نيروبي

د. عارف كرخي أبو خضيري

مدينة الشّعر والسّحر والجمال

د. عارف كرخي أبو خضيري

[email protected]

كان صديقي الشاعر الكيني المعروف كريستوفر أكويموا قد أخبرني في رسالة له في عام 2011م عن عزم الشعراء الكينيين على إقامة مهرجان شعري دولي في نيروبي ، وأعرب عن رغبة بلاده في توجيه الدعوة لي لحضور هذا الاحتفال ؛ فسررت بهذا الخبر أيّما سرور ، وكنت أتوقع حينذاك أن يقام هذا الحفل في عام 2012م ، بيْد أنه مرّ عام ولم يصلني عن مهرجانهم المرتقب أيّ خبر ، ثم فوجئت في أول هذا العام بوصول دعوة من كريستوفر، بوصفه مديراً للمهرجان ، فسررت كثيراُ لأن هذا أول احتفال شعري دولي يقام في كينيا ، وهو حدث تاريخي بكلّ ما تحمله الكلمة من معانٍ، ولاسيما أن كينيا بلد أفريقي ، ولم يسبق لي – رغم كثرة المهرجانات التي دعيت لإلقاء شعري فيها- حضور مهرجانات شعرية في أفريقيا ، على الرغم من أن بلدي مصر تعدّ جزءاُ منها.هذا فضلاُ عن أن أحد كتّابها المرموقين ، وهو الشاعر والناقد الكيني المعروف خوانجا أوكويمبا كتب عني وعن ديواني الإنجليزي " الغزليات" مقالاً بديعاً نشره في عموده الأدبي في جريدة "ستار" في نيروبي، ووصفني فيه بشاعر الألحان العربية في اللغة الإنجليزية.

 وسارعت بالردّ على رسالة كريستوفر، وهنأته على ثقة بلاده به، وشكرته على دعوته، وتمنيت له النجاح في عمله الأدبي الكبير. ومنذ ذلك الوقت طفِق كريستوفر يرسل لي رسائل كثيرة ليحثني على حضور المهرجان ، وذكر لي في إحدى رسائله إليّ أن ناشر ديواني الكيني المعروف الدكتور ماتوندا نيانشاما سيحضر من كندا خصيصا ليقابلني ويرحب بي في بلده، وذكر أيضا أن عدداُ من أصدقائي الشعراء الذين التقيت بهم في مهرجان الشعر العالمي العشرين في ميليجين بكولومبيا في 2010م ، كالشاعر الفلبيني جيمينو إتش أباد ، والشاعر الألباني فلادمير ماركو ، والشاعرة السلفادورية لوري جارسيا دونيس، سيحضرون إلى نيروبي للمشاركة في المهرجان ، فعزمت على السفر وتوكّلت على الله ، مع أنني سأسافر في العشرين من هذا الشهر نفسه إلى مقدونيا تلبية لدعوة صديقي الشاعر المقدوني مبته سيتراكتسي للمشاركة في مهرجان الشعر الدولي الثاني والخمسين في مدينة ستروجا.

 وفي يوم الجمعة الموافق 30 من يوليه سافرت إلى كوالالمبور لزيارة أسرتي لأقضي معهم يوماُ قبل سفري إلى نيروبي . وفي ليلة وصولي إلى ماليزيا تلقيت رسالة من الشاعر والناقد والكاتب الكيني المعروف خوانجا أوكويمبا يخبرني فيها بأنه سمع عن مشاركتي المرتقبة في المهرجان ، ويدعوني فيها لأكون ضيفاُ في برنامجه الأدبي " مقهى الكتاب " والذي يذاع في يوم السبت من كلّ أسبوع ، ويستضيف فيه كبار الكتّاب والشعراء الأفريقيين الذين يزورون بلاده.

