ثقافة وإبداع وتاريخ في نابلس "البوح التاسع"

clip_image002_43b76.jpg

clip_image004_864c9.jpg

clip_image006_1e87b.jpg

clip_image008_afb52.jpg

كان صباحا لطيفا وجميلا في ذلك اليوم التاسع من كانون ثاني من العام الماضي حين كان موعدي لجولة جديدة في نابلس وزيارة صرحها الثقافي الكبير مكتبة بلدية نابلس إضافة لجولة في حارة الحبلة وصبانة النمر وقصور آل النمر، فاحتسيت القهوة على شرفة وكني في قريتي جيوس وانتظرت وصول صديقي الأستاذ سامح سمحة، وهو من رافقني بالعديد من الجولات في الوطن وعرفني على مناطق بلدتي التي لم أكن أعرفها من قبل، وحين تحركنا  كنا نتجه عبر طريق ريفي إلى نابلس متمتعين بالشمس الدافئة وحقول الزيتون عبر الطريق حتى وصلنا ضاحية رفيديا على أطراف نابلس، ومن هناك اتصلت هاتفيا بالدكتورة لينا الشخشير التي تطوعت بانتماء وطني لتنسيق وترتيب برنامجي في زيارات نابلس وصاحبة الدعوة من البداية، فأخبرتني أن نتجه إلى مكتبة بلدية نابلس حيث نسقت زيارتنا مع مسؤولة المعلومات في المكتبة الأستاذة أماني النوري.

ما أن صعدنا الدرج المؤدي لحديقة المكتبة حتى لفت نظري المبنى التراثي الذي أنشأت المكتبة فيه، وهو مبنى يعود لفترة نهاية الحكم العثماني ليكون مكانا لراحة كبار الضباط وهو مبني بالحجارة الصلبة وأمامه حديقة واسعة وجميلة مزروعة بالأشجار المختلفة ومنها الحمضيات إضافة للأزهار الجميلة وتتوسطها نافورة ماء، وكانت هي الحديقة العامة لنابلس وعرفت باسم حديقة المنشية، وتشير المصادر المختلفة أن هذا المبنى استخدم بعد نهاية الحكم العثماني مقرا لبعض الأحزاب الفلسطينية، وفيما بعد استخدم كدار سينما قبل أن يتحول إلى مقر لبلدية نابلس، وعام 1960 قامت البلدية بافتتاح المكتبة العامة فيها، والمبنى مكون من ثلاثة طوابق بمساحة كبيرة ونوافذه طولية مستطيلة واسعة لتمنح المبنى نسبة واسعة من نور الشمس، ومسقوف بالقرميد والطابق الثالث له شرفة جميلة تطل على المدينة وذات باب تراثي حيث بني على الشكل القوسي من الأعلى.

على بوابة المكتبة استقبلتنا الأستاذة أماني النوري بابتسامة رقيقة ورحبت بنا واتجهت بنا لمكتب الأستاذ ضرار طوقان مدير المكتبة، وكنت قد التقيت الأستاذة أماني في معرض الكتاب في رام الله قبل عدة أعوام وتعرفت إليها، وبالأستاذ ضرار في مؤتمر متخصص بأدب الأطفال في رام الله أيضا، فاستقبلنا الأستاذ ضرار بكل ترحاب وبابتسامته التي لا تفارق وجهه وخفة دمه ولطفه، فاحتسينا القهوة وحدثنا عن المكتبة مطولا، ومن ضمن ما قاله أن شعار المكتبة هو أن الكتاب عودة للأخلاق، وأن المكتبة استقبلت أكثر من 150 ألف زائر واستقبلت أكثر من 200 مدرسة وأن المكتبة كانت حركة الإعارة الداخلية والخارجية لعام 2017 فيها 56000 إعارة منها 22000 إعارة خارجية، وبلغ عدد الكتب فيها 130000 كتاب، وتقوم بشكل مستمر في حديقتها بنشاطات ثقافية مختلفة وأمسيات شعرية وحفلات إشهار كتب وندوات ومحاضرات، كما أن المكتبة تطورت تكنولوجيا بنسبة عالية بالتصنيف والإعارة وانشاء موقع إلكترونيّ وتعمل إدارة المكتبة بخطوات جادة وحثيثة نحو المكتبة الرقمية، وأشار أنه في الأيام التسعة الأولى لعام 2018 قبل زيارتنا للمكتبة بلغت عدد الاشتراكات الجديدة والمجددة 1613 اشتراك، وأنه فقط في العام 2017 بلغ زوار المكتبة 82 ألف زائر منهم 17 ألف للأرشيف و25 ألفا للاستشهادات المرجعية والوثائقية ولقسم الأطفال 10 آلاف زائر.

بعد السماع للشرح المطول من الأستاذ ضرار رافقتنا الأستاذة أماني في جولة في أنحاء المكتبة وأقسامها وهي تعطينا معلومات هامة عن كل قسم نتجول به، فتجولنا في القاعة العامة وقسم الأطفال وشاهدنا آلاف  الكتب وعدد جيد من المراجعين والقراء رغم أن الوقت ما زال مبكرا، ومن القاعة العامة كنا نصعد للأقسام الأخرى في المكتبة فزرنا قسم الماجستير والأبحاث وقسم الوثائق والأرشيف وقسم للوثائق التاريخية ويضم أرشيف الدوريات العربية والأجنبية إضافة لوثائق بلدية نابلس منذ تم تأسيسها عام 1869م إضافة لوثائق دوائر الأوقاف في عهد الاحتلال البريطاني، وهذه الوثائق تشكل ثروة مهمة للباحثين ومعدي الدراسات، إضافة لأرشيف صحفي يضم الصحف التي كانت تصدر في فلسطين والصحف الأردنية وبعض الصحف العربية مثل صحيفة الأهرام.

