أيام في الرباط

أ.د مولود عويمر

شاءت الأقدار أن أبدأ يومي الأول في عامي الخامس والأربعين محاضرا في المكتبة الوطنية المغربية بالرباط عن تاريخ الإصلاح والتنوير في المغرب العربي. وأرجو أن يعيش جيلي ليرى النهضة في العالم العربي في مختلف المجالات بفضل الإصلاح البناء والفكر المستنير في ظل مجتمع يسود فيه العلم والإيمان والعمل المتقن والعدل.

ندوة دولية

انعقدت بالمكتبة الوطنية المغربية بالرباط ندوة دولية حول الشيخ محمد بن العربي العلوي ومسألة التنوير، وذلك يوم الثلاثاء 4 جوان 2013. وحضر فعالياتها عدد من رجال الثقافة والفكر والسياسة وجمهور غفير من الطلبة والمهتمين.

استهلت أعمال الندوة بمداخلة الأستاذ أحمد السليماني رئيس مركز محمد بن سعيد أيت يدر للأبحاث والدراسات الذي حدد المعالم الكبرى لحياة الشيخ محمد بن العربي العلوي. وقدم كذلك الدكتور مولاي هاشم العلوي الأستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط محاضرة عن عصر الشيخ محمد بن العربي العلوي. وعرض بعد ذلك شريط وثائقي عن حياة الشيخ العلوي وأعماله الإصلاحية.

وبعد استراحة قصيرة وتناول المشروبات، انطلقت الجلسة العلمية الأولى التي ترأسها الكاتب المغربي المعروف ووزير الاتصال السابق الأستاذ محمد العربي المساري. وتكلم الأستاذ علال سي ناصر، وزير سابق عن تأثير محمد بن العربي في رواد الحركة الوطنية في المغرب العربي. والأستاذ سي ناصر هو من النخبة الجزائرية التي استوطنت المغرب الأقصى بعد هجرة عائلته من الجزائر في عهد الأمير عبد القادر الجزائري.

وتطرق الدكتور عبد اللطيف الحناشي أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة منوبة بتونس إلى السلفية الإصلاحية بالمغرب العربي مبينا نقاط التشابه بين الشيخ ابن العربي العلوي والشيخ عبد العزيز الثعالبي. وتطرق الكاتب والباحث الأستاذ حسن أوريد لصفحات مجهولة من سيرة هذا المصلح المغربي الكبير. وتكلم الدكتور الموساوي العجلاوي مدير معهد الدراسات الإفريقية عن الشيخ محمد بن العربي زمن الاستقلال.

وترأس الجلسة المسائية الدكتور محمد العمري أستاذ البلاغة بجامعة محمد الخامس بالرباط والحاصل على جائزة ملك الفيصل العالمية. وتحدث أولا الدكتور إدريس حمادي أستاذ أصول الفقه بكلية الآداب بفاس عن السلفية في ممارساتها التطبيقية للدين الإسلامي. وقارن الدكتور محمد المصباحي أستاذ الفلسفة بكلية الآداب بالرباط بين "السلفية المتشددة والسلفية المستنيرة".

وتناول كاتب هذه السطور علاقات الشيخ محمد بن العربي العلوي بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فكشف عن الصلة القوية التي كانت تربط بين هذا العالم المغربي وأقطاب الحركة الإصلاحية في الجزائر أمثال الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ محمد البشير الإبراهيمي والشيخ حمزة بوكوشة وغيرهم. كما أشار المحاضر إلى أثر رحلة الشيخ ابن العربي العلوي إلى الجزائر في عام 1940 ولقائه بالمصلحين الجزائريين.

وقارن بعد ذلك الدكتور محمد الفلاح العلوي أستاذ التاريخ بكلية الآداب ابن مسيك بين سلفية محمد بن العربي العلوي وسلفية تلميذه علال الفاسي. وفي الأخير، تحدث الأستاذ عبد الصمد بلكبير من كلية الآداب بمراكش عن الشيخ محمد بن العربي باعتباره سلفيا مستنيرا.

مع الدكتور عبد اللطيف الحناشي

تعرفت على الدكتور عبد اللطيف الحناشي المختص في الحركة الوطنية التونسية. وكتب حولها عدة كتب وبحوث أكاديمية. وهو من أنشط المثقفين التونسيين الذين تتنافس وسائل الإعلام التونسية والعربية على استضافته للحديث عن الوقائع التاريخية أو تحليل الأحداث الراهنة. اكتشفت اسمه أول مرة في عام 2000 حينما أرسل لي الدكتور عبد الجليل التميمي من تونس نسخة من العدد 100 من المجلة التاريخية المغاربية وفيه بحث لي باللغة الفرنسية.

