رحلتي مع الشعر

د. عارف كرخي أبو خضيري

مهرجان الشعر الدولي في أستروجا

د. عارف كرخي أبو خضيري 1

[email protected]

لعل أصعب التأشيرات التي حصلت عليها في رحلاتي وأسفاري هي تأشيرة الدخول إلى جمهورية مقدونيا، موطن الإسكندر الأكبر المقدوني؛وذلك لأنه ليس لهذه الدولة سفارة في سلطنة بروناي التي أقيم فيها، وليس لها سفارة أيضا في كوالا لمبور، وأقرب سفارة لها في نيودلهي في الهند، وسفارة أخرى في ملبرن بأستراليا، وثالثة في إسطنبول بتركيا. وقد صعب عليّ الحصول على هذه التأشيرة في العام الماضي،حين دعيت لإلقاء شعري في أمسيات أستروجا الشعرية،وقد اقترح عليّ وقتذاك صديقي الشاعر المقدوني ميته ستيفوسكي،مدير المهرجان،أن أحصل على تأشيرة للبوسنا المجاورة لمقدونيا حيث ينتظرني هو ورفاقه في المطار ويرافقونني بسيارة إلى أستروجا،ولكني رفضت هذا الحل لما فيه من مخاطرة، فاقترح ميته أن أحصل على تأشيرة من القاهرة أو إسطنبول، فاعتذرت عن السفر لكثرة ما جدّ من أعمال في الجامعة تحول بيني وبين السفر. ثم أرسل لي ميته هذا العام دعوة ثانية مبكرة في شهر مارس، وحصلت على تأشيرة من سفارة تركيا بسري بكاون، وأرسلت في طلب تأشيرة من سفارة مقدونيا في إسطنبول وأجابوا الطلب بتدخل من ميته نفسه، وتولّت ابنتي عزة ،كعادتها، ترتيب كلّ شيء يتصل بهذه الرحلة.وسافرت من بروناي في الساعة الرابعة من يوم السبت 16/8/2014م على متن طائرة  من طائرات شركة طيران آسيا، ووصلت إلى كوالا لمبور في السادسة والنصف مساءً، وكانت ابنتي عزة في انتظاري مع صديقة لها ماليزية تدعى صابرينا،وأخبرتني أنهما كانتا في حفل عيد ميلاد صديقة لهما. ثم دار الحديث عن مقدونيا ومهرجانها الشعري، ودهشت من ثقافة الشابة الماليزية ، فهي من أسرة غنية مثقفة أتاحت لها تعليمًا في أرقى الجامعات الخاصة في ماليزيا، والسفر إلى أوربا وأمريكا،وأخبرتني أنها زارت معرض بيكاسو في باريس، وأن ثمة شاعرًا في مقدونيا معروفًا لديه متجر لبيع الأحذية،فابتسمت وتذكرت عدداً من شعرائنا العرب الذين كانوا يمتهنون بعض المِهن المتواضعة التي لم تمنعهم من كتابة الشعر، بل استفادوا منها، وكان الناس يلتفون حولهم،ويتلقون عنهم شعرهم،كالخباز البلدي الذي كان يعمل خبّازاً،والوأواء الدّمشقي الذي كان يبيع الفاكهة في الأسواق،وأبي العتاهية   الذي كان في بداية حياته يبيع الجِرار في الكوفة، فكان يأتيه الأحداث والمتأدبون فينشدهم أشعاره،ويكتبونها على ما تكسّر من الخزف وما يشترونه من الجِرار.

    وفي صباح سفري إلى إسطنبول وصلتني رسالة من ميته يخبرني فيها بأنهم سيكونون في انتظاري في مطار الإسكندر الأكبر في سكوبجي حاملين لافتة عليها اسمي ، كما أرسل لي برنامج المهرجان.

    ذهبت قبل سفري مصطحبًا أسرتي إلى مطعم بالمدينة للاحتفال بعيد ميلاد ابنتي عزة و ابني أحمد. وفي السابعة مساءً مضينا إلى المطار. وكان التفتيش دقيقا، وكان بجواري في الطائرة التركية زوجة شابة  منقّبة وزوجها الشاب وطفلاهما، ولم تستطع المضيفة التفاهم معهما لأنهما لا يتحدّثان التركية ، ولم أستطع أنا الحديث معهما لأنهما لا يتحدثان الإنجليزيةأيضاً. وفضلاً عن ذلك فإن الطفل الأصغر الذي تحمله أُمه لم يكف عن البكاء حتى تعب ونام .واستغرقت الرحلة نحو اثنتي عشرة ساعة، من الساعة الحادية عشرة مساءً حتى الساعة العاشرة صباحًا.والمضيفات التركيات ممشوقات القوام، قويات البنية، يجمعن بين الجمال الغربي والسحر الشرقي، شقراوات ذوات عيون سود واسعة. وليس هذا المزيج   الآسيوي الأوربي بغريب على تركيا، فقد ظهر هذا واضحًا في إسطنبول، فقسم منها أوربي، وقسم آخر آسيوي. وهناك جسر يربط بينهما. ويلاحظ المرء في شوارع المدينة فتيات تركيات كالأوربيات تماما،  كما يشاهد أخريات منقّبات أو محجبات، والمدينة تُعرف بمساجدها الضخمة العريقة، كما  تكثر فيها القصور والمراكز التجارية الحديثة. وقد لاحظت كلمة "تمام" العربية منذ ركبت الطائرة التركية،وثمة ألفاظ عربية أخرى لا حصر لها كساعة وحسابي(حساب) وعسكري ودرويش وهبر(خبر) وصباح وصباح خبر (أخبار الصباح). وتركيا مثل رائع للدولة المسلمة المتقدمة في عصرنا بفضل مصلحيها ومفكريها وحكّامها الذين يتميّزون بالحكمة والحنكة والسياسة الرشيدة وبعد النظر.

