كلوس أَب فلسطيني من أميركا وأوروبا4

"كلوس أَب" فلسطيني من أميركا وأوروبا....(4)

عبد الباسط خلف/ جنبن-فلسطين

[email protected]

لقطة بلا كاميرا:

حوار في سماء

الأطلسي الباردة

في أعماق طائرة "الإيرباص" السويسرية وعلى ارتفاع ثمانية وثلاثين ألف قدم، راحت حرارة استرداد شريط ذكريات فلسطيني لاجئ عمل ذات يوم  في السلك الدبلوماسي و أنتقل بعدها للإعلام في الأمم المتحدة  تفوق درجة الأجواء التي نشاهدها من نافذة الطائرة…

  اخترنا توقيت الحوار، الأول بالنسبة لي بعيداً عن الأرض، في منتصف الطريق الموصلة من نيويورك إلى جنيف ، حيث سافرنا لإكمال ما تبقي من برنامج التدريب الإعلامي الذي تنظمه الأمم المتحدة، و بالتفاته إلى الساعة الرمادية التي يرتديها الشاب- العجوز في خبرته الذي شارف الوصول إلى العقد السادس ، ولم تكن رحلتنا إلى جنيف منزوعة من الدلالات، فسويسرا التي يشهد لها بالحياد لها مع الذاكرة الفلسطينية الكثير من المحطات، فجنيف ودافوس وبال أو بازل، التي نقترب من الوصول لأجوائها كانت ذات يوم مسرحاً لاتفاقية حقوق الإنسان الرابعة، مثلما شهدت ولادة أول مؤتمر للحركة الصهيونية العام 1897، عدا عن حكايات مؤتمر سلام الشرق الأوسط، ومحادثات السلام الفاترة بين فلسطينيين وإسرائيليين رسميين .

  وبالصدفة كانت أوراق الزمن تقترب من السنوية الأولى لتوقيع وثيقة جنيف غير الرسمية…

  يشترط الدبلوماسي السابق قبل الإقلاع في حوار السماء أن يبقى اسمه طي الكتمان، ونختار بدورنا له اسم ناجي فرسومات الكاريكاتوري الفلسطيني ناجي العلي تنطبق على مقاطع كبيرة من حياته.

 يقول: شردت و عائلتي من قرية تقع على قمة جبل الكرمل قريباً من مدينة حيفا العام 1948، ووجدنا أنفسنا لا حول لنا ولا قوة، فوالدي الذي كان يمتلك مساحات  من أراضي خصبة زرعها بالحنطة والتبغ، أصبح أجيراً عند أحد الأغنياء في الضفة الأخرى لنهر الأردن.

 يسترد ناجي حكاية الشقاء التي صارت تلاحق والده، فكانت أول مسؤولياته إعالة عائلة ذات عشرة أفراد وعمته وجدته بأي طريقة.

 كان والد ناجي يسابق الفجر، فينهض من نومه غير الهانئ فغرفة العائلة المتواضعة ذات الأمتار الأربعة طولاً وعرضاً و مبنية من اللبن هي بيت أبو ناجي، ليشد بعدها الرحال إلى مزرعة على ضفة نهر الأردن، لقاء أجر يومي زهيد ( اثنا عشر قرشاً)، لا يكفي في أحسن الأحوال إقفال الأفواه الجائعة .

 يقفز ناجي بعد أن خرجنا من مطب هوائي، إلى حكاية حنينه إلى وطنه، فالبرغم من أنه لم يعرف بيت والده الأصلي في قريته، صار يتخيله في ذاكرته، لما سمعه من والدته ووالده في القصص الليلية عن حياتهما في تلك القرية، ويرسم له صورة طبوغرافية، فيتخيل شجرة الخروب العملاقة، وبئر الماء  وحوش الجيران، إلى أن تمكن وزوجته المقدسية الأصل وأولاده العام 1995 من زيارة مسقط رأسه برفقة عمته وأولاده ، و قبل التوغل في القرية، طلب من عمته الصمت وصار يشرح لهم من وحي مخيلته عن القرية الأطلال، ويتنقل من بيت إلى بيت، فبئر " الناطف" وساحة منزل العائلة لتتطابق الأحلام بالواقع الذي تعرفه العمة التي تسكن اليوم مدينة أم الفحم.

 يروي: اندهشت العمة والأولاد بحدسي، ورحنا نجمع الصبر والرمان وتناولنا طعام الغذاء و معنا الذكريات التي تراكمت فوق رأسي.

   راح حديثنا تختلط فيه أرقام التكنولوجيا وصوت قبطان الطائرة، لنحلق في  ارتفاعات قديمة لناجي الذي أجبر و عائلته على التنقل بين أحراش عانين في محافظة جنين،  و سهل مرج ابن عامر و مخيم نور شمس القريب من طولكرم فالنويعمة القريبة من أريحا إلى الجلزون قرب رام الله  ومخيم الكرامة وعلى الضفة الشرقية لنهر الأردن.