 وفي مساء اليوم التالي مضيت إلى المطار، وفي الطريق انطلق خيالي يدور في فلك تلك السمراء الأفريقية التي تبدّت لي حوريّة هبطت من الفردوس الأعلى تارة ، ولاحت زنبقة يانعة من زنابق الليل الساحر تارة أخرى، وأخذت أتطلع إلى رؤية نيروبي الحسناء الفاتنة، وأتخيّل أهلها ومبانيها وشوارعها ، وكنت قد كتبت عنها البارحة قصيدة قلت فيها :

يا نيروبي ،

ياسمرائي الأفريقيهْ ،

يا زنبقة الليل السّاحر،

يا كروان رياض الشرق ،

جئنا إليكِ نبوح بعشْق

ملأ علينا حنايا القلب ،

جئنا إليكِ لنسمع شدواُ

من شفتيكِ كمثل الشهْدِ ،

جئنا لنعرف كيف نصير

جسداُ واحدْ ..

قلباُ واحدْ ..

روحاُ واحدْ ،

جئنا لنعرف

كيف نغرس في عالمنا

نوْر العدلِ ،

وزهْر الأملِ ،

وورْد الصدق.

 وأذكر أن كريستوفر قد أرسل لي رسالة يطلب مني ملخصاً للبحث الذي سألقيه في الاحتفال بالإنجليزية عن "الشعر العربي " ، فأرسلته له ، وكنت قد أرسلت له من قبل خمس قصائد عربية قمت بترجمتها إلى اللغة الإنجليزية حتى يقرأها شاعر من شعرائهم بعد أن ألقي القصائد بالعربية. وقال لي كريستوفر إنهم كانوا يتوقعون أن ألقي قصائد من دواويني الإنجليزية ،وخاصة أن ديواني الإنجليزي الأخير "الغزليات" كان قد نشر في نيروبي في الوقت نفسه الذي نشر فيه في كندا، وأخبرني أن الناس في نيروبي يعرفون الآن هذا الديوان معرفة جيّدة، إلا أنني أخبرته بأني شاعر عربي في المقام الأول،وأفضّل أن ألقي قصائدي العربية ومن بينها قصيدة " نيروبي " ، وأربع قصائد أخرى من أحدث دواويني العربية ( ليالي غرناطة) ، وهي : أغنية برازيلية- الموسيقا- الفراشة- رقصة المروحة.ثم أخذت معي خمس قصائد أخرى مع ترجماتها الإنجليزية لعلّي أحتاج إلى قراءتها هناك ، إما في أمسيات المهرجان الشعري ، وإما في الرحلات التي أعدّوها لي في بعض المدارس والجامعات في مدينة " كيسي ".

