منى دين ودنيا

منى دين ودنيا

جميل السلحوت

[email protected]

بعد ان طفنا حول الكعبة وسعينا بين الصفا والمروة بكل سهولة في الساعات الاولى من فجر العيد- الجمعة – عدنا الى مقصورة وزارة الاعلام السعودية في منى، صلينا الفجر، وبعدها رمينا الجمرة الكبرى بسبع حصوات، رمينا الجمرات بكل سهولة ويسر، ودون مزاحمة، فأعمال التطوير أوصلت الجسور الى خمسة، وبعرض حوالي الثمانين مترا، يدخل الحاج من الجانب الأيمن ويخرج من اليسار، وترتيب خيام الحجاج تقود كل تجمع الى طابق من طوابق الجسر الخمسة، حتى انه يحسب أن لا مكان لرمي الجمرات سوى المكان الذي هو فيه، كنا نحن قرب الجسر الخامس، رمينا الجمرات وعدنا الى مقر اقامتنا.

 يشعر المرء بعد الطواف والسعي ورمي الجمرات انه قد قطع الشوط الأكبر والأصعب في فريضة الحج، فلم يتبق الى رمي الجمرات ثاني وثالث ايام العيد، وبعدها طواف الوادع حول الكعبة، ومن ثم مغادرة مكة منهيا الفريضة كما أُثرت عن السلف الصالح، كانت السعادة بادية على الجميع . نمنا بضع ساعات ثم استيقظنا وذهبنا الى المركز الاعلامي، تصفحت بريدي الألكتروني ،- الإيميل– ورددت على بعض الرسائل، وأخذت مجموعة كبيرة من الكتب الموجودة في المركز في متناول أيدي الضيوف، وتأبطت الصحافة المحلية، وعدت الى غرفتي، قرأت الصحف، وشرعت في مطالعة بعض الكتب بنهم وشراهة، قرأت يوم العيد واليومين التاليين ، قرأت رواية (مدينة اليسر) لمؤلفتها هند باغفار ، وقرأت الأعمال الشعرية للشاعر محمد اسماعيل جوهرجي، وقرأت مجلد حقوق الانسان في القرآن والسنة وتطبيقاتها في المملكة العربية السعودية، للأستاذ الدكتور محمد بن احمد بن صالح الصالح، وهؤلاء الأعلام لم أسمع بهم من قبل انا المحاصر في مدينتي القدس الشريف، والمقطوع عن امتدادي العربي، أنا الجائع لثقافتي العربية التي لم أتواصل معها، منذ ان وقعت مدينتي تحت احتلال لا يرحم في حرب حزيران 1967 العدوانية، بي شغف لو انني استطيع امتلاك كل الاصدارات العربية من المحيط الى الخليج كي ارتوي من ثقافتي العربية، هذه الثقافة المهددة في مدينتي الذبيحة، يا الهي ما اقسى الجوع الثقافي، هذا الجوع الذي يعذب الروح ويرهق الفكر، فغذاء الروح والعقل له أولويات على غذاء الجسد، فما بالكم اذا اجتمع الاثنان معا؟؟

ما علينا فمطالعتي في الكتب الموجودة لم تثنني عن مطالعة الصحافة اليومية، هذه الصحافة التي كانت صفحاتها ملأى باخبار النكبة التي ابتليت بها مدينة جدة، واخبار الجبهة العسكرية في جنوب المملكة حيث يتصدى الجيش السعودي لمتسللي الحوثيين. ومن اللافت في تعليقات كتاب الأعمدة الصحفية ان بعضهم اعتبر ما جرى في جدة قضاء وقدرا، في حين ان البعض الآخر كان يتذمر ويبدي أحزانه دون ان يحمل المسؤولية لأحد، غير ان الصحفي السعودي تركي الدخيل كتب مقالة جريئة اعتبر فيها ان اعتبار الكارثة قضاء وقدرا فيه اعفاء للمقصرين،والفاسدين، وهذه قضية تصل الى درجة الكفر لأن فيها تعطيل للقضاء في الاسلام وللأحكام الشرعية، وطالب فيها بمحاسبة المفسدين والمرتشين والمقصرين، غير ان الأمور اتضحت واتخذت منحى آخر، بعد صدور بيان عن القصر الملكي، حيث قال فيه خادم الحرمين(بان لا أحد فوق الحساب سواء كان فردا أو مؤسسات، مهما كان منصبه) وهو بهذا قطع الطريق على المتقولين، وحتى على المتهيبين من الخوض في الموضوع، كما انه اعلن قراره بصرف مبلغ مليون ريال سعودي تعويضا عن كل ضحية قضت نحبها في هذه الكارثة المروعة، وعن تشكيل لجان للمحاسبة، ولدراسة الخسائر والتعويضات، ولإعادة التعمير ، كما استذكر في بيانه ان مثل هذه الكوارث تحصل في دول لا تملك امكانيات المملكة السعودية، ومع ذلك لا تلحق بها الخسائر التي لحقت في جدة، مما يعني انه كان هناك تقصير، وبالتالي ستكون محاسبة، وقد لقي البيان الملكي رضا وتجاوبا على المستوى الرسمي والشعبي.

امضيت ايام العيد الثلاثة وسط ما تيسر لي من كتب وفرتها وزارة الاعلام والثقافة ، قرأت شيئا عن تاريخ المملكة السعودية، وقرأت شعرا وروايات ، وأبحاثا سدت جزءا من شغفي في حب الاطلاع على النتاج الثقافي لأشقائنا السعوديين، وتمنيت لو طالت اقامتي حتى أطالع المزيد، لكن(ليس كل ما يتمنى المرء يدركه) فبعد ان رمينا الجمرات يوم الأحد ثالث ايام العيد ، ذهبنا لطواف الوداع، وودعنا الحرم المكي وقلوبنا معلقة به،فكان مكوثنا في منى واجب ديني ومنافع دنيوية ايضا تمثلت بزيادة المعرفة. ومضينا في طريق عودتنا الى جدة،ومع ذلك كان لا بدّ من الخروج من السكن واستطلاع المنطقة،فمعسكرات الخيام التي يتوزع عليها وفيها الحجيج بطريقة منظمة ومدروسة كانت لافتة للانتباه،واللافت اكثر هو الاستعدادات السعودية الرسمية فتقسيم العمل بين جهات الاختصاص لتوفير الطعام والماء والمرور والعلاج للمرضى كان في غاية الاتقان،كما أن الأخلاق الحميدة العالية لهؤلاء العاملين على راحة الحجاج كانت محل اعجاب الجميع،لكن المشكلة كانت في الحجاج غير المنظمين في بعثات دولهم،والذين كانوا يعتلون الصخور بحثا عن مكان يفترشونه أو يبنون خيمة صغيرة ويقضون وقتهم فيها،ومع ذلك فان السلطات السعودية وفرت لهم كل رعاية وبمنتهى اللطف.

يتبع