      استأجرت سيارة من مطار كمال أتاتورك إلى الفندق الذي سأنزل فيه في منطقة "تقسيم"،وقطعت السيارة المسافة في نحو خمس وعشرين دقيقة. وبدت المدينة في الخامسة وهي توشك على النهوض من نومها كالغادة الجميلة، وبدت في ثوب رمادي اللون تزدان بصفرة الأضواء التي تساقط عليها من مصابيح الأعمدة التي على جانبي الطريق.   و"تقسيم " منطقة مشهورة قريبة من الميدان وبها مصالح كثيرة وخلف الميدان تقع السفارات الأجنبية.

قدّم لي الفندقي فنجان قهوة تركية، ثم زودني بخريطة صغيرة لمدينة إسطنبول وكتيبات كثيرة، وأرشدني إلى شارع السفارة المقدونية، فذهبت إليها في نحو عشر دقائق، وقد فتحت أبوابها في العاشرة، وقابلت السفير المقدوني وهو شاب مهذب،رحب بي،ومنحني التأشيرة،وتمنى لي سفرة طيبة إلى بلاده،وانصرفت وعدت إلى الفندق قبيل الثانية عشرة وتناولت إفطاري ثم مضيت في رحلة حول المدينة بالأتوبيس السياحي استغرقت ثلاث ساعات .وفي المساء عدت إلى الفندق وفي الطريق عرّجت على فاكهي واشتريت بعض الحلوى والعصير والعنب والتين والتفاح.

زرت في الصباح التالي متحف آياصوفيا، وركبت المترو إلى محطة السلطان أحمد، والمتحف معبد خرافي وواحد  من أجمل المساجد في العالم كلّه، وكان في الأصل كنيسة بناها الملك قسطنطين أحد أباطرة اليونان، ثم حوّلها السلطان الفاتح أحد السلاطين العثمانيين إلى مسجد، وأزال الصور من جدرانها ، وبنى به محرابا وزيّنه بسورة النور وكتابات عربية  جميلة، وهو أحد الأماكن الدينية السياحة التي تستقطب أعدادا كبيرة من السائحين، وهو مثل الفاتيكان أو مسجد قرطبة أوقصر الحمراء في الروعة والشهرة والمكانة التاريخية والدينية. وفي هذا المسجد يحس المرء بعظمة وقوة السلاطين العثمانيين السابقين.

ثم زرت مسجد السلطان أحمد الأول المقام أمام مسجد آيا صوفيا. وهو  أكبر مساجد إسطنبول وأجملها وله ست مآذن ، ويسمّى المسجد الأزرق لكثرة الزخارف الزرقاء بداخله ، وأمامه ساحة كبيرة ونافورة ضخمة، والمكان كله رائع ساحر، والدخول بالمجان ويعطي الموظفون الزوار أكياسًا من البلاستيك ليضعوا فيها أحذيتهم، وعندما يخرجون  يعيدون الأكياس إلى حفر مستديرة عند الباب. وقد استغرقت زيارتي نحو نصف ساعة فقط، ثم خرجت لأستريح وأتناول بعض الشراب المثلّج.

وفي الساعة الواحدة والنصف زرت  صهريج يره باتان الذي بناه الملك قسطنطين، وهو مظلم لا يكاد المرء يرى ما حوله في داخله،وتقام به أعمدة كثيرة داخل الماء ويعوم فيها السمك الملون.

ثم خرجت في الثانية والنصف، ومضيت  إلى مسرح هودجا باشا لمشاهدة عرض رقصة الدراويش الشهيرة، وقد ابتدعها أتباع مولانا جلال الدين الرومي بعد وفاته وكان ذلك في عام 1573م بجهود ابنه السلطان وليد Veled،ثم انتشرت رقصتا الشلبي المولوي والسيما في  كلّ أرجاء العالم. والسيما رقصة دينية رمزية تمثّل تحرير الإنسان لنفسه من المشاغل الدنيوية والصعود إلى الله عزّ وجل من خلال رحلة موسيقية طويلة. ويمتد تاريخ هذه الرقصة نحو ثلاثمائة سنة.وقد ولد سيما هاس ميكتاسي في مدينة نيسابور بخراسان ثم سافر إلى الأناضول ثم بدأ ينشر التعاليم الأخلاقية والبيكتاشية وهي رقصة شعائرية ملاوية تؤديها جماعات تسمّى سيما Seimah، ويقال إن السيما تؤدي في عيد الحصاد.

