من الرياض إلى جدة والعمرة

جميل السلحوت

[email protected]

غادرنا الرياض صباح الاثنين 23-11-2009 ، كانت عيوننا على الرياض، وقلوبنا على القدس، ووجهتنا الى جدة– عروس البحر الاحمر-، ومن هناك سنبدأ مراسم العمرة والحج، وفي الواقع اننا بدأنا مراسم العمرة من الرياض، حيث لبسنا زيّ الإحرام، وهو لباس أبيض سميك، يتكون من قطعتين، القطعة الأولى تُلف حول الخاصرة حيث تثبت بشريط لاصق،ثم تتدلى الى القدمين بما يشبه(التنورة) وعند (السرة) هناك جيب داخلي لوضع الأغراض فيه كجواز السفر والنقود، وهو يغلق ايضا بشريط لاصق، والقطعة الثانية تلف حول الكتفين لتتدلى الى الفخذين تقريبا، مثبتة هي الأخرى بشريط لاصق عند الصدر، وزي الإحرام غير مخيط، وحتى( الصندل) هو مثبت بلواصق ايضا دون خياطة، أما النساء فيحرمن بثوب ابيض مخيط، وبغطاء كامل للرأس، فلا يظهر منهن الا الوجه والكفين، ويبدو ان اختيار اللون الأبيض في الإحرام ليس عفويا، فالبياض يدل على النقاء، وهنا مطلوب من المسلم ان يتوجه الى مناسك الحج أبيض السريرة، وأبيض المظهر ايضا مخلصا النية لله في تأدية هذا الفرض، وقد رافقنا الفنان عبد الرحمن بن عبد الكريم الرقراق – مدير ادارة الفنون المسرحية في وزارة الثقافة السعودية– الى باب طائرة (سما)- شركة جوية تجارية سعودية– بعد ان استرحنا في صالة التنفيذية– صالة كبار الشخصيات وضيوف الدولة– حيث انهى لنا كافة المعاملات من شحن الحقائب، واعداد التذاكر، وودعنا عند باب الطائرة، وفي الخاطر لو انه شاركنا في رحلتنا الى النهاية، فالرجل طيب المعشر والمعاملة، وفراقه ليس سهلا علينا، ومعروف ان الطائرات السعودية يقرأ فيها القبطان دعاء السفر قبل ان تقلع الطائرة من المطار، وهي عادة حميدة متوارثة عند المسلمين .

وقبل الوصول الى جدة بحوالي العشرين دقيقة، أعلن قبطان الطائرة وصولنا الى (الميقات)وهو مكان احرام الحجاج وعقد النية على العمرة أو الحجيج أو كليهما معا ، وهنا بدأ حجاج بيت الله الحرام بالتهليل والتكبير(لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك، ان الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك لبيك).

وفي الطريق الى الحج تنتاب المرء مشاعر ايمانية فريدة، فقد شعرنا اننا نحلق بين يدي المولى في طريقنا الى أقدس بقاع الارض، الى البيت العتيق في مكة المركمة، والطواف حول هذا البيت المهيب الذي بناه أبو الانبياء ابراهيم عليه الصلاة والسلام ، والسعي بين الصفا والمروة، وبقية مناسك الحج، وهذه الرحلة الدينية، وما يصاحبها من مناسك هي لطلب الغفران ومحو الذنوب السابقة، فالحاج مخلص النوايا لله اذا ما أدى المناسك المطلوبة، سيغتسل بها من ذنوبه، وسيعود نقيا كما ولدته أمّه كما اخبرنا المصطفى عليه افضل صلوات الله وسلامه .

وصلنا مطار جدة لنجد شابا من وزارة الثقافة والاعلام في استقبالنا، وليصطحبنا الى فندق(الماريوت) في جدة، حيث ستكون اقامتنا المؤقتة، وسنمضي هذا المساء في الحرم المكي الشريف في مكة المكرمة لآداء مناسك العمرة، حيث نوينا الحج متمتعين - أيّ آداء العمرة والحج–.

خرجنا من الفندق بعد صلاة العشاء، واستقلينا مع عدد آخر من ضيوف وزارة الثقافة السعودية –باصا سياحيا- اعده لنا مضيفونا، كان السائق يمنيا، وبرفقتنا ايضا شخص من وزارة الثقافة والاعلام، ويبدو ان سائق الباص كانت له المرة الأولى التي يقود فيها باصا(اوتوماتيكيا) فكان يحرك غيار الباص على غير هدى وغير معرفة، مما أدى الى عطب الباص في الربع الاول من مسافة الرحلة، وفي دقائق معدودة كان الباص البديل جاهزا، غير ان عدم معرفة السائق لأصول قيادة الباص حسب الغيار( الأوتوماتيكي) لم تكن خافية، مما جلعه يخضنا الى درجة الانزعاج مرات كثيرة، ومما زاد الطين بلّه انه لم يكن على معرفة ودراية بالطريق، فبقي يدور بنا في شوارع مكة المزدحمة بالسيارات لما يزيد على اربع ساعات، دخل بنا انفاقا عدة مرات، ودار في شوارع حتى اخرجنا من مكة، وصدفة مررنا بالحرم المكي، فطلبنا منه ان ينزلنا هناك على ان نلتقي به في فندق القصر الأبيض الذي كان يبحث عنه دون جدوى، والذي كان من المفترض ان ننزل فيه،ونتحرك منه.