  لا زال عمل والدي يتكرر في أعماقي، ففي كل مرة أتذكر فيها الشقاء الذي مررنا به نحن وآلاف الأسر الفلسطينية إلا وأعود لمقارنة الأمس باليوم.

 عمل والدي في تجميع الفوسفات، وكان يتقاضى لقاء كل طن 25 قرشاً، يلغم ويفجر ويجمع وينقل  وينقي الفوسفات، كان يجر العربة أكثر من مسافة كيلو متر، وكنا دائماً في إجازة الصيف نساعده على جر العربة ليضاعف من إنتاجه.

  في ذاكرتي التي عرفت الأوراق الدبلوماسية والبروتوكلات والمراسم والسجاد الأخضر، تعشعش اصطلاحات "الطرازنية" وهي العربة المخصصة لتجميع الفوسفات وتتسع لطن مصفي من الشوائب.

 يقدم ناجي توصيفاً لحاله بيت عائلته، فقد بنينا خربوشاً"بيتاً فقيراً جداً" من الخيش على أراض أميرية، وصرنا في كل ليلة نبني الطوب إلى حوافه، إلى أن أكملنا وبقي مغطى بسقف متواضع  من الخيش لم يحمه من المطر، ولا زالت حادثة المطر الذي أغرقنا وكل مقتنياتنا تستفز ذاكرتي، وبخاصة في اليوم التالي، إذ راح الجيران ينشرون كل ما لديهم تحت شمس خجولة لتجفيفه….

  كنت أدرس و أخي الأكبر في مخيم نور شمس، فيما عائلتي تسكن الأردن، إلى أن تخرج أخي الأكبر من دار المعلمين في بيت حنينا، وأصبح مدرساً، وانتقلت أنا لمدرسة الزرقاء الثانوية، فيما أستقر والدي في الرصيفة، وكنا نستقل الباص إلى المدرسة.

 يضحك ناجي في حركة لا تخلو من دلالات، فقد أستذكر إضراباً خطط له  ورفاق المدرسة، عندما رفع صاحب شركة باصات القناعة أجرة الراكب  من الرصيفة إلى الزرقاء من قرش ونصف لقرشين، وصرنا نسير مشياً على الأقدام لثمانية كيلو مترات إلى أن افلح التلامذة في إرجاع التسعيرة القديمة.

  يتوقف ناجي مطولاً لاسترداد اللحظة التاريخية التي غيرت مسار حياته، فعندما كان يسير ظهيرة يوم من أيام العام 1964، يدرس استعدادا لامتحانات الثانوية العامة، شاهد سائحاً يحمل حقيبة، أقترب مني وسألني باللغة الإنجليزية عن الاتجاه الذي تقع فيه مدينة عمان، أرشدته على الطريق، وقبل الرحيل استأذنته أن يمنحني أسمه وعنوانه، وقلت له أنا لاجئ فلسطيني أبحث عن فرصة لإكمال دراستي…

 كان الشاب الألماني "هيلميت" طويل القامة، أشقر الشعر وأزرق العينيين بشوشاً، رحل وشأنه بعد أن كتب لي عنوانه، وبالفعل راسلته وانتظرت بفارغ الصبر رده، الذي منحني فرصة السفر لألمانيا، لدراسة الهندسة الصناعية.

 نشب جدل آخر بين ناجي ووالده، فتذكرة السفر وتكاليفه لعائلة تعاني ضيق ذات اليد لا يمكنها المرور سريعاً على موضوع مالي، كانت أول أسئلة والدي : من أين لنا المال؟

 نجح ناجي  أخيراً في إقناع والده وأخيه الأكبر باقتراض 69 ديناراً ثمن تذكرة باتجاه واحد من عمان إلى ميونخ، وفي مطار ماركا سابقاً، تهاطلت دموع الأم والأب والأخوة وعويلهم في وداع ناجي الذي لم يسافر أبداً.

وفي رحلة " الترانزيت"، هبطنا في بيروت وبتنا ليلة كانت مشهودة، فقد قدموا لنا طعام غداء لم أشاهده فالسباغتي الإيطالية استعصت على الالتصاق بالشوكة والسكين التي لم أستخدمها في عمري، فبت تلك الليلة بأمعاء خاوية

 كان في جعبة ناجي 84 دولاراً وفرتها مساعي الأب عبر اللجوء إلى صندوق المقرضين، وفي أوراقه قاموس للغة الإنجليزية و للألمانية التي ستطرأ على حياته، ورسالة القبول التي أوصلها له هلموت، "ولم أستطع توفير معطف يقيني من برد ميونخ بل طلبته من والدي الذي بدوره اشترام من سوق البالة في عمان وأرسله لي"، هكذا أضاف ناجي الذي راح الشيب ينازع رأسه.

