يا شام

عبد الله الطنطاوي

يا شام

عبد الله الطنطاوي

كنت إلى جانب صديقي وصاحبي سليم في سيارته، نجوب شوارع جدّة الجميلة، ونحن في طريقنا إلى الإفطار عند أحد الأحبة، فأدار مفتاح المسجل، وإذا نشيد عذب شدّني إليه، واستوقفني عن الكلام، ثم صرفني عن رؤية أيّ شيء في الشوارع، وكانت كلمات الأغنية تهزّني من الأعماق، وكان الأداء واللحن رائعين..

كانت الأغنية تنادي سورية الحبيبة بهذه الكلمات الأواسر:

ارفـعـي  الـرأس أبيّاً من iiجديدْ
أنـتِ  لـلأمـجـادِ صرحٌ iiشامخٌ
ارفـعـي الرأس، و عودي iiللحياةْ
وامـنـحـي الأبـنـاء أمناً iiدافئاً
ارفـعـي الرأس، ونادي iiبالجموعْ
أعـلـني  أن الشـّتا ولـّى، iiوقدْ
ذكّـري الأبـنـاءَ أيـامَ iiالـسلامْ
ربـمـا  مـن أجـل عينيكِ رأَوْا







 
وانـسـفي الأغلال نسفاً، iiوالقيودْ
أنـت أرضُ الشامِ،لا أرض iiالعبيدْ
لـمـلـمي  كلَّ الجراحِ iiالغائراتْ
أنتِ  أرض الخير،لا أرض iiالطغاةْ
إنـنـي أمـنـح قـلـبي للجميعْ
أقـبـلـتْ يـا شـامُ أيامُ iiالربيعْ
كـيـف عاشوا في أمانٍ، في iiوئامْ
أن يعيشوا الحبَّ،أن ينسوا الخصامْ

إنها تنادي سورية الأسيرة التي أرادها الظالمون أن تكون أرضاً للعبيد، مزرعة لهم ولأولادهم، وأرادوا أن يجعلوها مُلْكاً عضوضاً لآل (أسد) وزمرته الفاسدة المارقة..

يناديها الشاعر أن ترفع رأسها من جديد، فهي أرض الشام، أرض الخير، لا أرض الطغاة المناكيد.

وتنتهي الأغنية البالغة التأثير، لتبدأ أغنية جديدة لا تقل عنها روعة وتأثيراً:

إنـه الـشامُ ، iiهاهنا
مـوطـنٌ جلَّ حسنُهُ
زرقـة البحر iiوالسما
بـهجة الأرض iiكلما
مـوطن الحبّ ضمَّنا
كـم  عرفنا في iiحبّهِ
إنـه  الـشام ، للعلا
حـبُّـهُ  فـي iiقلوبنا







 
يشرقُ  الحبُّ iiوالسنا
طـاب للروح موطنا
زيَّـنت  ذلك iiالحمى
جادها الغيثُ أو همى
بـيـن جـنبيه iiكلَّنا
مـن عناءٍ، ومن iiهنا
كـان  مهوىً وموئلا
والـهـوى  ما iiتبدّلا

وقد زادها اللحن والأداء جمالاً على جمال.

وانتهت الأغنية الثانية، وأمسكتُ قلبي مخافة أن يصاب بما لا تصاب به قلوب العاشقين، فأوقفت المسجل، وسألت صاحبي: ما هذا؟

قال: هذا شريط جديد بعنوان (يا شام) ظهر حديثاً، وصار في كل بيت وسيارة.

قلت: وسيكون في كل قلب وعقل إن شاء الله.

وأهداني صديقي الشريط، ولبثنا صامتين، حتى وصلنا إلى هدفنا..

وفي مأواي عدت أستمع إلى الشريط من جديد، وكان مؤلفاً من ست أغنيات لاهبات ملهبات.. تقول كلمات الأغنية الثالثة، وهي بعنوان (حنين):

تـغـرَّبـنا  ، ولكن ما iiنسينا
فحُبُّ الشامِ في الأرواح يسري
نـحِـنُّ إلى دمشقَ، إلى iiحماةِ
لـبـحـرِ  الـلاذقيةِ، iiللحياةِ
نـحِـنُّ  إلى ربوعٍ قد iiعرفنا
أتـذكـرنا  الملاعبُ لو iiرأتنا
تُـرى، أيـكونُ في يومٍ iiإيابُ
أنـرجعُ، أم يطولُ بنا iiالغيابُ







 
ولـن نـنسى هواها ما iiحيينا
عـبيراً  زاكياً ، صوتاً iiحنونا
إلـى  حلبٍ وحمصٍ iiوالفراتِ
هـنـاك،  فـقد تغرَّبنا iiسنينا
بـهـا  الدنيا، وفيها قد iiدَرَجْنا
فـإن نـسـيتْ ، فإنّا iiمانسينا
ويـلـقـانا الأحبّةُ والصّحابُ
أجـيـبـونا  ، فقدْ ذبُْنا iiحنينا

ومن منا يستطيع أن ينسى وطنه، مدينته، قريته، حارته، مدرسته، أهله، جيرانه..