 وسافرت من كوالالمبور على متن الطيران التايلندي . وفي الساعة التاسعة تماماً أقلعت الطائرة، وبعد ساعتين ونصف هبطنا في مطار بانكوك، وأحسست فيه كأني في أحد المطارات الأوربية لكثرة السائحين الأجانب به . وقضيت في المطار ساعتين ثم سافرت على متن الطيران الكيني إلى نيروبي في الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل. والحق أن المضيفات الكينيات بَدَوْنَ كالمضيفات التايلانديات في أدبهن ورقتهن ، وإن كن يتميّزن عن التايلانديات بسمرتهن وخفة دمهن. وقد استغرقت الرحلة تسع ساعات ، ثم هبطنا في مطار نيروبي ، وقد راعني ما أعلنته المضيفة عن أرقام البوابات التي يسافر منها المسافرون من مطارها إلى بقية بلدان أفريقيا، وتذكرت إعلاناً شبيهاً بذلك كنت قد سمعته في رحلتي لباريس منذ ثلاث سنوات مضت. وملأت بطاقة الوصول وهي في حجم الكف تشبه بطاقات الوصول بمطار مصر، وتحوي معلومات قليلة عن الراكب: الاسم والوظيفة ورقم الجواز والجنسية ومكان الإقامة في نيروبي،ولاشيء أكثر من ذلك. وفي المطار انسابت اللغة السواحيلية إلى مسامعي في سلاسة ونعومة كألحان موسيقية عذبة ،تسري فيها ألفاظ عربية كثيرة من مثل ( مسافري) أي المسافر و(سواسوا) أي لابأس و ( شكراً) وغيرها.ولم تستغرق الإجراءات في جوازات المطار سوى دقائق معدودات ، ولم يكن معي غير حقيبة صغيرة تحوي بعض كتبي ودواويني الشعرية لإهدائها لبعض الأصدقاء من الشعراء. وسرعان ما أقبل شاب كيني ليصحبني إلى خارج المطار ، وكان هناك شاب أسمر آخر في انتظاري ،وحين رآني تقدّم إليّ قائلاً : أنت الشاعر المصري ضيف المهرجان؟ فقلت نعم ، فمدّ يده إليّ مصافحاً، ثم ذكر لي أنه شاعر نيجيري واسمه أونارينده فينفولوا، فرحبت به بدوري، ومضينا معاً إلى السيارة التي أرسلوها لنا ، ثم قابلنا شاعرين كينيين من شعراء المهرجان كانا في انتظارنا ، وبعد لحظات أقبلت الشاعرة اللتوانية ساره بويسون وزوجها المصوّر فيتاويتس سوسيفويس. وعند ذلك بدأنا رحلتنا إلى مدينة " كيسي" ، وكان كريستوفر قد أخبرني في رسالة منه أن الرحلة من المطار لمدينة " كيسي"، التي يقام فيها المهرجان، تستغرق نحو أربع ساعات ، ولكنها استغرقت في الحقيقة سبع ساعات ؛ لأننا توقفنا في الطريق أكثر من مرة للاستراحة أو لتناول الطعام والشراب ، وكانت الرحلة قد بدأت في التاسعة صباحاً ، وأخذت أنظر إلى نيروبي من نافذة السيارة في شغف وشوق، وبدت لي مدينة جميلة عامرة بالمصانع والسيارات، بيْد أن ما رأيته فيها لا ينطبق تماماً على ما تخيلته عنها، أو الصورة التي رسمتها لها في قصيدتي التي دبّجتها فيها.فنيروبي التي رأيتها الآن بلدة واقعية مكافحة تشق طريقها في الحياة بقوة وعزم، وناسها طيبون يكدحون ويتعبون من أجل لقمة العيش مثل الناس في أيّ بلد آخر كبلدي مصر أو كولومبيا أو إندونيسيا أو المكسيك أو غيرها من بلاد الشرق كالهند وباكستان والفلبين، والذين يحققون النجاح من الشباب والشعراء والفنانبن والعلماء في هذه البلاد جديرون بالإجلال والإكبار ؛ لأنهم شقوا طريقهم بين الصخور حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه من مكانة، وحققوا ما تمنوه من طموحات وآمال.والغريب أنه على الرغم من قسوة الحياة التي رسمت على الوجوه السمراء خطوطاً من الجهامة والجدة ، فإنك لا تعدم أن ترى شفاههم الممتلئة تفتر – بين الحين والحين – عن ابتسامة عريضة تلمع خلفها أسنانهم البيضاء ، وتجلجل أفواههم النقيّة بقهقهات تخرج من قلوب بيضاء مفعمة بالطيبة والمودّة والرضا.

 و على جانبي الطريق الطويل الممتد إلى مدينة " كيسي" بدت لنا الغابات الكثيفة الداكنة الخضرة كجياد دهم تركض صوبنا في أعدادٍ غفيرة لاحصر لها. ثم وقفنا عند سوق من الأسواق، وانضم إلينا شاب أسمر ناداني باسمي ، ورحّب بي كمن يعرفني معرفة وثيقة من قبل، ولعله قرأ سيرتي الذاتية في موقع المهرجان. وعرّفني بنفسه فإذ هو شاعر كيني اسمه آموس تاباليا، وهو شاب لطيف مثقف، وقد أخبرني أنه مهندس معماري حديث التخرج، ثم أهداني ديواناً شعرياً له نشر مؤخراً في كندا،وقال لي إنه لا يرى في الشعر تسلية ومتعة لاغير كما يرى ذلك فريق كبير من شباب الشعراء في هذه الأيام ، فرأيت فيه جديّة ونضجاً ورجاحة عقل على الرغم من صغر سنه وقلّة تجربته العملية في الحياة.

 ثم لم نلبث أن واصلنا الرحلة، ورأينا بضع فتيات كينيات فاتنات يقفن على جانبي الطريق وهنّ يحملن الثمار والفاكهة والبقول بأيديهن يعرضنها للبيع على المارين في وداعة ورضا وسكون.