وبدأت رقصة الدراويش في تمام الساعة السابعة مساءً، فدخل موسيقيون أربعة الصالة بقمصان بيضاء وسراويل سوداء، أحدهم بعود والثاني بناي والثالث بقانون والرابع بطار.وقدّمت إحدى الموظفات للفتيات العاريات السيقان من المشاهدين شالات سابغات ليغطين ما تعرّى من أجسادهن وذلك لأن هذه الرقصة في حقيقتها عمل ديني خالص.وفي لحظات أمست الصالة المستديرة دامسة فيما عدا أنوار حمراء وزرقاء وخضراء خافتة في السقف، وضوء أحمر شاحب خلف الموسيقيين.وامتلأت الصالة بنحو مائتي مشاهد أو أكثر قليلا. وعندما دخل الموسيقيون وقفوا برهة قصيرة ثم انحنوا للجمهور ثم جلسوا على مقاعدهم وبدأوا في العزف.وقد استمروا يعزفون لعشر دقائق ثم توقفوا ونهضوا وانحنوا للجمهور ثم خرجوا. ثم دخل الراقصون الدراويش وانحنوا بدورهم للجمهور واحدا بعد الآخر، ثم وضعوا على الأرض سجاجيدهم وسجدوا مصلين ثم انحنوا للجمهور ثم ولوا منصرفين. وكانوا يلبسون قفاطين سوداء فضفاضة وعلى رءوسهم طرابيش طويلة،وعلى سيماههم الجلال والهدوء، وهم طوال القامة. ودخل أولًا اثنان ثم خرجا، ثم دخل سبعة موسيقيين، خمسة كراقصين بعباءات سوداء وطرابيش صفراء. وجلسوا وانحنوا وهم يغنون : "يا حبيب الله يا رسول "،وقد قالها أحد الموسيقين وهو واقف،خافضاً رأسه في خشوع، والتراتيل والتواشيح كانت كلّها بالتركية.ثم انحنوا كلّهم ورائدهم يغني، ثم بدأوا في العزف على الناي، والجمهور صامت لا حس ولا حركة. ثم وضع الجميع أيديهم على الأرض ثم نهضوا وبدأوا يرقصون وهم ينحنون ويدورون في القاعة وينحنون الواحد أمام الآخر ويتجهون لليمين وينحنون مرات كثيرة ويسيرون بخطوات واسعة هادئة على أنغام العود ثم انتهوا بالوقوف صفًا واحدًا، ولا تظهر أيديهم،ثم خلعوا القفاطين عن ثياب بيض ووضعوا أيديهم على أكتافهم كلّ واحد وضع يده اليمنى على كتفه اليسرى ، واليد اليسرى على كتفه  اليمنى، ثم أخذوا يدورون حول أنفسهم ويرفعون أيديهم إلى أعلى ورءوسهم مائلة لليمين ثلاثة في الوسط وواحد خلفهم وواحد أمامهم، ويدورون على وقع أنغام الموسيقا والغناء البديع. وكانت ثيابهم البيضاء يتوسطها حزام أسود في وسطه خيط أبيض، ومضوا يدورون وعيونهم مغمضة وأكفهم مفتوحة لأعلى والمغنون ثلاثة على اليمين والموسيقيون أربعة، وهم نفس الموسيقيين الذين دخلوا في بداية العرض، وأخذوا يعزفون نفس الآلات الموسيقية التي ذكرتها من قبل. وهم يدورون بهدوء وبطء شديدين وفي أرجلهم جوارب سوداء ورءوسهم مائلة لليمين ثم اليد اليمنى مفتوحة لأعلى واليسرى مفتوحة لأسفل.

ثم خفضوا أذرعتهم وانحنوا ووضعوا أيديهم على أكتافهم،ووقف ثلاثة في صف، واثنان في صف آخر، ثم أخذوا يسيرون واحدًا واحدًا، ويقفون ويذهبون أمام الجمهور، ثم يدورون ويدورون ويرفعون أيديهم لأعلى بنفس الطريقة ثلاثة منهم في الوسط، وواحد خلفهم، وواحد أمامهم. وهم يدورون لليمين مغمضي العيون.

ثم توقفوا عن الدوران ووضعوا أيديهم على أكتافهم ثلاثة في صف، واثنان في صف آخر بجوارهم.ثم مضوا ينحنون أمام الجمهور، ويدورون حول أنفسهم. ثم رفعوا أيديهم لأعلى بالطريقة المذكورة ويدورون حول أنفسهم من اليمين لليسار، ثم بدأت الموسيقا والغناء يعلوان في رتم سريع ، والراقصون يدورون حول أنفسهم. واتخذ الراقص العجوز مكانه وسط الراقصين واستمر الباقون يدورون حوله دورات طويلة بسراويلهم البيض الفضفاضة ثم توقفوا وانحنوا ووضعوا أيديهم على أكتافهم وانحنوا أمام الجمهور الواحد منهم تلو الآخر ثم اصطفوا جميعهم صفا واحدًا وانحنوا للجمهور ثم عادوا للدوران. والمدهش أنهم باتوا يدورون أربعين دقيقة كاملة ولم تظهر عليهم علامات التعب ومن بينهم راقص عجوز. وهذا العرض الفنّي الديني ،أو بعبارة أدق الديني الفنّي،من العروض الثقافية الفريدة.ولم تلبث الموسيقا أن خفتت وتباطأت حركات الراقصين رويدًا رويدًا حتى توقفوا تمامًا.ثم أنشد المنشد البسملة وقوله تعالى: {لله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله}ولبس الراقصون قفاطينهم وجلسوا وسجدوا ثم اعتدلوا في جلستهم،ثم أنشد المنشد:"بديع السموات والأرض، فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون" ثم رتّلوا "سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين"، ثم قرأوا الفاتحة.وفي خلال ذلك كان الراقصون يرفعون أيديهم بالدعاء ثم سجدوا ووقفوا ووقف الموسيقيون بعدهم، وانحنوا للجمهور ثم خرجوا واحدًا إثر الآخر.

