ربى عنبتا

عنبتا تبوح بأسرارها - الحلقة الثالثة

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

همست لي عنبتا: هل ستكتم أسراري؟ فأجبتها: صدري سيضيق على كتمان قصة عشق تمتد من جذور التاريخ حتى تصل إلى صدري وتسكن قلبي، فاعذريني إن بحت ببعض أسرارك من خلال حروفي أيتها الحورية الكنعانية، وإن نثرت صورك التي التقطتها روحي من خلال عدستي في فضاء الكون، فحورية كنعانية مثلك لا يمكن لصدري أن يكتم أسرارها.

(مطحنة أبو رأسين)

 بدأت وصحبي التجوال في التلال، فهناك يشعر المرء أن روحه تجول ما بين السماء والأرض، وقبل أن نصعد التلال كنا نزور مكاناً يجب أن يكون له اهتمام خاص، هو موقع (مطحنة أبو رأسين)، وهذه المطحنة القديمة والتراثية استمدت اسمها من طبيعة تصميمها، فهي تستمد قوتها من خلال قناة مائية جرى سحبها من مسافة عبر قناة حجرية، وتنسكب بقوة فتحرك رأسين من التروس، والتي بدورها تحرك حجارة ضخمة تعمل على طحن القمح، لكن بكل أسف فإن الموقع مهمل، ولا توجد أية يافطة إرشادية على الشارع القريب تشير إليه، ومن هناك اتجهنا إلى منطقة (التلول) الخلابة في الشمال الغربي، وفي تلك المنطقة آثار من الفترة الكنعانية، إضافة إلى المغائر الضخمة والقبور المنحوتة في الصخور، ولعل أهم مغائرها (مغارة القدس)، وهذه المغارة عمل الاحتلال على نسف مدخلها كيف لا يختبئ فيها المناضلون، وهناك حكاية تروى عن سبب تسميتها، وهي أن كلباً دخلها وخرج في القدس، وهذه الحكاية تتقاطع مع حكاية أخرى عن أحد مغائر القدس، لكن الحقيقة أن هذه المغارة تمتد تحت بلدة (كفر اللبد) وطولها يتجاوز 600 م، ولها مدخل آخر في تلال تلك البلدة، وقد تسلقنا مسافة للوصول إليها بمرافقة الأخ معين الذي رافقنا للوصول إلى المغارة، ودخلها في العتمة أمامي الأستاذ أسعد عبد الصمد، وقد كانت معتمة جداً ومدخلها وعر بسبب نسف الصخور، فناديت عليه أن ينتظر لنشعل إضاءة نرى من خلالها، وإذا بصوت ارتطام وصرخة، فقد وقع عن صخرة للأسفل على ظهره، وسارعنا فوراً بإنارة المكان بوساطة الهواتف الخلوية وأخرجناه، والحمد لله أنه لم تصبه أية كسور، وبعد أن اطمأننا على وضعه أصر أن يكمل الطريق معنا، لنذهب إلى تلال (نيربة) الأثرية، وهي هضبة مرتفعة يحيط بها سهل ضيق من الشمال والجنوب، وسهل واسع من الشرق ومن الغرب، وسهل ضيق يمتد حتى غرب طولكرم، وهي ممتلئة بالآثار غير المكتشفة حتى الآن، وتضم بقايا من الفترة الكنعانية والفترات اللاحقة خصوصاً الرومانية، ولعل المؤسف هو ما لاحظته من عمليات حفر من قبل لصوص الآثار، وقد وثقت العديد منها بالصور، لنتجه من هناك إلى (قلعة البرقاوي) في (كفر اللبد).

( مدخل مغارة القدس)

 وللحقيقة تتميز عنبتا بتلالها الجميلة وهي بشكل عام تلال أثرية، مثل (نيربة) و(مركة) و(رؤوس الملوك)، وتتميز بجبالها وأهمها جبل (الشايفات) في الجنوب الشرقي، واسمه من مجال الرؤية الممتد، وجبل (أبو العز) في الجنوب، وجبال (التلول) التي زرناها، إضافة إلى جبال (مركة) و(أبو حشيش) و(الشيخ عيسى)، والتي لم يسمح لنا الوقت بزيارتها جميعاً، إضافة إلى الخرب الأثرية مثل خربة (نيربة) و(أبو خميش) و(الزهران)، وجميعها عبارة عن متحف يروي حكاية عنبتا عبر التاريخ، لذا من حق عنبتا أن تعتز أنها حورية كنعانية جميلة تضم في ثنايا قلبها الكثير من الأسرار، والتي حرصت على أن تبوح لي ببعضها.

