واشنطن، بنسيلفينيا.. الباقي من الزمن ساعة

واشنطن، بنسيلفينيا.. الباقي من الزمن ساعة

يسري الغول

[email protected]

الحافلة بالخارج، والمطر أيضاً.

شوارع نيويورك تزدحم بالصقيع، نتدثر نُعاسنا ونصعد واحداً تلو الآخر، يساعدنا السائق ذي الزي الرسمي، فيظهر كرشه المترهل من خلال قميصه أبيض اللون.

أقرر الجلوس في المقعد الأخير حيث المشاغبة حد الهذيان . يجلس قبالتي صديقي عبد الله الجزائري صاحب الألفاظ الغريبة. في المقعد الأمامي لنا تجلس خلود، تغوينا بحلوياتها الشامية، فلا تحمينا أي من تعاويذ العرافة في ممارسة خطيئة أكل الحلوى في الخلف كأطفال يمارسون نزقهم مع نهاية كل حصة مدرسية.

ست ساعات ونصف قضيناها مسافرين باتجاه واشنطن، نشاهد مع دفئ الحافلة فيلم (John Q) حيث يأسرنا الممثل الأمريكي دينزل واشنطن معه في قصة احتجاز الرهائن من أجل علاج ابنه و..

نتوقف عند منتصف الطريق، نحتسي القهوة، نأكل ما يسد الرمق، بينما يدخن (يدوزن) صديقي معاذ مع ياسمينا المغربية في أجواء باردة أعطت المكان جمالية غريبة، ينفثون همومهم في وجه الريح. لتنتهي السيجارة مع صعود السائق للحافلة، وأعود مرة أخرى لقراءة رواية (معذبتي) لسالم بن حميش، أمارس نزوة القراءة والكتابة معاً. أكتب رسالة لابني أنس الذي اشتقت إليه كثيراً، فيقرؤها صديقي عبد الله، ويبتسم، يقول بلهجته الجزائرية: أنت كاتب وعر. (أي عميق) فأضحك. والطريق يمتد بنا إلى آخر الدنيا، شوارع يتم افتتاحها لأول مرة داخل الغابات، توسعة غير مسبوقة وكأن الولايات المتحدة تمارس ديمومتها. أضواء وشمس ساطعة وريح ومطر وجنون وهذيان حد الموت إلى أن نصل ضالتنا، وعند فندق (State Plaza Hotel) نتوقف، أصعد بدلاً من السائق إلى الحافلة في الخلف، أقوم بإنزال الحقائب، وبعد أن أنتهي يشكرني السائق بحرارة.. وقبل أن ندلف إلى الغرف، نكتشف أن الفندق طويل جداً، يبدأ بشارع وينتهي بآخر، وكثيراً ما كنا ندلف إليه ثم نعود أدراجنا حين نكتشف أن البوابة ليست التي تقلنا نحو غرفنا، إلى أن عرفنا بأن باب الفندق المجاور للسوبر ماركت هو المطلوب. ولقد سعدت كثيراً بذلك الفندق، حيث كان استخدام الانترنت مجانياً، وليس كما في فندق (UN Plaza Hotel) بنيويورك. كما أن الفندق في محيط الكامبوس (بيوت الطلبة) لجامعة جورج واشنطن. حيث يمارس الطلاب أنشطتهم أمامنا ونزقهم أيضاً.

حين وصلنا الفندق، طلبت منا المنسقة الأمريكية تجهيز أنفسنا لأننا مدعوون لتناول الغداء في البنك الدولي. نذهب، وكالعادة يمارس الأمريكيون هوايتهم في تفتيش قشورنا الملونة، وحجز جوازات السفر وتصوير الوجوه لطباعة بطاقة مؤقتة لكل شخص منا من أجل دخول المكان.

وما أن دخلنا حتى التقينا بالوفد العربي العامل بالبنك، تناولنا طعام الغداء ثم مضينا بعد ذلك إلى إحدى المؤسسات النسوية التي تعني بقانون المرأة المحلي، والنعاس يحاصرنا كعادته، حتى أن أعضاء الوفد كانوا يبتسمون فيما بينهم حين تظهر علامات النعاس والغفوة في وجوهنا.