في صباح اليوم التالي زرت قصر طوبقابي في تمام الساعة التاسعة وخمسين دقيقة، وهو قصر ضخم  بناه السلطان محمد الفاتح ويدل على الغنى والثراء والشغف بالعمارة والفن.وفي مدخل القصر غرفة السكرتارية وبها لوحات كبيرة على الجانبين، وأثاث الدور الثالث جُلب من فرنسا أيام نابليون الثالث. وغرف القصر فسيحة واسعة، وهناك قسم للحريم. وعلى الجدران لوحات حروب ومعارك. والقصر عتيق، وقبل الدخول يطلب من الزائرين لبس جوارب من البلاستيك حول أحذيتهم. وهناك مكتبة ضخمة  للسلطان أحمد الأول وبها مجلدات كثيرة. وعلى الجدران صور السلاطين العثمانيين ومن بينها صورة والد السلطان عبد المجيد وصورة السلطان عبد المجيد نفسه وكان سلطاناً مِزواجًا تزوج من ثماني عشرة امرأة، ورزق بأبناء كثيرين. وفي القصر صالة للاحتفالات،وكانت تقام فيها الاحتفالات مرتين في العام، الأولى في شهر رمضان، والثانية في عيد الأضحى، وبالصالة سجادةكبيرة وفوقها منضدة وعليها فازة وتعلوها عناقيد من المصابيح الضخمة.

 وعندما انصرفت من قصر طوبقابي مضيت لزيارة متحف الفن الحديث ويضمّ أعمالًا عبثية وأفلامًا ومناظر لا رابط بينها مصحوبة بأنغام البيانو،وحتى تكسير الزجاج الذي يعرضونه هنا يعدّونه فنًّا.بيد أنه من الحق أن ثمة لوحات، وإن كانت قليلة، تتسم بالأصالة والجودة، ومنها لوحة. Oil on Fire boat لسامي يتيك (1878 – 1945) وهو فنان برع في رسم المناظر الطبيعية والريف التركي، ولوحة حورية الغابة Forest Nymph لهمت جوريل (1884 – 1940) وهي تصوّر فتاة عارية تجلس بين جذوع الأشجار وترفع قدمها اليسرى على جذع شجرة مقطوع وأمامها غزالة، وهي لوحة رمزية تمثل الهدوء الأبدي. ولوحة "هذا حمّامي" لبدري بايكام ،وهي تصوّر فتيات يجلسن عاريات يغتسلن في شاطئ بحر،وإحداهن نصفها في الماء وخمس فتيات عاريات جالسات على الشط.وكثير من العروض في الفيديوهات عن فنانات يؤدين عملهن الفني، وأعجبها عن فنانة تلّون شفتيها باللون الأحمر وتطبع على جدران الغرفة وآثاثها قبلات كثيرة شملت كل ما بها من نوافذ وأسقف وأحذية ووسائد، وهي عارية إلا من قميص نوم لا يستر إلا القليل من جسدها.

ومضيت إلى الدور الأرضي وهو يضمّ صورًا فوتغرافية عن الحياة في تركيا، وسقفاً على خيوط وعليه كتب وجرائد ومجلات متناثرة.وتخرج من المعرض بنفس الإحساس الذي دخلت به أي بعبثية الفن في عصرنا الحديث.

وفي اليوم التالي غادرت تركيا إلى مقدونيا، وفي الطائرة التركية من إسطنبول إلى سكوبجي قرأت في مجلة الشركة قصة الرسام الإيطالي فاوستو زونارو Fausts Zonaro الذي ولد في ماسي Masi عام 1854م، ودرس في نابولي وروما وباريس ثم سافر إلى إسطنبول في عام 1891م وجذب انتباه الدوائر الدبلوماسية بها بتقنياته الجديدة المختلفة عن غيرها وجذبت لوحاته انتباه الخليفة عبد المجيد الثاني فاستدعاه وعيّنه رسام القصر. واهتم زونارو بموضوع الأمومة في رسوماته وتقدم بلوحة عن "حُبّ الأُم" إلى مسابقة دولية فاز بجائزتها، وتمثّل اللوحة أُما تحمل طفلاً لها تحتصنه وتقبله، واشتراها منه الخليفة العثماني،ورسم لوحات كثيرة أخرى عن الموضوع نفسه كلوحة "أُم تعين ابنها في أداء دروسه"وتصوّر أُما أمامها طفلها وهو يجلس إلى مكتبه وبجوار الأُم مصباح غاز ، ولوحة أخرى تصوّر أُما تلاعب ابنها على أرجوحة، ولوحة أخرى لأُم على رأسها وشاح طويل وتحمل ابنها على ركبتيها وهي تتطلع إليه وتميل برأسها نحوه بحنان،وحولها أوراق وأغصان بعض الأشجار. وزونارو يعبّر بصدق عن حُبّ أمه التي اعتاد زيارتها في ماسي،وعندما اشتدّ بها المرض استدعته لرؤيتها ولكنه وصل بعد فوات الأوان؛فقد قضت نحبها قبل أن تراه. وكان الرسام يرسم والدته في  كلّ مرة كان يزورها فيها. وأخيرًا قرر زونارو أن يعود إلى بلده في عام 1910م. وأجمل أعماله بالطبع هي لوحة "حبّ الأم" “Amore Materno” التي كانت سبب شهرته وثرائه.

 استغرقت الرحلة من إسطنبول إلى سكوبجي ساعة ،وقد وجدت أحد منظمي الحفل في انتظاري، وكان يحمل لافتة عليها اسم المهرجان، وكانت معي في الرحلة شاعرة يابانية تدعى ماريا وكان يصطحبها زوجها الذي يعمل مديرًا لمتحف في طوكيو. وقد استغرقت السيارة من المطار إلى فندق بالمدينة تناولنا فيه الإفطار وشربنا القهوة نصف ساعة من الزمان. ثم جاءت الحافلة التي أقلتنا إلى الفندق المخصص لنا في مدينة أستروجا.