 وفي المساء في نحو الساعة الخامسة وصلنا إلى فندق " دادوس" في " كيسي" ،واخترت غرفتي في الطابق الأول. ولم تمض دقائق معدودة حتى أقبل آموس وطلب مني أن أصحبه في سيارة إلى مدرسة كيسي الثانوية للبنين لأقرأ شعري بها ، ورافقتني في رحلتي حسناءكينية تدعى ماريا كيروبو أخبرتني بأنها تدرس الحكايات الشعبية الكينية في جامعة كيسي . ولم تكن المدرسة تبعد كثيراً عن الفندق، وعندما وصلنا إليها، وجدنا التلاميذ في انتظارنا في فناء من أفنيتها، وسرعان ما قدمتني "ماريا" لهم، فنهضت من مجلسي ومهّدت لإلقاء شعري بالسلام،وقلت لهم: "إنني أحمل حبّاً خالصاً لبلدكم بقدر ما تحملون من مودة لبلدي مصر،وأحب أن أقرأ لكم قصيدة كتبتها عن نيروبي أعبّر بها عن إعجابي وحبّي لها ". وقرأت القصيدة بالعربية ، ثم قرأ شاعر كيني الترجمة الإنجليزية التي أعددتها لها، ثم عدنا إلى الفندق بينما كانت الشمس الغاربة تنحدر صوب النهر المستتر خلف الأشجار المنتشرة على سفوح الجبال .

 وفي صباح اليوم التالي تضمّن برنامج المهرجان فقرات متنوّعة عديدة شيّقة، فإلى جانب إنشاد الشعر، ألقت ثلاث شاعرات ثلاث محاضرات عن فن الشعر. أما المحاضرة الأولى فكانت عن الشعر البنغالي وألقتها الأستاذة مالاشري لال وهي أستاذه هنديّة من جامعة دلهي. وأما المحاضرة الثانية فقدّمتها الأستاذة سوكريتا بول كومار وهي شاعرة هندية ولدت في كينيا وتحدّثت في محاضرتها عن طريقتها في كتابة أشعارها.وأما المحاضرة الثالثة فكانت عن الشعر اللتواني وألقتها الشاعرة اللتوانية ساره بويسون، وهي روائية وصحفية معروفة في بلادها. ثم جاء دور الشاعر الكيني آموس تاباليا ليلقي شعره فاستهل كلامه بأمنيته أن يكون مثلي ، وأن يكتب شعراً فلسفياً جاداً كشعري، وأن يؤلّف ستين كتابا مثلما كتبت.ثم أقبل كريستوفر إليّ وأخبرني عن رغبتهم في جعل محاضرتي محاضرة المهرجان الرئسية ، وسألني عن إمكانية تأجيلها للغد حتى يدعو طلاب الجامعة والمدارس الثانوية لحضورها فلم أمانع بالطبع لأن ذلك يساعد على تحقيق الهدف الذي أقصد إليه من محاضراتي التي ألقيها في المهرجانات الشعرية العالمية وهو التعريف بآدابنا وثقافتنا العربية الأصيلة في المحافل الدولية . و في آخر فقرة من فقرات البرنامج قدّم بعض الشعراء الكينيين إستكشات مسرحية كوميدية عن حال البحث الأدبي في الجامعة.والحق أنهم كانوا يتمتعون بخفة دمّ محببة وفكاهة جادة وقدرة فائقة على تصوير ما يلاقيه الباحثون في الأدب من الشباب من تعنّت الشيوخ وتزمّتهم.