ونشر في نفس العدد عرض لأطروحة جامعية ناقشها الأستاذ الحناشي في جامعة تونس حول "المراقبة والمعاقبة في ظل الحماية الفرنسية بتونس: الإبعاد السياسي أنموذجا (1881-1955)". وتطرق في هذه الرسالة الجامعية إلى نفي الجزائريين الذين ساهموا في تأسيس الحزب الدستوري التونسي أمثال عبد العزيز الثعالبي وأحمد توفيق المدني وإسحاق أطفيش وعبد الرحمان اليعلاوي...الخ.

ومنذ ذلك الحين ترسخ اسمه في ذاكرتي. وشاء الله أن يجمعنا في مناسبة علمية بعد 13 سنة في الرباط، وليس في تونس أو الجزائر.

كنا نسكن في فندق الياسمين الواقع في زنقة مكة نلتقي في الصباح والمساء مع العالم القروي الضليع في المذهب المالكي الدكتور إدريس حمادي. وكنا نخرج معا للتجول في مدينة الرباط وشراء الكتب التي تعنى بالقضايا التاريخية والفكرية التي هي من صميم اهتمامنا. وكلما شعرنا بالتعب، دخلنا إلى مقهى قريب لتناول القهوة أو الشاي الأخضر بالنعناع.

ولم يعكر صفو الجولات في الرباط بشوارعها الواسعة وحدائقها الخضراء وأرصفتها العارضة للجرائد والمجلات والكتب إلا مشهد ماسح الأحذية بمعطفه الأزرق. لقد تمنيت أن يرتقى به إلى درجة الإسكافي لينال قوت يومه معززا مكرما كغيره من الحرفيين الذين صنعوا مجد السياحة المغربية الرائجة.

كما رافقت الدكتور الحناشي إلى مقر نقابة الصحافيين المغاربة حيث ألقى مساء يوم الأربعاء 5 جوان محاضرة حول الإعلام التونسي بين الماضي والحاضر بدعوة من الأستاذ محمد العوني رئيس جمعية حاتم. وقد قدم الدكتور الحناشي عرضا تاريخيا للصحافة التونسية عبر مراحل عديدة. وتحدث عند المشهد الإعلامي الراهن في تونس، فحدد سلبياته وعدّد إيجابياته، وأكد في الأخير على ضرورة تحلي الصحافي بالأمانة في نقل الخبر وشدد على مسؤوليته في صنع الرأي وتوجيهه لخدمة مجتمعه والحفاظ على سلامته والمساهمة في رفاهيته.

لقاء مع الأستاذ المساري:

كان اللقاء مع الكاتب محمد العربي المساري بدون ترتيب مسبق، "فرب صدفة خير من ألف ميعاد" كما جاء في المثل العربي. كنت مع الدكتور الحناشي نتناول الغذاء، وبينما نحن نستعد للخروج التقينا بالكاتب محمد المساري جالسا يحتسي القهوة.

والأستاذ المساري كاتب معروف في العالم العربي بمؤلفاته في التاريخ والأدب والسياسة، وكتاباته في الصحافة العربية. وكان حديثنا منصبا حول العلاقات التاريخية بين دول المغرب العربي.

واستفدت شخصيا من هذه الجلسة التي اكتشفت من خلال الحديث مع هذا الأديب والمفكر المتواضع شخصيتين مغمورتين في تاريخنا المعاصر، وهما محمد العتابي ومحمد مايسة. فالأول هو مثقف مغربي زار العديد من الدول العربية والأوروبية مطالبا مع عدد من أبطال الحركة الاستقلالية أمثال محمد وعلي باش حامبة ومحمد الخضر حسين وصالح الشريف وغيرهم بتحرير المغرب العربي.

وقال المساري أنه بصدد إنجاز بحث حول هذه الشخصية التاريخية الفريدة. وهو عازم على السفر إلى تونس لاستكمال بحثه في أرشيف محمد وعلي باش حامبة بالأرشيف الوطني التونسي.

أما محمد مايسة فهو مثقف جزائري هاجر إلى المغرب وأسس فيه سنة 1932 مجلة ثقافية عنوانها "المغرب"، وكتبت فيها أبرز الأقلام المغربية كعلال الفاسي ومحمد اليزيدي ومحمد إبراهيم الكتاني ومحمد بن اليمني الناصري وغيرهم. وقلت في قرارة نفسي أنني عائد إلى الرباط بحول الله لأطلع على هذه المجلة الثقافية الرائدة المغمورة، والتي لم يتحدث عنها أحد رغم اطلاعي على عدد من الرسائل الجامعية حول تاريخ المغرب المعاصر!