وسكوبجى،عاصمة مقدونيا، مدينة جميلة خلّابة، وهي بلدة صغيرة يسكنها بضع مئات من السكان. والفتيات يونانيات الملامح ،بارعات الجمال،بأنوفهن وشفاههن الصغيرة،وعيونهن الواسعة،وشعورهن الناعمة الصفراء التي تسترسل على أكتافهن كسلاسل الذهب.

 وبعد قليل صعد إلى الأتوبيس عدد من الشعراء المقدونيين،وتوجهنا بعد ذلك إلى أستروجا، والمرشد في هذه الرحلة مدرس مقدوني لطيف ومرح يدعي نيكولا، وبدأت الرحلة في العاشرة صباحا وشاهدنا في سكوبجى تماثيل كثيرة لحيوانات وجنود ومحاربين وزعماء وقواد قدماء ومحدثين.

وفي الطريق إلى أستروجا شاهدت كثيرًا من الأشجار على جانبي الطريق، وبدت الجبال العالية تكسوها الخضرة ،كما لاحت البيوت البيضاء بسقوفها الحمراء الداكنة اللون. ورأيت عددًا كبيرًا من الناس يركبون الدراجات ، وشاهدت عدداً كبيراً من المساجد الصغيرة مما يدل على وجود مسلمين كثيرين في هذه المنطقة. وأخذت أحصي المساجد فوجدها تربو على الخمسة عشر مسجدًا بمآذن نحيلة طويلة يعلوها الهلال. وما لبثت أن  أدركني النعاس في الأتوبيس؛فالرحلة طويلة، ولم أنم بالأمس إلا ساعتين أو أقلّ.

وفي الطريق بوابات مرور كثيرة يقف عندها الأتوبيس ليدفع السائق رسم العبور.ووقفنا بعد ساعتين عند متجر صغير لتناول المرطبات والأطعمة الخفيفة.وفي المتجر سمعت بعض المقدونيين يتحدثون فيما بينهم بلغتهم وهي حسنة الوقع على السمع إلا أن بها حروفًا لا توجد في الكتابة اللاتينية مثل  Д, Л, Фوبعضها لها نظائر في الكتابة التركية.ولا يستبعد أن يكون للتركية تأثير في اللغة المقدونية ولا سيما أن العثمانيين حكموا هذه البلاد فترة من الزمان.

ونظرت إلى الشعراء الذين جاءوا للاحتفال فوجدت أغلبهم من الأوربيين وقليلًا من الآسيويين، ولم أجد أحدًا من العرب ولا المصريين سواي.

وصلنا إلى الفندق في الواحدة والربع، وكانت غرفتي في الطابق الثالث، وسلّم عليّ جوروان كوستوفسكي وهو شاب مقدوني عرفت منه أنه المترجم الذي ترجم قصائدي إلى اللغة المقدونية، وقد أبدى إعجابه بشعري،وأخبرني أني قد  اُخترت لأقرأ شعري في حفل الافتتاح في حديقة الجسر، وهي على معبدة خمس دقائق سيرًا على الأقدام من الفندق، وأخبرني أنني سأقرأ قصيدة "كان مطر" وأدهشني ذلك لأني أرسلت لهم قصائد أخرى من ديواني الجديد (ليالي غرناطة)، ولحسن الحظ أني حملت معي ديواني (أحلام صغيرة) وبه هذه القصيدة.

أقيم حفل الافتتاح في السابعة والنصف مساءً، وحضرته وزيرة الثقافة المقدونية اليزابيتا كانيسيفا ميليسكا، وهي سيّدة جميلة مثقّفة، سلّمت على الضيوف،وكان في رفقتها صديقي الشاعر ميته مدير المهرجان، وعرّفها بي فرحبت بي ثم دعونا لتناول طعام العشاء من اللحوم والدجاج والفواكه والعصائر،وبقينا نحو ساعة من الزمان ثم انصرفنا. وفي الثامنة والثلث بدأ الاحتفال بقراءة الشعر في مسرح المريديان بعد الجسر، وكان احتفالًا مهيباً واصطفت الفتيات المقدونيات الفاتنات حاملات المشاعل على الجانبين، ثم صعدن على درجات المسرح، ثم ألقت الوزيرة خطابها وألقى الشاعر  كو  أُون الكوري  الحائز على الجائزة هذا العام شعره، وهو شاعر عجوز ألقى قصيدة بطريقة مسرحية هزلية،ثم ألقى عدد من الشعراء قصائدهم من بينهم شاعر إنجليزي وآخر تركي وثالث روسي ورابع إسباني وخامس أسترالي، ثم ألقيت قصيدتي وقد لقيت القصيدة إعجابا من الشعراء، وذكر لي ألبن الشاعر الألباني،وهو دارس للعربية، أن الترجمة المقدونية لم تؤد المعاني الثرة التي حفلت بها القصيدة العربية ولم تكن بروعتها وتأثيرها، ونفس الكلام قاله لي الشاعر الأسترالي ليس ويكس وذكر أن اللغة العربية تختلف عن اللغة الكورية، فالعربية تتدفق كالماء سلاسة،بينما الكورية تتعثر على فم الشاعر الكوري وتصدر عنه في شدّة وعنف. ثم انصرفنا عائدين إلى الفندق.