 وفي الساعة الواحدة بعد الظهر مضينا إلى قرية " كيسي " ، وعندما وصلنا إليها استقبلتنا النساء بالزغاريد والرقص والغناء، وهبطنا من الحافلة ، واستضافتني بعض السيدات وقادتني إلى كوخ صغير وسط مزرعة شاسعة من مزارع قصب السكر والكرنب وأشجار الأفوكادو ، واصطحبني أستاذ كيني من هذه القرية ليقوم بدور المترجم بيني وبينهن.ودخلنا الكوخ وكانت غرفة الجلوس فيه طويلة وضيّقة ليس بها مصابيح ولا أجهزة تكييف أو مراوح، وثمة نافذة صغيرة في آخر الغرفة مقابل الباب تطلّ على حقل أخضر فسيح، وتستند إلى جدرانها – ناحية الباب وأمام الحائط الأيمن المواجه له – أرائك خشبية ، وثمة باب مؤدٍ إلى المطبخ وغرفة أو غرفتان للنوم. وجلسنا وجلست النسوة يحملن أطفالهن السُّمر في حبّ وحنو، وأحضرت صاحبة الكوخ مشروباً ثخيناً غير مخلوط بالسكر، وأكداساً من البطاطا المسلوقة والموز بعضه كبير الحجم وبعضه صغير لذيذ الطعم، ثم أحضرت ماء في دلو كبير أمسكته بيدها اليمنى ، وطستاً نحاسياً أمسكته بيدها اليسرى، وصبّت الماء على أيدينا قبل تناول الطعام.وأخذنا نتحدّث ، وعرفت منهن أنهن يعملن بزراعة الكرنب وقصب السكر والأفوكادو والموز والبقول. وقد لفت نظري كثرة عدد النساء في قريتهن فسألتهن كم يتزوج الرجل في هذه القرية؟ فقلن إن الرجل ، في الزمن الماضي، كان يتزوج اثنتى عشرة امرأة ، وأما في هذه الأيام فلا يتزوج بأكثر من خمس نساء.وقد يبلغ عمر الفتاة عند الزواج تسعة عشر عاماً، وقلن إن الرجل له القِوامة على النساء في البيت. ثم دخلت الدار امرأة في ريعان الشباب تحمل مولوداً لها عمره شهر أو أكثر قليلاً ، وقالت إنها ستسمّي طفلها باسمي احتفاء بزيارتي لقريتهن ، وتيمّناً بأن يصبح شاعراً مثلي. وقلن لي إن قبيلة الكيسي ، كما تروي الأساطير الكينية، أصلها من مصر، وقد وفدت من أرض الفراعين منذ زمن بعيد . والحق أنني سعدت بزيارتي لهذه القرية الكينية الطيّبة ، واستمتعت بالوقت الذي قضيته في هذا الكوخ الهاديء الصغير ، فشكرت النسوة على كرمهن وحُسْن استضافتهن لي.وعندما هممنا بالانصراف دسّ صديقي البروفسور الكيني يده في جيبه ونفح الطفل بعض النقود، ثم ذكر لي أن من عادة سكان القرية أن يصنعوا هذا الصنيع عندما ينتهون من زيارة بيت من البيوت، فأخرجت بدوري من جيبي بضعة دولارات ودسستها في يد الطفل، وخرجنا وخرجت النساء معنا يودعننا وسرن في إثرنا حتى وصلنا إلى المكان الذي استقبلننا فيه. ثم مضينا لنشاهد رقصات شعبية للفتيات الكيسيات شاركت فيها الشاعرات الكينيات والشاعرات الزائرات من البلاد الأخرى ، كما شارك فيها بعض الشيوخ والعجائز من رجال القرية بحيوية وبراعة أثارتا في نفوسنا الدهشة والإعجاب معاً . وعندما انفض الحفل الراقص عدنا إلى الحافلة،وفوجئت بصاحبة الكوخ الذي زرناه تأتي إليّ حاملة كيساً مملوءاً بقطع من قصب السكر هدية لي ، فقبلتها منها وشكرت لها كرمها ولطفها.وانطلقت بنا الحافلة عائدين إلى الفندق،وعندما وصلنا إلى هناك طلب مني كريستوفر أن أمضي لأقرأ شعري في مدرسة ثانوية للبنين وهي مدرسة الكردينال أوتونجا شوشووتضم ألف طالب. وبدأ الطلاب بتقديم عروض مسرحية ورقصات وأغانٍ وقصائد شعرية، ثم أنشدت قصيدتي " الموسيقا " ، وقرأ شاعر كيني ترجمتها الإنجليزية. ثم انصرفنا عائدين إلى الفندق وكانت الساعة قد بلغت التاسعة مساء.

