسة وفي القرار الأميركي، ونقدِّر تبعاً لذلك التوجهات والمواقف المتوقعة والمرجحة التي ستتخذها واشنطن إزاء قضايانا.

لم تمض سوى شهور قليلة حتى "ذاب الثلج وبان المرج" كما يقول المثل. وكالعادة، كان الموقف من القضية الفلسطينية هو ميدان الاختبار الحقيقي للسياسة الأميركية تجاه العرب.

جرى الاختبار الأول في الموقف من تقرير القاضي غولدستون، فقد كان بوسع الإدارة الأميركية أن توعز لمندوبها بالامتناع عن التصويت (وليس التصويت تأييداً للتقرير فهذا غير وارد أصلاً)، لو كانت تريد حقاً إبلاغ "إسرائيل" رسالة اعتراض على سياساتها، أو كانت تريد حقاً الضغط عليها –ولو قليلاً- ومن مدخل قانوني دولي. لكنها كررت ما فعلته الإدارات الأميركية السابقة في الوقوف كلياً إلى جانب "إسرائيل" عبر سعيها المحموم لإفشال التصويت على التقرير أو إفراغه من مضمونه.

    وجرى الاختبار الثاني للإدارة الأميركية، في موقفها من التوسع الاستيطاني في القدس والضفة الغربية. وقد كان مسلكها في هذا الشأن فاضحاً ومخزياً على نحو جلي. ذلك أنها هي التي طالبت بوقف الاستيطان (وهو مطلب جرى طرحه في مؤتمر أنابوليس في أواخر عهد بوش الابن) كبرهانٍ منها على جدية مسعاها في حل الصراع العربي- الإسرائيلي.

فبعدما قام مبعوثها ميتشل بعدة جولات في المنطقة، وجرّب أنواع الطعام فيها وتعرَّف إلى مفردات جديدة في اللغتين العربية والعبرية، عادت الإدارة الأميركية لتتبنى بوضوح الموقف الإسرائيلي: الدخول في مفاوضات مباشرة دون شروط مسبقة (من جانب العرب طبعاً) فيما يُتْرك لإسرائيل المضي في فرض وقائع على الأرض الفلسطينية والعربية تقوِّض كل ما يجري التفاوض عليه! إضافة إلى القبول بشرطها وهو الاعتراف بها –ليس كدولة قائمة بحكم الأمر الواقع فقط- بل كدولة يهودية. وهو ما يعني قبول العرب –مُسبقاً- بإسقاط حق عودة المُهجَّرين (اللاجئين)، والقبول أيضاً بحق إسرائيل بالتخلص حينما يحين الوقت، من العرب الفلسطينيين الذين ظلوا مقيمين في فلسطين المحتلة عام 1948، وبحرمانهم من حقوقهم كمرحلة أولى!

    أيضاً، ورغم وفاء السلطة الفلسطينية بالتزاماتها في خريطة الطريق، وصِدقيّة رئيسها محمود عباس عند الإدارة الأميركية، فإنها لم تقبل دعوته لإعلان دولة فلسطينية في حدود الأراضي المحتلة في حزيران- يونيو 1967م، ورفضتها فوراً بحجة أنها إجراء اُحادي! وكأن "إسرائيل" قامت على أنقاض فلسطين عام 1948م، وتوسعت في الاحتلال عام 1967 بالتفاهم والتراضي مع الفلسطينيين والعرب!

*    *    *

    كما كان الحال بالنسبة للموقف من فلسطين، كذلك كان موقف الإدارة فيما يخص احتلالها للعراق. فالحديث عن "خطأ" غزو العراق، كان للإستهلاك الشعبي الداخلي الأميركي الساخط. والحديث عن الانسحاب، تبيَّن أنه لم يزد عن كونه إعادة تموضع محدودة للقوات الاميركية المقاتلة المنتشرة في المدن والأحياء العراقية لضمان سلامتها، فيما تمضي عملية بناء القواعد العسكرية كما هو مقرر لها من قبل، وتمضي معها عملية تكريس تمزيق الأرض العراقية والشعب العراقي، إلى كيانات: عِرقيّة وطائفية ومناطقية وقَبَليَّة.

    وإذا كانت الأقوالُ حَمَّالة أوجهٍ، فإن الأفعال جَليَّةٌ بيِّنة. وهي تكشف بوضوح عن نية الولايات المتحدة في البقاء في العراق والاحتفاظ به تحت سيطرتها المباشرة. وإذا كان المواطنون والمواطنات الأميركيون البسطاء يصرخون مطالبين بعودة جيوشهم وأبنائهم وبناتهم إلى الديار نتيجة الخسائر والتكلفة العالية، فإن أصحاب ومدراء شركات السلاح والنفط، يفركون أيديهم فرحاً بما يجنونه من أرباح. والإدارة الأميركية تعرف جيداً بالطبع لمن تصغي السمع من الفريقين!

وهذا ما يتبدى في الجدل الدائر في واشنطن حول الاستراتيجية الواجب اتباعها في أفغانستان. فرغم الخلاف الواضح، إلا أن صوت العسكر المطالبين بزيادة القوات لضمان فاعليتها في مواجهة المقاومة الأفغانية المتنامية، يبدو الأقوى.

*    *    *

لئن كنا لا نأسى إزاء فجيعة آمال المُؤمِلين بأوباما وإدارته  ( ليس من باب إفتقاد التعاطف الإنساني، بل لأننا لم نتوقع منه سوى ما هو عليه)، فإن أسانا كبير لما هي عليه حال العرب والمسلمين الذين يُبدون عزيمة قوية، ولكن فقط في "الصراع" فيما بينهم، حتى في مباراة تنافسية عابرة بكرة القدم بين فريقين عربيين!

*    *    *

لا بأس! لا يضيرنا التحليق بعيداً...

سنظل مع الخارجين على السّرب!