وفي صباح اليوم التالي أقيمت ندوة في الساعة العاشرة عن الشعر والسياسة، وتحدث ميلان جورشنوف وهو شاعر مقدوني عجوز من مؤسسي المهرجان، وأعرب عن تشاؤمه من وضع الشعر المعاصر، وقال إن الشعر اليوم في أزمة وإن الشعراء لا يستطيعون أن يصنعوا شيئًا في عالمنا المعاصر، وإن النزعة القومية عامل من عوامل الأزمة الحالية، وإن الشعر الحديث لم يأت بجديد،بل هو مجرد فشل ذريع. ثم تحدثت شاعرة هندية عن شعر المقاومة للشاعرات الهنديات المعاصرات ومن أهمهن الشاعرةكوملاداس التي رشحت لجائزة نوبل للآداب، وتقول هذه الشاعرة في بعض شعرها إن كلّ اللغات التي تتحدث بها لغتها،وشعرها يجمع بين الثورية والروحية والجنس والسياسة.ثم تحدثت الشاعرة اليابانية ماريا عن دور الشعر الياباني في دفع العالم للأمام دون استعمال القوة أو العنف. ثم تحدثت شاعرة إسرائيلية عن عزلة الشعراء عما يدور حولهم في العالم ،وهي عزلة تعينهم على رؤية الأشياء بوضوح ،إلا أنها تشك في أن يكون لهم دور في تغيير العالم.وقالت إن الشيء الوحيد الذي ينبغي أن يتمسك به الإسرئيليون ليس الأرض ولا الاستيطان ،وإنما هو لغتهم العبرية فحسب.ثم تحدثت شاعرة صينية شابة عن تجربتها في الشعر السياسي في بلدها.

وفي الساعة الثانية عشرة في اليوم التالي ركبنا الحافلة إلى "كاليشتا" وهي مصيف معروف، ووصلنا إليها في عشرين دقيقة،ووجدنا فيها كثيرًا من المصطافين الذين يسبحون في نهر أستروجا،ورأينا الفتيات يخطرن بالباكيني على الشط كعرائس خرجن لتوهن من البحر.

وقرأنا الشعر في الظهيرة وسط الطبيعة الفاتنة الجميلة بجوار البحر،وقدّمتنا فتاة مقدونية حسناء وألقيت قصيدة "حنين" ونالت إعجاب الجميع،ولم أقدم ترجمة لها كالآخرين. وهذه الأمسية،خلافًا لأمسية الافتتاح التي كانت تظهر فيها الترجمة على شاشة كبيرة خلف الشعراء، كان الشعراء هم الذين يقرأون ترجمات القصائد التي يلقونها .كما كانت تختلف في شيء آخر وهو أن الشعراء كانوا يلقون الشعر بأنفسهم لأنفسهم، ولم يكن ثمة جمهور يسمع لهم. وانفض الحفل في الواحدة والنصف وعدنا إلى الفندق وجلست إلى جواري شاعرة قبرصية في ريعان الشباب وأبدت لي إعجابها بقراءة شعري ، وكانت الشاعرة القبرصية قد ألقت قصيدة لها بعنوان "عيناك" وهي قصيدة غزلية بديعة.وقد ذكرت لي الشاعرة القبرصية أنها شاركت في مهرجانات شعرية عديدة بتركيا وبلغاريا وانجلترا وغيرها، وقالت إنها تميل إلى مزج الشعر بالفنون الأخرى كالمسرح والموسيقا ،كما إنها تحب أن تشرك قارئ شعرها معها.

وقد لفت نظري بقوة في هذا المهرجان تميّز اللغات بالشاعرية أو افتقارها إليها. فثمة لغات تفتقر إلى الشاعرية في إلقائها ومنها العبرية والكورية والروسية، ومنها ما يتميز بالشاعرية والموسيقية والعذوبة كالإسبانية والفرنسية وعلى رأسها العربية.

استيقظت مبكرًا ،كالعادة، في الرابعة والثلث صباحًا،وجلست في غرفتي أشرب القهوة وأصغي إلى صوت الأذان من مسجد قريب ينفذ من النافذة في سلاسة فيدخل إلى النفس الروح والسكينة، فأهرع إلى أداء الصلاة. لقد سمعت الأذان في حفل الافتتاح وكان صوت المؤذن أشبه بدعوة من السماء تبارك الشعر كفن رفيع يجمع الناس على الحُبّ والخير والسلام. والشعر العربي كما لاحظت في حضور المهرجانات الشعرية العديدة في بلدان أجنبية مختلفة يعين على جذب غير العرب إلى اللغة العربية بموسيقاه العذبة الساحرة وإيقاعه الآسر العجيب.

التقيت هذا الصباح بشاعر من مالطا يدعى شارلز فلورنس،وهو مراسل صحفي في الخامسة والستين من عمره، مهذب وصريح ومحدّث لبِق ذو ثقافة واسعة بالسياسة والأدب وببلاد البحر الأبيض المتوسط على وجه الخصوص. درس اللاهوت والأديان ، وهو فيلسوف وكاتب قصة معروف زار الشمال الأفريقي ومصر وعمل في ليبيا،وقد حدّثني  عن حُبّه للعرب وتأثير اللغة العربية في لغة مالطا، ودعاني للمشاركة في مهرجان الشعر الذي يعقد في السنة المقبلة في بلاده.

أعطيت قصيدة "الموسيقا" من ديواني (ليالي غرناطة) وترجمتها الإنجليزية لنيكولا جيلينشيسكي،وأخبرني بأنه سيترجمها على الفور إلى اللغة المقدونية، وسألقي هذه القصيدة في الأمسية الشعرية التي ستقام في مساء الغد.