 ذهبنا في صباح اليوم التالي لزيارة بحيرة فيكتوريا، وشاهدنا حي الصيادين المجاور لها ، وتجوّلنا برهة في سوق الأسماك على مقربة منها، ثم مضينا صوب ركن هاديء بجوار البحيرة ، وألقى بعض الشعراء أشعارهم هناك، وقد أعجبتني قصائد الشاعر القبرصي " جيسون ستفاراكيس" وهي مقطوعات سياسية قصيرة تتسم بالقوة والصدق وبالطابع الفلسفي والإنساني العميق. ثم انصرفنا ، وعندما بلغنا الفندق رأينا حشداً كبيراً من طلاب الجامعة والمدارس الثانوية الذين جاءوا لحضور أمسية شعرية أُعدت لهم ، وأخذ الشعراء يلقون أشعارهم ، وألقيت بدوري قصيدة ( الوطن ) من ديواني ( دار السلام) ، ثم مضينا إلى قاعة المحاضرات في الطابق الأول ، وألقيت محاضرتي عن الشعر العربي، وركّزت فيها على تطوّر فن الشعر عند العرب وأثر الإسلام فيه، ودوره في نشأة وازدهار أنماط من الموضوعات والأشكال الشعرية في الغرب والشرق على حدِّ سواء .

 وعند عودتنا من مدينة " كيسي" إلى نيروبي ، زرنا حديقة الحيوان في نتكورو وبحيرتها ،وكنا قد بدأنا رحلتنا في السادسة من صباح يوم الأحد ، ووصلنا إليها في نحو الساعة الواحدة بعد الظهر، واستغرقت زيارتنا لها ثلاث ساعات.