(آثار قديمة في تلة نيربة)

 في الظهيرة عدنا إلى عنبتا لتناول الغداء؛ غداء أظهر الكرم العربي الأصيل لدى أهل عنبتا والمضيفين الرائعين، وبعد الراحة واحتساء القهوة ، اتجهنا إلى ديوان آل الفقهاء لأمسية أدبية أشارك فيها، تحمل عنوان: (التراث والأماكن التاريخية في عنبتا)، وقد سعدت جداً باللقاء الجميل مع أهل عنبتا، وتولى الأستاذ فائق مزيد عرافة الحفل، وقدمتني السيدة سوسن نجيب للحضور، وألقت كلمة لجنة متابعة المدارس وجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني فرع عنبتا، وتحدث الدكتور عدنان ملحم عن الأماكن الأثرية والتاريخية، وتحدث الأستاذ والأديب الكبير أديب رفيق محمود عن آثار عنبتا، ثم تحدثت للحضور عن سلسلة "صباحكم أجمل" وارتباطها بالذاكرة والمكان، وقرأت انطباعاتي الأولية عن زيارتي لعنبتا، وشكرت القائمين على الدعوة، وشكرت الحضور الذي ضم عدداً كبيراً من المهتمين والمثقفين وأبناء عنبتا على طيب اللقاء وكرم الضيافة، وكنت سعيداً جداً بالحوار الذي كان عقب الندوة، والحكايات التي رواها البعض وهم يتحدثون عن عنبتا وماضيها.

 اليوم التالي، الأحد، قضيته في لقاءات أصدقائي الكرميين، وزيارة المتحف الذي سيكون لي حديث خاص عنه، ولبيت دعوة رامي ابن شقيقي الأكبر وسيم وزوجته اللطيفة سماح لتناول الغداء، ليكون برنامجي يوم الاثنين تلبية دعوة من منتسبات ومتطوعات الهلال الأحمر في عنبتا، فكان لقاءً جميلاً ترك أثره في روحي، والتقيت فيه أيضاً حسام جاد الله المدير الإداري، وكنت التقيت على هامش الندوة رئيس الجمعية مجدي يعقوب، فكتبت حين خرجت: من قال إن الملائكة لا تهبط على الأرض؟ فحين التقيت بِيض الحمائم في مبنى جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في عنبتا، بدعوة ولقاء وفنجان قهوة، احترت في مفهوم المرأة ومفهوم العطاء المغمور بالحب، فأنا الذي عشق المكان بصمت وألم عبر عصور، ولم أفعل إلا أن عتقت روحي بجرار الحلم، وجلت العالم والمرافئ أبحث عن حلمي وكأني في البراري أنثر بذار للخيل، وحلمت بلقاء يجمعني وعنبتا معاً، نتوحد أرضاً وروحاً ووطناً.

 وحين التقيت بِيض الحمائم زالت حيرتي في عيون قد غفا فيها الحمام، ووجدت في أرواحهن مفهوم المرأة الملاك، وعرفت كيف ينسكب العطاء مغموراً بالحب، فكان اللقاء حلم يوم تحقق بأرضٍ كأنها شفاه حيرى بنار رحيقها، وفيهن وجدت الحلم الذي يشعل العطاء حباً من جديد، كأنه بركان، ويملأن الربى براعم ياسمين لتنبت على الشواطئ المغتصبة، فعرائس البحر استقالت، وسلمت الرسالة للحوريات/ السوسنات/ الملائكة: هتاف وشريفة وخاتنة وآيات، يحملن الهلال أحمر بلون القلوب على الجباه، ويسكبن العطاء والتضحية والوفاء قصة عشق. ثم غادرت مبنى الهلال تاركاً فيه مزقاً من القلب، ووجدت نفسي وحيداً مع ثلوج دمعي التي عبأتها في قوارير خشوع وصلاة، وأهمس لكن من البعيد في يوم المرأة، مقدراً الجهود، حالماً بصباح أجمل.