مساءً، وبعد اختتام تلك الزيارات المكوكية، نذهب إلى كوفي شوب في واشنطن، نلتقي بأعضاء برنامج MEPI بينهم عدد من الفلسطينيين والفلسطينيات. نتحدث، نمارس الضحك والمكان يضج بالألفة، بالغمزات والضحكات، والصور المفاجئة وغيرها، حيث يستغل صديقي معاذ الموقف، ويقوم بتصوير كثيرين وهم في حالة مضحكة.

بعد أن نغادر المطعم أنا وعبد الله (من الجزائر) ومعاذ (من الأردن) وصديقي سيف (من عُمان) سيراً على الأقدام نتفق على الالتقاء عند بوابة الفندق للذهاب إلى البيت الأبيض، حيث أنه لا يبعد كثيراً عن المكان. وكالعادة يتأخر البعض، وبعد أن يجتمع أربعتنا، نلتقي بزميلتنا من المغرب، الصحافية ياسمينا الحلو، تمارس نزوتها بتدخين السجائر الملفوفة، ندردش قليلاً ونحن نتأمل النصب التذكاري البارز كعمود يرتبط بالسماء، نلتقط بعض الصور ثم نذهب باتجاه البيت الأبيض، ويكون الليل قد حل، والظلام بدأ يفترس المكان، لولا تلك الأضواء التي تحاصر المدينة.

نلتقط عدداً كبيراً من الصور، وصديقي سيف، يمارس نزقه بوضع إصبعه فوق أنفه، فيزعجنا، نطلب منه التوقف لكنه لا يفعل، وحين نتحدث فيما بيننا يستفسر سيف بكلمته المعروفة: (ما قاااااااااااااااال؟) فنضحك.

عشرات الصور التي التقطناها في محيط المكان، حيث أن الأمن موجود بصورة قليلة جداً ولا يتدخل طالما أن الأمر لا يعدو عن كونه مجرد التقاط الصور.

منتصف الليل نعود باتجاه الفندق، يأسرنا صوت الموسيقى، كأنه احتفال صاخب، كأنها غزة التي تغني رغم جراحها، نذهب لمشاهدة ذلك الاحتفال، وهناك نبتسم حين نشاهد عشرات الطلاب يشكلون فرقاً متعددة بملابس ذات ألوان مختلفة، يرقصون، يضجون بالحياة، يسكرون، فنضحك ثم نمضي. وقبل أن نصل الفندق نتوقف عند إحدى إشارات المرور، يقف أمامنا جيب بداخله فتاة شقراء تنتظر الإشارة أيضاً، نبتسم لها فتبتسم لنا/لي، فأضحك، وهي تشير لي بأن: تعال، يتساءل أصحابي لحظتها لمن تشير؟ وحين يدركون بأن الفتاة تغازلني، يطلبون مني الذهاب معها فأقرر العودة إلى أحضان غرفتي وحيداً، والنوم في الفندق حتى الصباح.

صبيحة اليوم التالي نستيقظ صباحاً، ننزل إلى بهو الفندق، نتناول طعام الإفطار، فنكتشف فيما بعد بأن الطعام غير مجاني كما أخبرتنا منسقة البرنامج، فتتحمل هي التكاليف ونعود إلى بوابة الفندق حيث يوم جديد طويل.

باتجاه الخارجية الأمريكية نحث الخطى، نصل، نتوقف، يدخل واحداً تلو الآخر، يمارسون إجراءات التفتيش كالمعتاد، جوازات سفر ملونة، ووجوه غريبة، بائسة. ندخل بهدوء، وهناك نلتقي عدداً من المستشارين الشباب والبارزين، بينهم ذوو جذور عربية، نتحدث في العديد من القضايا، نخوض في السياسة والعملية السلمية، والسياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية وموقفها من الربيع العربي ووو.

نأخذ قسطاً من الراحة، نعود إلى قسم آخر بمبنى الخارجية الأمريكية بصحبة إحدى المرشدات، حيث يحدثنا حازم السوري الأمريكي حول مبادرة ميبي في منطقة الشرق الوسط، لنختتم الجلسة بالخروج والحصول على صورة جماعية بجوار مبنى وزارة الخارجية الأمريكية.

