الطريق إلى مراكش الحمراء 7

الطريق إلى مراكش الحمراء – 7

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

هل يمكن أن أترك الساحة عند مسجد الفنا في مراكش القديمة ، دون أن أشير إلى غلاء الأسعار ؟

كلا ! بالطبع كل شىء هناك سعره أغلى بكثير من دول المشرق العربي بما فيه أم الدنيا التي أصبحت لا تقل غلاء عن السعودية والكويت والإمارات ، وصارت مؤسساتها الاحتكارية لا تقبل ربحا مقبولا ولا معقولا ، بل تعتصر المواطن المصرى المسكين حتى لا يبقي فيه ما يعتصر .. وجاءت السيدة رئيسة جهاز مكافحة الاحتكار لتبرئ ساحة المحتكرين المتوحشين ،، ويا دار ما دخلك شر ..! على كل حال أسعار المغرب مثل باريس ولندن ، ولا أحد أحسن من أحد !

 الدرهم المغربي الذي تقارب قيمته الجنيه المصري يعادل المليم أيام الاشتراكية في مصر ، وأقل سلعة ثمنها عشرة دراهم ، أي ثماني جنيهات مصرية تقريبا .. قدح الشاي يبلغ ثمنه خمسة عشر درهما ، ورغيف الخبز الفرنسي عشرة دراهم  ، وقد فوجئت بأحد الزملاء ثائرا وغاضبا ، لأنه أرسل جلبابا إلى المغسلة أو المصبنة كما تسمى هناك، فطلبوا منه خمسة وثلاثين درهما ::! قال لى : إنه اشترى الجلباب بنصف هذا المبلغ في بلد مشرقى يعمل فيه !

سألت عامل الفندق الذي كنا نقيم فيه – وهو ليبي الجنسية ومتزوج من مغربية - عن أجره ، فأخبرني أنه يتقاضى خمسين درهما في اليوم نظير عمل شاق ، ويمكننا أن نتصور كيف يعيش بها ( رغيف + قدح شاى + ...) ويبدو أنه يدبر نفسه ، بمساعدة زوجته التي تعمل في مكان آخر على أساس أن الفندق يتولى إعاشته ، أي إطعامه .

هذا العامل يبدو محظوظا ؛ لأن البطالة متفشية في المغرب الشقيق ، ولكنها ليست بالصورة الموجودة في مصر المحروسة ، المقاهي هناك مكتظة في النهار بالعاطلين الذين ينتظرون فرصة الحصول على عمل ما ، ولكن يبدو     أن المدن الساحلية أفضل حظا بحكم وجود مهنة الصيد التي تستوعب عددا هائلا من العاملين ووجود مهنة الصيد خلق مجالا لتصنيع الأسماك المحفوظة ، ولدى زيارتى إلى أغادير قبل سنوات ، لم تكن ظاهرة البطالة هناك موجودة بهذه الحدة التي وجدتها في مراكش ، ولم تكن المقاهي مكتظة بالرواد على هذا النحو ؛ الذي يسهم في صناعة الجريمة !

وتنشر الصحف المغربية عن بعض الحوادث ، وضبط شبكات للدعارة ، أو تجارة المخدرات ، ولكنها بكل تأكيد دون ما يجري في بلادنا ، وتتكلم عنها الصحف باستفاضة ، وتناول متشعب ، وكأنها تبحث عن الأسرار أو الأسباب التي تقع أو تؤدي إلى حدوثها..وبالطبع لم نسلم نحن الزائرين لمراكش الحمراء من هذه الحوادث ، فقد أخذت الحماسة أحد زملاء الرحلة ليبحث عن مكتبة يشترى منها بعض الكتب في موضوع معين ، ولم يصبر حتى يرافقه واحد من الزملاء أو المضيفين ، وذهب وحده ووصل إلى المكتبة ، وعند خروجه منها لم يعثر على نقوده .. ولم يُجد اللجوء إلى الشرطة وتحرير محضر بالسرقة ! وحين عرف بعض أصدقائنا المغاربة بما جرى ، قالوا : قالوا ينبغي ألا يسير أحد بمفرده في الأماكن المزدحمة ، ولا حظوا أن السياح يسيرون معا ؛ لذا لا يستطيع اللص أن ينتزع منهم شيئا !

مشكلات المجتمع المغربي مطروحة بقوة في السياسة المغربية ، والأحزاب هناك تنشط في طرح الحلول لهذه المشكلات ، وتتنافس فيما بينها لكسب رجل الشارع ، وكانت الأحزاب اليسارية قد أحرزت مكاسب كبيرة في الانتخابات السابقة بحكم دقة تنظيماتها ، وسرعة حركتها ، وقد ألقت حينها بالأحزاب التقليدية إلى المؤخرة ، باستثناء الحزب الإسلامي الناشئ حديثا ( العدالة والتنمية ) ، وقد حصل على عدد لا بأس به من المقاعد .. وكان المأمول في الانتخابات الأخيرة أن يحرزعددا أكبر ؛ وكان عدد من المراقبين قد راهن على هذا الحزب ليفوز بالأغلبية من مقاعد المجلس النيابي المغربي.. ولكن النتيجة كانت مخيبة للآمال ، ولم يحقق الحزب ما توقعوا باستثناء فوزه بمقعدين زيادة على المقاعد التي فاز بها في الانتخابات السابقة ، واحتل المرتبة الثالثة بين الفائزين من الأحزاب .  