دخلنا الحرم من باب الفتح، حيث كان في الساحة التي امامه آلاف الحجاج الذين يأتون بطرق غير منظمة وبالتالي لا تعد لهم مساكن، وهم يفترشون الساحات وينامون فيها، وحتى ان بعضهم يفترش بعض الساحات داخل الحرم وينام فيها، درنا داخل الحرم، وصعدنا سلالم كهربائية ونزلنا اخرى، حتى اهتدينا الى الكعبة المشرفة بعد السؤال اكثر من مرة.

وعندما اكتحلت عيوننا برؤية الكعبة المشرفة، كان للموقف رهبة ودهشة، خشوع وإيمان غريبان، الآلاف يطوفون حول هذا المكان المقدس، في الصحن الملاصق له ، وآلاف يطوفون في الطوابق العليا، الكل يكبر ويهلل، ويخر ساجدا لله ، تحجرنا في اعلى الدرجات من باب الفتح حيث الكعبة المشرفة امامنا، تأملنا المنظر المهيب ، ودعونا الله بما تيسر من الدعاء، فمما أُثر عن السلف الصالح ان اول دعوة يدعوها الحاج عندما تكتحل عيناه برؤية البيت العتيق ستكون مستجابة، فسألنا الله ان يفرج الكرب العام والخاص، وان يغفر لنا ذنوبنا وخطايانا،وأن يثيب من يسر لنا آداء هذه الفريضة، ونزلنا الى الصحن المحيط وبدأنا الطواف والتكبير والتهليل والدعاء، والكعبة على يسارنا،واستطعنا الوصول الى جدرانها الخارجية ولمسناها بيدينا طلبا للتبرك والغفران.

وبعد ان انهينا الطواف حول الكعبة صلينا ركعتين لله، فلا يمكن ان يدخل المرء البيت الحرام ويخرج دون صلاة،فالصلاة في هذا المكان ثوابها عظيم باذن الله، ثم توجهنا للسعي بين الصفا والمروة، وهما موجودان داخل الحرم المكي، وعلى بعد اقل من مائة متر من الكعبة المشرفة، وهذه معلومة لم اكن اعرفها من قبل، فقد كنت اعتقد انهما مكانان خارج الحرم، مثل عرفات والمزدلفة ومنى، لكن تبين لنا انهما داخل الحرم، سعينا سبعة اشواط، وشربنا من ماء زمزم اكثر من مرة، واكثر من كأس في كل مرة، فهناك عشرات المشارب، وفي كل مشرب اكثر من عشر حنفيات ، والكؤوس البلاستيكية معلقة فوق الحنفيات،يشرب المرء بالكأس ويلقية في سلة القمامة القريبة، ومن عجائب ماء زمزم الذي لا ينضب، انه خفيف على المعدة والجسم .

ومن عجائب ومعجزات وبركات البيت العتيق، ان المرء يطوف حوله، وقد تناسى ما بجسمه من آلام ان كان مريضا، وانه يطوف هذه المسافة بخفة ونشاط، في حين انه لا يقوى على سيرها في مكان آخر، فالسعي بين الصفا والمروة سبع مرات قد يصل الى اربع كيلو مترات أو يزيد، والطواف حول الكعبة من بعض المناطق قد يصل الى نفس المسافة أو يزيد أيضا.

ومما يلفت الأنظار هو حسن أخلاق رجال الأمن العام المتواجدون في الحرم المكي وحوله،فهم يوفرون المساعدة لمن يطلبها،ولا يرفعون أصواتهم،وينظمون الحركة بمنتهى اللطف،رأيتهم يحاولون اخراج بعض الأشخاص من الصحن المحيط بالكعبة والذين أنهوا طوافهم وافترشوا الأرض في المكان الذي يطوف به الحجاج وغالبيتهم من كبار السن،كان رجل الأمن يخاطبهم قائلا وبصوت منخفض-لو سمحت يا والدي أو والدتي،هذا المكان للطواف ---انتقل الى مكان آخر كي لا تؤذي نفسك أو تؤذي الآخرين...حجك مبرور بإذن الله وذنبك مغفور،ولم أشاهدهم يلمسون أحدا بأيديهم-فلله درّهم.

وهكذا انهينا الطواف والسعي وخرجنا حيث قصصنا شعور الرأس، وعدنا من باب الفتح وسألنا عن فندق القصر الأبيض، فوجدناه قبالتنا، ولا يبعد عنه سوى بضعة مئات من الامتار، حيث استقلينا الباص من هناك وعدنا لى فندق الماريوت  في جدة في ساعات الصباح الأولى، حيث تحللنا من الإحرام للعمرة.

يتبع