وسيراً على الأقدام، ننطلق باتجاه الكونغرس الأمريكي Capitol Hill، نقابل سيناتورة أمريكية لا أذكر اسمها الآن، نتحدث كالعادة حول الوضع العربي المتأزم والعلاقات الأمريكية تجاه العديد من بلدان العالم، والسناتورة تعبر بداية حديثها عن مدى سعادتها بالوفد القيادي العربي، حيث أن البيوجرفي (السِير الخاصة بنا) دسمة، لدرجة أن من تشرفنا بزيارتهم فيما قبل وبعد كانوا يبدون سعادتهم عن وجود مفكرين وكتاب وصحفيين ونشطاء شباب متعددي الجنسيات والألوان.

عند انتهاء اللقاء، قامت مديرة مكتب السناتورة الأمريكية، بأخذنا في جولة سياحية داخل الكونغرس الأمريكي، لكننا عند نقطة ما نتوقف بسبب حملنا لحقائب الظهر، ونعود أدراجنا. نختتم تلك الرحلة بالعودة إلى الحافلة وذات السائق ذو الكرش المتدلي، حيث نتوجه إلى منزل سفير جنوب إفريقيا بالولايات المتحدة، السيد إبراهيم رسول استجابة لدعوة غداء على شرفه، وبعد تناول ذلك الغداء المميز، نستمع للسفير ذي الوجه النضر والسريرة البيضاء، بكلمات وومضات نورانية رائعة، ومن ضمن ما قاله: بأن محمد r كان أميناً قبل أن يكون رسولاً، فمن يحمل رسالة لا بد أن يتصف بالأمانة كي تنجح رسالته.

وقال: إذا كانت لنا جذور (كمسلمين) فلماذا نتمايل مع الرياح؟

وقال: الدعوة إلى اعتقال وقتل الشيوعيين مثلاً، خطأ فادح، لأنهم لو حكموا، من الذي سيمعنهم حينها من اعتقال أو قتل المسلمين.

وقال: من يدعو إلى حوار الأديان والمذاهب، يجب أن يدعو إلى الحوار بين أصحاب المذهب الواحد لأنهم مختلفون أيضاً. فالجماعات الدينية متفرقة والإسلام يدعو إلى الوحدة.

وقال: السعودية، إيران، باكستان، دول إسلامية، لكن ما هي الدولة الموديل التي يجب أن نقتدي بها. نحن بماذا سنتميز؟ وكيف سنرتقي كدول إسلامية.

وقال: عندما تغضب اجعل السكينة روحك.

وفي معرض حديثه، عرّج على قوله تعالى (إن مع العسر يسرا) وذكرها بالإنجليزية، وكانت يسرا تعني (ease)، فقلت لهم وقد كان الصمت يلفهم: (I'm ease)، أعني أنا يسري. فضحكوا كثيراً وضج المكان بالسرور رغم حالة الخشوع الموجودة.   

اختتمنا ذلك اللقاء بالحصول على عدد من الصور مع السفير الرائع إبراهيم رسول، وعدنا لاجتماعاتنا مجدداً مع المنسقة كريمة في لوبي الفندق، وللأسف لم يحضر صديقي سيف أو زميلتنا بشارة اليمنية، فثارت المنسقة وقالت بتجهم بأنها لن تأخذهما في الغد إلى بنسلفينيا، فاضطررت أن أتحدث بإسهاب عن مناقب تلك المنسقة الجميلة والرائعة و..و ..، حتى قالت لي وهي تبتسم: يسري ماذا تريد؟ فأجبتها بأن سيف وبشارة ربما لم يستطيعا الحضور لأسباب قاهرة، وعلينا أن نلتمس لهما أعذاراً، فابتسمت وقالت: كنت أعرف أنك تمهد لذلك. والحمد لله فقد نجحت بأن أثنيها عن قرارها، وذهبنا في اليوم التالي إلى بنسلفينيا جميعاً، وتحديداً إلى مدينة فيلاديلفيا.