في الساعة الرابعة والنصف مساء قمنا برحلة إلى مدينة أثرية قديمة تسمّى أُهريد وستقام بها أمسية شعرية .   وسردت لنا المرشدة السياحية تاريخ المدينة الذي يرجع إلى خمسة آلاف سنة ، وقد غزاها الرومان والعثمانيون.ثم نزلنا أسفل الجبل في منحدر طويل على الصخور والسلالم إلى شط البحر لقراءة الشعر،ثم انتقلنا إلى كنيسة يقام بها الاحتفال بمنح الشاعر الكوري كو أُون الجائزة الشعرية .وبدأ الاحتفال في التاسعة مساء وحضره سفير كوريا بمقدونيا وممثل وزارة الثقافة المقدونية،وأُلقيت محاضرة عن الشاعر،ثم ألقى الشاعر نفسه قصائد من شعره مع ترجمة مقدونية،وكان أداؤه ذا طابع مسرحي أشبه بالطقوس الدينية الكورية،وكان يرفع صوته أحياناً،ويخفضه أحيانا أخرى،ويهز رأسه،ويثني ركبته ، وينحني لأسفل ، ويصعد لأعلى،وهكذا. وأنهى قراءته بإنشاد أغنية " آريرانج آريرانج آريرونج" وهي أغنية من الأغنيات الغزلية التقليدية الشهيرة في كوريا.ويعكس إنشاد كو أُون ومضامين شعره الأثر العميق لديانته البوذية.فقد أمضي الشاعر شطراً من حياته راهباً في بعض المعابد البوذية القديمة في سيول. وفي الساعة العاشرة والنصف انفض الحفل وعدنا إلى فندق " دريم " ووصلنا إليه في تمام الساعة الحادية عشرة.

 يطلق على المهرجانات الشعرية مهرجانات قراءة الشعر وهو اسم يصوّر تماماً ما يحدث فيها ،فكلّ الشعراء ، أو أغلبهم على الأدقّ،يقرأون من دواوينهم أو من أوراق معهم ، وقليل جداً منهم من يحفظ شعره ويلقيه من الذاكرة كما هو الحال مع شاعرين روسيين عجوزين وشاعر إسباني شاب،وأقل الأقل من ينشد الشعر إنشاداً  كما كان يفعل أجدادنا من الشعراء العرب القدماء،أو كما كان يصنع شاعر النيل حافظ إبراهيم من شعرائنا العرب المحدثين.

في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي قمنا برحلة بحرية في سفينة إلى مصيف للسفن والقوارب ، ووصلنا إليه في الثانية عشرة وتجولنا  في دير القديس " نعوم ".وفي الواحدة والنصف ألقينا الأشعار ، وألقيت قصيدتي " الموسيقا " من ديواني ( ليالي غرناطة) ، وألقى نيكولا الترجمة الإنجليزية التي أعددتها بنفسي لها وترجمها هو منها إلى اللغة المقدونية.

وفي الساعة الثانية مساء أقيمت مسابقة الخمريات وتقدّم لها كثير من الشعراء وفاز بالجائزة الشاعر الأسترالي ليس ويكس بجدارة واستحقاق.وأخبروني أن هناك كتابا قد طبع يضمّ سيرنا الذاتية وأشعاراً لنا باللغتين الإنجليزية والمقدونية، كما أنهم سيطبعون كتاباً آخر يضمّ القصائد التي ألقيت اليوم.

عدنا إلى السفينة وتناولنا طعام الغداء، وكانت رحلة اليوم أكثر متعة من رحلة الأمس،ورجعنا إلى الفندق في الساعة الخامسة.

وعندما جلست في بهو الفندق اقترب منّي شاب وأخبرني بأنه تركي وأنه يسره أن يوجّه لي الدعوة لأكون ضيفاً في مهرجان الشعر الذي ستقيمه تركيا في شهر مارس القادم ، وأنهم سيرسلون لي خطاباً رسميا بهذا الشأن في الأيام القليلة المقبلة.وأبديت قبولي للدعوة ثم مضيت إلى المقهي.وبعد قليل أقبل الشاب ومعه رفيق له قدّمه لي على أنه مدير المهرجان، وأعرب المدير التركي عن سروره بموافقتي على الدعوة،ثم شكرني وانصرف.

الناس في أستروجا يحبون الرقص والغناء والشراب والبحر،وهم ودودون ومضيافون ومهذبون،ويعتزون بلغتهم وثقافتهم.

لقد شاركت في مهرجانات شعرية دولية عديدة في آسيا وأفريقيا وأوربا وأمريكا اللاتينية منذ التسعينات حتى اليوم، وقد لاحظت أن كلّ مهرجان منها له مذاق خاص وميزة خاصة.فمهرجان بروناي دارالسلام كان فيه حميمية ، وكان الشاعر منا يعرف الشعراء الآخرين بالاسم،ربما لقلة عدد الشعراء المشاركين فيه،ولطيبة البروناويين وتواضعهم الشديد حتى الشعراء الوزراء وكبار رجال الدولة منهم.وعلى خلاف ذلك كان مهرجان أستروجا الذي زاد عدد الشعراء المشاركين فيه على المائة شاعر من القارات الخمس. وكنا نجتمع كلّنا معاً ولم نكن نعرف الكثير منا. ولعلي كنت أحسن حظاً - باستثناء كو أُون وهاري مَن  الفائزين بأكبر جائزتين في المهرجان هذا العام _ لأني كنت المصري والعربي الوحيد، ولحبّ الناس لمصر وللغة العربية، ولأني ألقيت قصيدة غزلية قصصية في حفل الافتتاح شدّت إليّ الانتباه وعرّفت الشعراء بي معرفة شخصية .ومن ثم لم أتعرّف إلا على عدد قليل من الشعراء الذين جمعتني الظروف بهم ، كالشاعر المالطي شارلز فلوريس والشاعرة اليابانية ماريا كاشيواجي والشاعرة الصينية زاهو سي والشاعر المنغولي أرلآن إيردين أوشير والشاعر الأسترالي ليس ويكس والشاعرة البلغارية أكسينا ميهايلوفا والشاعر الألباني ألبن بالا والشاعرة القبرصية بيسته لاكاللي. وكان للمهرجان طابع رسمي لاحتفالاتهم بتقديم الجوائز لمشاهير الشعراء.ومن أهم جوائزه جائزة الإكليل الذهبية التي منحت لشعراء كثيرين أهمهم بابلو نيرودا ومحمود درويش وأدونيس وكو أُون.