وتفاوتت التحليلات في تفسير عدم تقدم العدالة والتنمية.. وقد سمعت من بعضهم ؛ أن الإسلاميين في المغرب على اختلاف تياراتهم ، أجمعوا على عدم الرغبة في الفوزأو تشكيل الحكومة ، لأنهم لا يريدون تحمل مواريث وتبعات من صنع غيرهم ، يمكن أن تضعهم في صورة غير طيبة ، ثم إنهم يستشعرون أن هناك رغبة من بعض الجهات في اصطيادهم وافتعال صدام يشتت شملهم ويكسر ظهرهم ، لذا نأوا بأنفسهم عن الوقوع في الشرك ، ورأوا أن وجودهم في المعارضة قد يخدم بلادهم أكثر من وجودهم في قيادة الحكومة .

منتهى الوعى !

لقد قام التيار الرئيسي ( العدل والإحسان ) ، الذي يقابل الإخوان المسلمين عندنا بمقاطعة الانتخابات ، ولم يذهب أفراده إلى صناديق الاقتراع ، أما حزب العدالة والتنمية فقد انشق عنه حزبان ؛ أحدهما أحرز مقعدين في لانتخابات الأخيرة ، أما الآخر فقد فاز بمقعد واحد ، وبدأ أن تيار الإصلاح والتجديد الذى ينتمي إليه " العدالة والتنمية " ،والمنشقون عنه ، غير راغب في تغيير الوضع السياسي لأحزابه ، لأنه يركز فيما يبدو على نشر فكرته الإصلاحية عبر المساجد ( ليس عندهم زقزوق!) ، والندوات ، والصحف . وله صحيفة قوية اسمها التجديد ، انضم إليها قبل زيارتنا بعض الصحفيين المصريين ، الذين يسهمون في تحريرها وتطويرها ، وكان أحدهم قد كتب قبل ذهابه إلى هناك عن رئيس التيار أو الحركة مقالا شرح فيه طبيعتها وفكرها ، وأشاد برئيسها . وهناك صحيفة أخرى اسمها المحجة " تتبنى رؤية  الإصلاح والتجديد ، وتميل إلى معالجة القضايا الفكرية لا الإخبارية .

ومع ذلك فإن حزب الاستقلال الذى فاز بالأغلبية في الانتخابات الأخيرة ، تأسس على قاعدة إسلامية منذ حرب التحرير على يد زعيمه التاريخي " علال الفاسي" الذي يعد بطلا قوميا ، وله صحيفة مشهورة هي " العلم " وقد أسسها الأديب المغربي الشهير " عبد الكريم غلاب " ، وهو معروف جيدا في المشرق العربي ، لقد جاء الفاسى الحفيد ليقود الحكومة الحالية من خلال تحالف يشارك فيه اليسار المغربي ، دون الإسلاميين من العدالة والتنمية  .

وتجربة العدالة والتنمية المغربي تتشابه مع العدالة والتنمية التركي إلى حد ما ؛ وإن لم تحقق ما حققه الأخير من نجاحات لأسباب داخلية ، أكثر منها خارجية ،ولكن القوم هناك يحاولون التحرك في إطار الممكن والمتاح ، حيث تُلقي بعض عمليات العنف التي تنسب إلى التيار السلفي ، بظلالها على وضع الإسلاميين بصفة عامة ، بالإضافة إلى المواضعات الدولية التي تفرض على المغرب نوعا من المواء مات ، ليس قائما في تركيا .

وينعكس هذا الوضع على الحالة الثقافية المغربية ، فاليسار هناك يبسط سلطانه على مجمل الحياة الأدبية والفكرية ، واتحاد الكتاب ، ويقصى الإسلاميين جهارا نهارا .. وإن كان هؤلاء في نشاطاتهم الأدبية لا يجدون غضاضة في دعوة اليساريين والتحاور الراقي معهم .. ولوحظ أن الحكومة الحالية تضم " ممثلة " يسارية تسلمت حقيبة الثقافة ، واليساريون المغاربة – للأسف – يحرصون على التواصل مع اليساريين المشارقة في أنشطتهم الثقافية والفنية دون الإسلاميين المغاربة . ويبدو أن اليسار العربي ملة واحدة ، لا تؤمن بالحوار ، ولا تعرف التسامح . ومن المفارقات أن وزراء الثقافة المغربية في الحكومات المغربية الماضية ؛ كانوا جميعا من اليساريين ، وكانت الوفود التى تدعى إلى "أصيلة " وغيرها تكاد تحمل أسماء مكررة لا تتغير ، وكلها من أهل اليسار المستبد!

ظاهرة أخرى مرتبطة باليسار ؛ وهي حرص المكتبات التي رأيتها في مراكش ، ومطار الدار البيضاء على وضع مؤلفات ومترجمات اليساريين وحدهم ، ولا تجد للكتاب الإسلامي أثرا إلا في بعض المكتبات الصغيرة التي لا يعرفها غير المغاربة.. وكثيرا ما تصطدم عينك بكتب الرافضين للثقافة الإسلامية ، والموالين للغرب ، واليهود النازيين بالتالي : أدونيس ، محمود درويش ، بنيس ،  الجابري ، نيرودا ، ناظم حكمت .. وغيرهم عربا وأجانب .. وكأنه مكتوب على الأمة أن تعيش في الثياب الفكرية للمستبدين والمتغطرسين في الفكر والثقافة والسياسة جميعا ، مع أنهم أقلية ، ولكنها أقلية لا تعترف للأسف بأن هناك أغلبية ساحقة لا تقبلها فكرا أومنهجا أوسلوكا ..