تلك الليلة وقبل الرحيل إلى بنسليفينيا، قررنا التنزه في مدينة الخطايا، وعزمت أنا وسيف التوجه مع صديقنا عبد الله لزيارة أصدقاؤه في إحدى الأماكن، فقطعنا تذكرة المترو، وذهبنا دون أن نلتقي بأي منهم. فقرر عبد الله البقاء، وعدت أنا وسيف إلى البنتاغون للتسوق في تلك المنطقة، لكننا اكتشفنا بعد إغلاق المحال التجارية بأن الوقت كان متأخراً جداً. فعدنا أدراجنا نجر ذيول خيبتنا.

ومع إشراقة صباح ماطر، معبق بندى جميل لبسنا (الكاجيوال) وصعدنا الحافلة إلى بنسيلفينيا، وقد استغرقت الطريق أكثر من ثلاث ساعات ونصف، شاهدنا خلالها الفلم الأمريكي الجميل (enough)، غنينا، هتفنا للوطن، هذونا، حتى تعالت ضحكات المنسقة، وتهللت أساريرها بسبب الأجواء التي صنعناها داخل الحافلة والتي دفعت بالسائق أن يبتسم أكثر من مرة.

.. هناك، استقبلتنا المرشدة العجوز، التي تحفظ كل ما تكتنزه المدينة من أسرار، تهنا في الدروب، مررنا بجوار الكنائس، ولجناها، استمعنا لأحد قساوستها، فأصابني النعاس، تركت الوفد وخرجت أتسكع في الخارج، تأملت جرس الحرية، المؤسسات التي بنيت على آثارها الدولة، المدينة، تعرفنا على بنيامين فرانكلين، تسامرنا، التقطنا عشرات الصور، ثم عدنا أدراجنا لنتناول طعام الغداء في أحد المطاعم الصينية.

كانت فيلاديلفيا جميلة بهدوئها وجمالها وعوالمها التي تختلف عن غيرها، التقطنا صوراً في أماكن متعددة، منها حيث تم تمثيل فيلم (Rocky) لسلفستر ستالون، ثم جرينا بسرعة نحو المدرج الذي يبعث على الحظ، والتقطنا صورة جماعية ونحن معلقين بين الأرض والأرض.

.. في طريق عودتنا إلى واشنطن مرة أخرى، غفوت، حيث أسندت ظهري في مؤخرة الحافلة ونمت، إلاّ أن ضجيج أصدقائي أيقظني، كان معاذ يدير حواراً متميزاً عن جماعة الإخوان المسلمين، فيعلق أشرف وخلود ونائلة وروية الإيرانية، وكان سيف يستمع بشغف إليهم، حيث كان يسأل في كثير من الأحيان عن ماهية بعض القيادات الفلسطينية كخالد مشعل وعزام الأحمد وسلام فياض وغيرهم، الأمر الذي أعطى انطباعاً بأن المواطنون العرب لا يعرفون الكثير عن تلك القيادات، وتاريخها، لأنهم بحاجة لمعرفة تاريخ فلسطين وفلسطين فقط.

.. ومع المساء قررنا السهر في الخارج، فذهبنا إلى أحد المطاعم الليبية، تهنا في الشوارع إلى أن وصلنا، وبعد تناول العشاء ذهبت مع معاذ للتنزه سيراً على الأقدام على إحدى الأنهار المحاذية للمكان، وتأمل الأنوار، البشر، القوارب، الطيور. العالم.....

... في الصباح الأخير لنا بالولايات المتحدة الأمريكية، قمنا بتأكيد حجز التذاكر عبر الانترنت. وبعد ساعات أقلعنا من مطار واشنطن إلى مطار فرانكفورت عبر اليونايتد إير لينز في رحلة جوية استغرقت أكثر من ثمان ساعات.  

بقي لي أن أذكر، أن الأعلام الأمريكية كانت ترفرف في كل ردهة وثكنة وشارع في واشنطن، لدرجة أننا لم نجد مكاناً يخلو من تلك الأعلام. والأمر للأسف، ليس كما هو الحال في بلادنا، حيث لا تكاد تجد العلم الفلسطيني حتى داخل المؤسسات الرسمية، لأننا نسينا انتماءنا لفلسطين وتشبثنا برايات ملونة صنعت حالة من العداء بين أطفالنا وألوان الرسم المدرسية.