(من هنا مر لصوص الآثار)

 ومن مبنى الهلال الأحمر كنت أتجه إلى منطقة (الخرق) من خلال بلدة بلعا، ورافقني في الرحلة السيدة سوسن والأستاذ خالد الهمشري، حيث التقينا في مبنى البلدية بالأخ أحمد منصور رئيس البلدية والذي رحب بنا أجمل ترحيب، وأصر أن يرافقنا بنفسه إلى منطقة (الخرق) رغم الأمطار وتوحل الطريق، والخرق هو عبارة عن نفق طويل حفر بالصخور في فترة الخلافة العثمانية، لكي تمر من خلاله سكة الحديد، وكنت في اللقاء الأدبي في عنبتا قد سمعت أحاديث عنه، وأن أهل عنبتا هم من حفروه من الجهتين، ولكن يظهر أن هناك خلافاً إلى أية بلدة تتبع هذه المنطقة الجميلة، وإن كنت أراها بجمالها وتاريخها تمثل الوطن بأكمله، وقد لاحظت آثار لصوص الآثار هناك أيضاً خصوصاً الباحثين عن وهم الذهب العثماني، لنعود من هناك إلى بلدية (بلعا) من جديد، واتفقنا مع الأخ أحمد على لقاء لاحق يجري ترتيبه للتجوال في (بلعا) وتوثيقها صورة وحرفاً.

(نفق الخرق ويلاحظ على الجدران تخريب الباحثين عن وهم الذهب العثماني)

 ومن (بلعا) إلى بلدة (كفر اللبد) بزيارة سريعة لتلبية دعوة على فنجان قهوة مع شبيبة البلدة، سامح صقر من متطوعي الهلال الأحمر في عنبتا، وكفاح كمال أمين المكتبة، وعبد الرحمن رجب رئيس النادي الثقافي، حيث عرضوا لنا عبر الشاشة لقطات عن الجانب الفني في البلدة وفرقة الدبكة المتميزة، ووعدتهم بزيارة خاصة لكفر اللبد وتوثيقها صورة وكلمة، لأعود إلى طولكرم وأقضي المساء ونهار الثلاثاء في لقاء الأصدقاء والمثقفين والإطلالة على الوضع الثقافي في المدينة، فالتقيت ممن التقيت الأصدقاء الشباب منتصر الكم وشادي أبو جراد وأنور ريان، والشاعر طارق عبد الكريم، وسألني شادي أبو جراد: لمن تكتب من خلال هذه المقالات؟ فأجبته: أكتب لأجيال لم تعش ما عشناه بعد.. لأنهي زيارتي لعنبتا بعد دعوة عشاء في بيت الأخ أبو فراس وزوجته سوسن، ووجبة رائعة من نبتة (العكّوب) بأشكال عدة، وصبيحة الأربعاء كنت أودع طولكرم عائداً إلى رام الله، وأثناء مروري من عنبتا لوحت لها بيدي وهمست لها: لا بد أن نلتقي من جديد يا سيدة الحوريات الكنعانيات، فأنا أعود إلى رام الله تاركاً بعض من روحي في رباك، فسلام لربى عنبتا، سلام لأهلها الطيبين.

 وها هي رام الله تعانقني من جديد، أستعيد تفاصيل زيارتي لعنبتا وأهمس لها: عذراً أيتها الحورية الكنعانية إن بحت ببعض أسرارك، وأقف لنافذتي أحتسي قهوتي وأهمس لطيفي الذي لا تفارقني روحه: ما أجمل بلادنا، لكن هذا الجمال بحاجة لاهتمام أكثر، وعنبتا أنموذج أقدمه كما قدمت نماذج أخرى في مقالات سابقة، وأنا أبذل جهدي ووقتي وأدق جدران الخزان، فهل ستجد هذه الدقات من يسمعها من مؤسسات رسمية ومدنية؟ فلا أجد حتى اللحظة جواباً، فأستمع لشدو فيروز وهي تشدو: (بضل فيها اتنين، عيون حلوة وإيد، يعمروها من جديد، ضيعتي الخضرا على مد العين، بتزوغ وبتحكي عصافيرها، شو بيمر عليها رياح وضيم).

فأحلم بمن يهتم بتراث الأجداد وحكاية وطن وأهمس: صباحكم أجمل..