ومن أهم أقسام المكتبة التي تجولنا بها وتركت بنا أثر كبير هو مكتبة الأسير الفلسطيني وهذا القسم لم أراه في البلديات العامة الأخرى التي جُبتُ أركانها في الضفة الفلسطينية، وهذا القسم يحتوي الكتب التي كانت في سجني نابلس والجنيد قبل أن ينسحب الاحتلال من مدينة نابلس وتسليمها للسلطة الفلسطينية، ويرى على هذه الكتب تعليقات بخط الأسرى وتوقيعات وملاحظات، إضافة لمئات الدفاتر والأوراق بخط الأسرى أنفسهم، إضافة لمكتبات تحمل اسم د. راسم يونس ومكتبة المرحوم قدري طوقان ومكتبة الدكتور محمود عطا الله وهي مكتبات خاصة جرى التبرع بها بالكامل لمكتبة البلدية فأضافت للمكتبة إضافات أخرى تعيد للذاكرة كيف بدأت فكرة إنشاء المكتبة، حيث بدأت فكرة إنشاء المكتبة بـ 1000 كتاب كانت تبرعات من المواطنين والمهتمين وتبرعات أعضاء المجلس البلدي وقسم تم شراءه، لتصبح المكتبة من أكبر وأهم وأغنى المكتبات العامة التابعة للبلديات في المدن الفلسطينية وافتتحها الملك حسين حين إعلانها رسميا بحضور كبير قبل سقوط الضفة الغربية تحت الاحتلال الصهيوني عام 1967.

أنهيت وصديقي الأستاذ سامح سمحة جولتنا في أرجاء هذا الصرح الثقافي الكبير وودعنا الأستاذ ضرار طوقان والعاملين في المكتبة وخرجنا برفقة الأستاذة أماني النوري في جولة بالحديقة الجميلة، حتى حضرت د.. لينا الشخشير برفقة د. مها النمر لنكمل جولتنا في حارة الحبلة وصبانة آل النمر وصولا إلى قصور آل النمر التراثية، فودعنا الأستاذة أماني وشكرناها على جهودها معنا متجهين إلى حارة الحبلة حيث عبق التراث والتاريخ وحكايات أخرى من حكايات تاريخ نابلس التي تروي بعض من تاريخ الأجداد.

وصلنا حارة الحبلة وهي أحد الأحياء التراثية في الجهة الشمالية الشرقية من البلدة التراثية، فنابلس التراثية مكونة من ستة أحياء يطلق عليها اسم حارات نابلس، وهي حارة العقبة وحارة الياسمين والقريون والحبلة والقيسارية والغرب، وحارة الحبلة تضم العديد من المعالم الأثرية والتراثية والتي سيكون عنها حديث لاحق مثل مقام الشيخ مسلم ومسجد الأربعين، إضافة لقصر آغا النمر وهو من ضمن برنامجنا في الجولة برفقة د. مها النمر التي فرغت نفسها رغم مشاغلها بعيادتها لترافقنا هذه الجولة، وحارة الحبلة يعود اسمها حسب مقولتين: الأولى أنه نسبة لنظام بناء شوارعها، والمقولة الثانية لكونها كانت محاطة بالحقول والبساتين المزروعة وأنا ارجح ذلك فنحن في فلسطين وخاصة في الريف اعتدنا أن نسمي الأرض المزروعة بالبساتين بكلمة (الحبلة)، والحبلة كحارة لها عشرة مداخل وعانت من الاحتلال كثيرا لقربها من الشارع الرئيس فكان أطفال الحجارة يقذفون سيارات الاحتلال والجيش بالحجارة ويختفون في أزقة ودروب الحارة فلا يتمكن منهم الاحتلال، فيصب اضطهاده وقمعه على الحارة بأكملها، وشهدت الحارة عدد كبير من أبطال المقاومة والشهداء حتى أن الحارة تعرضت لتجريف مساحات منها في اجتياح 2002م، وحارة الحبلة لها تاريخ قديم وهي من حيث المساحة من أكبر الحارات ومبانيها التراثية القائمة تعود للفترة المملوكية والفترة العثمانية، وهذا ما سيكون الحديث عنه في البوح القادم إن شاء الله.

   نسمات ناعمة تداعبني في حديقة منزل ابني المعتز بالله في الدوحة/ قطر حيث أصر على أن نزوره وزوجتي، أحتسي القهوة واستمع لشدو فيروز وهي تشدو: "ذاكر يا ترى سورنا الأخضرا حيث كانت تفيء الطيور، يومها حبنا كان في حينا قصة الورد لحن الزهور" فأستعيد ذاكرة جولاتي في نابلس التراث والحضارة والتاريخ وبعض من حكايات شعبنا عبر التاريخ فأهمس:

صباحك أجمل يا نابلس.. صباحك أجمل يا وطني...

وسوم: العدد 811