حوار مع التلفزيون المغربي

اتصل بي صحافي من القناة الثانية المغربية للمساهمة في فيلم وثائقي طويل عن الشيخ محمد بن العربي العلوي في 90 دقيقة. ولعل هذا الشريط الجديد يكون أفضل من الشريط الوثائقي الذي عرض في بداية الندوة الدولية التي تحدثت عنها في بداية هذا المقال. وهو إنتاج لم يكن في مستوى عظمة هذا العالم الجليل شكلا ومضمونا.

كانت أسئلة الصحافي تتمحور حول علاقة الشيخ ابن العربي بعلماء الجزائر، وأهمية الاشتغال بتراث الحركة الإصلاحية المغاربية، وكيفية جذب الشباب للاهتمام بسير العلماء من أجل استلهام العبر والقدوة الحسنة.

في عالم الكتب

مدينة الرباط عامرة بالمكتبات المنظمة تنظيما محكما، ومن أشهرها: دار الأمان، الألفية الثالثة، كليلة ودمنة، عالم الفكر، خدمة الطالب...الخ. وتقع كل هذه المكتبات في محيط البرلمان. اقتنيت مجموعة كتب أذكر منها: "أبو شعيب الدكالي وجهوده في العلم والإصلاح والوطنية" للدكتور محمد رياض. وهو منشور في جزأين؛ أعلام من المغرب والمشرق لعلال الفاسي، تضمن فصلا عن المثقف الجزائري الثائر علي الحمامي، الحركة السلفية في المغرب العربي لمجموعة باحثين، فيها بحثان عن الجزائر للشيخين محمد الصالح رمضان وحمزة بوكوشة، و"طه حسين والمغرب العربي" للكاتب التونسي أبي القاسم محمد كرو.

لقد أهديت كعادتي كتبي إلى عدد من الباحثين المغاربة للتواصل الفكري والتبادل العلمي. خاصة وأنا أعلم أن انتقال الكتب بين دول المغرب العربي ضعيف جدا، وتأكد لي ذلك خلال جولاتي في المكتبات. وكان أول إهداء إلى المكتبة الوطنية المغربية التي سلمت لها كتبي الأخيرة لتضاف إلى كتبي الأخرى التي أهديتها إلى هذه المؤسسة الثقافية في الرحلة العلمية التي قمت بها إلى المغرب في سبتمبر 2010.

وأهدى إلي الدكتور إدريس حمادي كتابه النفيس "في هندسة الخالق لخلقه: الإنسان الخليفة نموذجا". وقد صدر أيضا لهذا المؤلف كتب أخرى منها العناوين التالية: العام ودلالاته في علم أصول الفقه، الخطاب الشرعي وطرق استثماره، المنهج الأصولي في فقه الخطاب، آفاق تحرير المرأة في الشريعة الإسلامية، إصلاح الفكر الديني من منظور ابن رشد، المصالح المرسلة وبناء المجتمع الإنساني: الشاطبي وابن خلدون نموذجين...الخ.

ويقع كتاب "في هندسة الخالق لخلقه: الإنسان الخليفة نموذجا" في 414 صفحة مقسم إلى 3 أبواب، وهي: الإنسان الخليفة كمشروع وحقيقة في السماء العلا، الإنسان كحقيقة يقوم بأعباء الخلافة في الأرض، الإنسان المسؤول، المحاسب، المجازى.

وأهدى إلي الدكتور محمد المصباحي كتابه الأخير الصادر عن منتدى المعارف ببيروت عنوانه: "جدلية العقل والمدينة في الفلسفة العربية المعاصرة". والدكتور المصباحي يعد اليوم من ألمع الأسماء الفلسفية في المغرب الأقصى، إلى جانب الفلاسفة الآخرين أمثال: طه عبد الرحمان وكمال عبد اللطيف ومحمد سبيلا وسالم يافوت...الخ.

وهذا الكتاب يقع في 399 صفحة مقسم إلى عشرين فصلا، تناول فيها الأستاذ المصباحي بالدراسة والتحليل أعمال الفلاسفة العرب المعاصرين مركزا على ثلاثة فلاسفة مغاربة وهم محمد عزيز الحبابي، محمد عابد الجابري، عبد الله العروي بالإضافة إلى الفيلسوفين اللبنانيين ناصيف نصار وحسين مروة. كما تضمن الكتاب إشارات إلى المفكر الجزائري محمد أركون.

وفي ختام هذا المقال، أشكر كل الإخوة المغاربة الذين نظموا هذه الندوة أذكر بالخصوص الأستاذ حبشي والأستاذ عبد الإله المنصوري وغيرهما الذين أتاحوا لنا فرصة ثمينة للتعرف على نخبة من المؤرخين والمفكرين، والتعريف بصفحات مشرقة مغمورة من التواصل الفكري بين جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ورواد الإصلاح في المغرب الأقصى وعلى رأسهم الشيخ أبي شعيب الدكالي والشيخ محمد بن العربي العلوي والشيخ محمد إبراهيم الكتاني... رحمهم الله.