أما مهرجان كينيا فكان أكثر حميمية لأن رئيسه كريستوفر أوكيمبا، صديق حميم لي،ولأنهم كانوا يهتمون بربط الشعر بالرواية الشفوية وبالشعراء الشعبيين التقليديين،وكانت زيارتنا للقرى والمدارس والجامعات والأسواق قد جعلتنا أكثر ارتباطاً بالصيادين والتلاميذ والفلاحين والناس العاديين.

أما مهرجان كولومبيا فكان يتميّز بكثرة عدد الجمهور الذي وفد على الميادين والمكتبات والحدائق والمسارح ليسمعوا الشعر في شغف وحبّ شديدين حتى بلغ عددهم في بعض الأمسيات إلى نحو خمس وعشرين ألف شخص    وكان أغلبهم من الشباب،وكانوا يعاملون الشعراء معاملة الفنانين الكبار المشهورين ، وكانوا يقفون في صفوف ليوقع لهم الشعراء على قصائدهم ، أو لتلتقط لهم صور معهم.هذا فضلاً عن أن منظمي المهرجان كانوا يقسّمون الشعراء إلى مجموعات، وتضمّ المجموعة أربعة أو خمسة شعراء ، ويشارك الشاعر في خلال العشرة أيام في سبع أو ثماني أمسيات شعرية مما يتيح للشاعر التعرف عل كثير من الشعراء المشاركين معه في المهرجان. كما  تميّز مهرجان كولومبيا بأنهم عيّنوا لكلّ شاعر مترجماً وقارئاً لشعره باللغة الإسبانية وكان الشاعر يلتقي بهما قبل الأمسية ويناقشون ما سيلقيه الشاعر من أشعار في دقّة ونظام.

بيد أن كلّ هذه المهرجانات كانت تتفق في الغاية من إقامتها وهي إتاحة الفرصة للشعراء ليتعرّفوا على بعضهم وجعل الشعر في خدمة الناس ومناقشة مشاكلهم،وتوجيه الشباب إلى ما ينفعهم ويرشدهم إلى الفضائل والمثل العليا.

ثم جاء يوم الرحيل فخرجت من الفندق في العاشرة والنصف وودعت صديقي ميته وهو إنسان ودود ومهذب ولطيف المعشر،وقد ذكر لي المترجم نيكولا أنه شاعر ممتاز وله أعمال شعرية متميّزة.وتوقفنا في الطريق مرة واحدة للشراب، ثم واصلنا الرحلة إلي سكوبجي في الثانية والنصف ، وتناولنا طعام الغداء في مطعم فندق صغير.ومدينة سكوبجي أجمل مدن البلقان بطبيعتها الخلابة وناسها الودودين ونظافتها ونظامها. وفي الساعة السادسة تماما أحضروا لي سيارة مضت بي إلى المطار ومررت ببياتسا مسادونيا في وسط المدينة وبها كوبري في أوله وآخره أربعة أسود،وذكّرني المكان على الفور بكوبري قصر النيل بمصر.وسكوبجي مدينة صغيرة لا يزيد عدد سكانها على ستمائة ألف نسمة. ووصلت إلى مطار الإسكندر الأكبر في السادسة والنصف،والمطار صغير ولم يكن مزدحماً كمطار كمال أتاتورك بإسطنبول.واستغرقت الرحلة من سكوبجي إلى إسطنبول نحو ساعة ، ثم ركبت طائرة أخرى لأطير إلى كوالالمبور، واستغرقت الرحلة أكثر من إحدى عشرة ساعة .

إن مقدونيا من البلاد الجميلة التي زرتها في أوربا، وهي من البلاد التي لا تنسى لطبيعتها الخلابة ،وعراقة تاريخها الذي يرجع إلى خمسة آلاف سنة من الزمان ، وما تحمله من تراث الرومان والعثمانيين وغيرهما، وما تزخر به من ثقافات وفنون ، وما تحظى به من روعة وسحر، والأصدقاء الماقدونيين الأعزاء : ميته ونيناد وجوروان ونيكولا، والشعراء الموهوبين: تشارلز فلورنس وماري و زاهو سي وألبن وليس ويكس وبيسته،والمدائن البديعة الحُسْن : أستروجا وسكوبجي وأُهريد وكاليتشا،والحوريات وعرائس البحر الفاتنات، ونهر الدرين الساحر الذي يجري صباح مساء في وداعة ورقة وسلام.

               

[1] الدكتور عارف كرخي أبوخضيري شاعر وكاتب ومترجم عمل بالعديد من الجامعات العالمية،ويعمل حاليا أستاذا مشاركا في الأدب العربي بجامعة السلطان الشريف علي الإسلامية ببروناي دار السلام.