 وفي صبيحة يوم الاثنين زارني الشاعر الكيني آموس وأخبرني أن خوانجا وماتوندا ينتظراني في أستوديو الإذاعة الكينية ، وأرسلا سيارة لي ،واصطحبني إليهما . ولم تستغرق الرحلة وقتاً طويلاً ، فقد كان مبنى الإذاعة قريباً من فندق " المدينة " الذي أقطن فيه.وعندما وصلنا إلى مبنى الإذاعة كان خوانجا في انتظارنا أمام المبنى، وعندما رآني سارع إلى مصافحتي،وأعرب عن سروره البالغ لتلبية دعوته وحضوري للظهور في برنامجه الإذاعي ، واصطحبني إلى كافتيريا كان ماتوندا في انتظاري بها. وعندما رآني نهض مرحباً بي، ثم اصطحباني إلى كافتيريا خاصة أخرى، وشربنا القهوة وطلب لي ماتوندا كعكاً كينياً ،وتحدّث خوانجا عن المقابلة التي سيجريها معي، وأهديته مجموعة من مؤلفاتي ، وعندما رأى ماتوندا مجموعتي القصصية الإنجليزية " حكايات عربية" وعرف أنها ترجمت إلى اللغة الفرنسية في جامعة روشيه بباريس، أبدى رغبته في نشرها مع ترجمتها الفرنسية في مطبعته في كندا، ثم قال : سمعت عن محاضرتك التي ألقيتها في المهرجان الشعري بالأمس ، وعن ثناء الناس عليها،وإعجابهم بها ،ونرجو منك أن تتفضل بإلقائها في ندوة خاصة لنا، فشكرته على تلطّفه ، وازداد إعجابي بلباقته وأدبه.وكنت قد عرفت من آموس أن ماتوندا باحث أكاديمي حصل على الدكتوراه في الهندسة من بعض جامعات كندا،وأنه سياسي معروف في كينيا. ثم ذهبنا إلى الأستديو واستغرق الحديث ساعة كاملة، وشاركني ماتوندا في الجلسة الأدبية بوصفه ناشر أحدث دواويني الشعرية الإنجليزية بكندا. وهو متحدّث بارع لبق يتمتع بذكاء وثقافة أدبية عالية. وهو – فضلاً عن ذلك- محبّ لبلده، يعمل جاهداً لنشر آدابها وثقافتها في الغرب، ويشجع كتّابها وشعراءها بنشر أعمالهم ، والدعاية لهم.وقد بدأ خاونجا برنامجه بالترحيب بي، ثم أدار الحديث حول قضايا أدبية عديدة من بينها أسلوبي في ترجمة الشعر من اللغات الأجنبية ، وعن نظرية الترجمة عند العرب ، وعن ألف ليلة وليلة، وعن روايتي الإنجليزية "رحلة السندباد الثامنة "، وعن شهرزاد ، وعن أشعاري ، ثم وجّه سؤالاً إلى ماتوندا عن نشره لديواني الإنجليزي الأخير " الغزليات"، وكيف تمّ التعارف بيننا، فذكر ماتوندا أنه سمع عني منذ سنوات من بعض الشعراء الكينيين، فرغب في نشر شعري،وقال إنه وجد في غزلي أسلوباً شائقاً مبتكراًً، وأن ديوان " الغزليات " لقي ترحيباً وإقبالاً من القراء والنقاد في الغرب حتى إنه رُشح لأكبر جائزة شعرية في كندا وهي جائزة جريفين الشعرية في عام 2011م. ثم قرأ خوانجا الترجمة الإنجليزية لقصيدتي عن نيروبي ، ثم طلب مني أن أقرأ بعض قصائد من شعري ، فقرأت قصيدتين ، الأولى (أهواك)، والثانية(قصائدي) ، ثم سألني خوانجا عن غزلي وعما فيه من روح دينية واضحة ، وعن أشعاري الصوفية، فتحدّثت عن الشعر الصوفي عند العرب ، وعن شعرائه المتميّزين كرابعة العدوية والحلاج وابن عربي وابن الفارض، ثم ذكرت كافية رابعة المشهورة وترجمت بعض أبياتها إلى الإنجليزية. ثم سألني خوانجا عن رأيي في " ألف ليلة وليلة "، فأشرت إلى ما صنعه المترجم والقصاص الفرنسي أنطون جالان من تحوير في قصصها، وعن التصوّر الخاطيء الذي شاع في الغرب عن المرأة العربية والعرب بصفة عامة، وعن حقيقة وضْع المرأة العربية في الجاهلية والإسلام. وعندما انتهينا من الحوار غادرنا مبنى الإذاعة ، وعدنا جميعاً إلى الفندق حيث أقام ماتوندا مأدبة غداء لي دعا إليها لفيفاً من الشعراء الكينيين والأجانب. وعندما فرغنا من تناول الطعام اصطحبني آموس في جولة حول مدينة نيروبي انتهت بنا إلى سوق تجاري قديم أحسست فيه وكأني في " خان الخليلي" في القاهرة أو في سوق من الأسواق الشعبية في كازابلانكا أو البصرة أو حلب، فاشتريت بعض الهدايا التذكارية من حانوت من الحوانيت فيه ، ثم عدنا إلى فندق "المدينة " وكان الليل قد أرخى سدوله على شوارع المدينة الجميلة ، بيْد أن الليل في نيروبي أشبه بالنهار لا تكاد تهدأ فيه المدينة أو تنام ، بل تزداد به الحاضرة السمراء جمالاً وتألقاً، وتبدو في العيون العاشقة لها كلؤلؤة من اللآليء الشرقية الفاتنة.

 وعند عودتي من كينيا في يوم الثلاثاء السابع من شهر أغسطس ، سافرت من نيروبي إلى بانكوك ليلاً، واستغرقت رحلة الطائرة ما يقرب من عشر ساعات ( من الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً حتى الساعة التاسعة والربع صباحاً ) ، وقضيت ثلاث ساعات في مطار بانكوك ، ثم سافرت من بانكوك إلى كوالالمبور في ساعتين ونصف. وفي الطائرة أغمضت عينيّ هنيهة ، وعدت بذاكرتي إلى الوراء أسترجع في رضاً ولذة وابتسام الأيام الستة الحلوة الشيّقة التي قضيتها في نيروبي: مدينة الشّعر والسّحر والجمال.

الدكتور عارف كرخي أبوخضيري شاعر وروائي ومترجم مصري يعمل أستاذاً مشاركاً بجامعة السلطان الشريف علي الإسلامية ببروناي.