فحبّ الشام في الأرواح يسري       عبيراً زاكياً، صوتاً حنونا

وكانت الأغنية الرابعة بعنوان (سورية) وما أدراك ما سورية، وما حبُّها في قلوب أبنائها الذين شرّدهم الظالمون. تقول كلمات الأغنية:

سـوريـةُ مـجدٌ iiوحضارةْ
رغـمَ  الـلـيلِ العابرِ iiفيها
الـفـجـر سيشرقُ iiمبتسماً
يـالـيـلُ، أيـسمعنا iiالليلُ
يـالـيـلُ كـفـانا iiظُلُماتٍ
يـالـيـلُ كـفـانا iiظُلُماتٍ
سـوريـة ، يـا شعباً iiحرَّا
سـوريـة  لـلـكلّ iiستبقى
الإعـصـار  سيرحلُ iiعنها








 
وسـتبقى في الأرضِ iiمنارةْ
مـهـمـا  قد أرخى أستارهْ
والـمـأسـور يـفكُّ إسارهْ
مـهـمـا نـاديـنا: ياليلُ؟ْ
فـي الـظُلمةِ يتهاوى العدلُ
فـي الـظلمة قد ضاع الكلُّ
كـم  ثارَ، وكم صنع iiالفجرا
تعطي الحبَّ، وتهدي العطرا
وسـتـرجع  جنّاتٍ iiخضرا

والأغنية الخامسة بعنوان (وطني الحبيب) حافلة بالمشاعر الجياشة، كأخواتها، اسمعها وحاول أن تتمالك أعصابك:       

آهٍ  عـلى وطني الحبيبِ، متى الحياةُ به iiتطيبْ
يشكو الغريبَ، ويشتكي من هول ما فعل القريبْ
آهٍ  على وطني الحبيبِ، متى سينهض من iiجديد
ويـعـود فـيـه الناس أحراراً، وتنكسر iiالقيود
آهٍ عـلـى وطـني الحبيبِ، وكلُّ ما فيه iiجميلْ
أمـا  الـهـوانُ فـعـابـرٌ فيه، كأبناء iiالسبيلْ
آهٍ  عـلـى وطـنـي ، يعاني كلُّ حرٍ في iiمداهْ
والـزاعـمـون لـه الـحمايةَ، منهمُ يلقى أساهْ
آهٍ عـلـى وطـني، غداً لو هبَّ وانتزع الأمانْ
فـمـتى ستشفى روحُهُ من ألف جرحٍ يا زمانْ؟

والأغنية السادسة بعنوان (وطني) ومن يقوى على سماعها دون أن يذرف العبرات مدراراً:

مـهما  رحلتُ iiأنا
مـهما رأيتُ iiأسىً
سـأظلُّ يا iiوطني
أشـتـاقـهُ جهراً
أشـتـاقهُ  iiطوعاً
أدعـو لـه iiأبـداً
أشـتـاقُ iiإخواني
ومـلاعـبي  iiفيه
قـل يا زمانُ، iiأما
لا  ينقضي iiعجبي
كم  عشتُ في iiبلد
وعجزتُ أن أنسى











 
مـتـغـرّباً iiزَمَنا
فـي غربتي iiوهنا
بـالشوقِ  iiمُرتهنا
أشـتـاقـهُ  iiسرَّأ
أشـتـاقـهُ iiقهرا
أرجـو له iiالخيرا
أهـلي  و iiخِلاني
فـتفيضُ iiأشجاني
مـن  موعدٍ iiدانِ؟
مـنّي، ومن أَرَبي
وقـرأتُ من iiأدبِ
يـوماً هوى iiحلبِ

لا أملك أن أعلق على كلمات هذا الشريط إلا أن أقول:

بارك الله شاعره، وملحنه، ومنشده، ومخرجه، وموزّعه، وكل من يسهم في ترويجه، وشراء ما يمكنه منه، وإهدائه إلى من يعرف ومن لا يعرف من الناس، فالناس يظنون سورية ما يرونها الآن تحت وطأة الجلادين الفاسدين المفسدين، ونسوا سورية الأمجاد والماجدين، سورية الحرية والأحرار، سورية البطولة والأبطال، سورية التسامح والتآخي، فقد استحالت في عهد (الأسدين) الـ.. خراباً يباباً في كل شيء..

وأدعو الشعراء الأحرار إلى الإسهام في تحرير سورية، بأشعارهم الثائرة المثيرة.. بمثل هذه الأغنيات التي سوف تسهم في تثوير الشعب ضدّ حاكميه الظالمين المستبدين الحاقدين.. وقد قرأتم جميعاً أثر الشعراء والمغنين في تثوير الفرنسيين ضد طواغيت فرنسا، وكانت الثورة الفرنسية، وكان هدم الباستيل الذي هو بمثابة فندق خمس نجوم وأكثر، إذا ما قيس بسجون النظام الأسدي، التي ستبقى – على الزمان – مضرب المثل في الوحشية والحقد والإجرام.