 ينتقل إلى فصل آخر في عملية توصيف البؤس الذي عاشه، فطفولته لم تعترف بالألبسة والأحذية، غير تلك المرقعة والمليئة بالثقوب، لكن ناجي يقول إن تلك الأيام ذات قسوة لذيذة.

 يواصل استيراد المزيد من ماضيه فيروي: كانت أمي تقسم لنا الخبز، وتخفيه في المساء في خزانتها، وكان البكاء يعرف كلمة المرور إلىّ، لأن نصيب أخوتي كان أكبر من وجهة نظري.

 عند احتساب الموازنة العامة لاقتصاديات عائلة أبو ناجي، كمثال يصلح للتعميم على الفلسطينيين الذين خسروا وطنهم وحلمهم: حفنات من طحين "الإونروا"، و رزمة ملابس غير متجانسة الألوان والأحجام تآكل بعضها، مقدار من التمر يسمى زمبيل ويعادل 50 كيلو غراماً، بعض البقوليات، وطائفة مما تنبت الأرض من  ورقيات من طراز الخبيزه والزعتر والعوينه والعلت، واللوف والسلق والحويرة والصنّاب.

 قبل أن يعرف ناجي قواعد الحدود ومعاهدات عدم الاعتداء وحسن الجوار، دفعه التوق للخضروات لقطف بعض ثمار الباذنجان من مزرعة قريبة، لكن ضريبة ذلك كلفت الفرار من كلب حراسة لصاحب الحقل.

 يروي: كنا نمضغ العرق سوس وننقع بعضه في الماء كمشروب يجعلنا ندفع بقيظ الصيف بعيداً.

 أفلح ناجي في إنهاء دراسته الأولى وأحيا حلم والده التائق للابن المهندس، وطار من جديد إلى الولايات المتحدة لإكمال الماجيستير، بعد أن حصل على منحة من إحدى الجامعات الأمريكية في حقل العلاقات الدولية، وواصلت حتى حصلت على الدكتوراه.

 كان ناجي عصامياً، إذ عمل في كافتيريا الجامعة وهو يعد نفسه لدراسته الدكتوراه، في البداية عمل كمتخصص في جلي الأواني الكبيرة، ثم رقي لتنظيف الأطباق، بعدها تسلل إلى إعداد الأطباق، فمساعد مالي لمدير المطعم.وكانت الساعات التي يقضيها في العمل تصل 18 ساعة في كل يوم حتى يستطيع تغطية تكاليف معيشته في نيويورك.

  يقول: انتقلت للعمل  في منظمة غير حكومية تعنى بالشرق الأوسط، وواصلت إلى أن عينت في بعثة دبلوماسية عربية بالأمم المتحدة، وكنت المستشار الذي يعد الخطابات لرئيس البعثة ،، ويجهز له التقارير ويفاوض الدبلوماسيين.

 يمزج ناجي بين القديم والجديد، ويعيد الروح لأيامه الماضية، فعندما كان في سن السادسة، وكان وعائلته يسكنون غرفة"قذرة" الجدران والسقف، وتستخدم كمطبخ ومكاناً لتنظيف الملابس المتآكلة،وحاضنة لتربية الأرانب والدجاج.

 كانت مهمة ربة العائلة قاسية، فتوفير اللحم مسألة صعبة المنال، يروي ناجي: في كل أسبوع كانت تطل علينا أوقية لحم من الجمال والقليل من الدهون، كان يصل ثمنها خمسة قروش وتستقطع لعشرة أجزاء.

شكلت حكاية المدرس الجفناوي إدوارد نقطة سوداء في حياة الطفل اللاجئ الذي أحب أن يمتلك صورته، ففي ذات نهار أخرج المدرس شيئاً غريباً للتلامذة الصغار، وقال لهم: هذه آلة تصوير، ولم تكن المسألة تحتاج لوقت طويل بالنسبة لناجي الطفل الذي كان ذكيا ومحبوباً بالرغم من الثقوب التي تتنافس لاحتلال ملابسة.

 أمر المدرس الصغار في مدرسة الكرامة الأولى العام 1953 بالخروج للساحة ، وأن يرتبوا أنفسهم لالتقاط صورة مشتركة، صعد ناجي للمقعد الأخير وأدى التحية العسكرية كجندي..

  يتابع: بعد أيام عاد الأستاذ بالصورة ومررها علينا، وعندما جاء دوري أصابني نوع من الذهول، لأنني شاهدت نفسي لأول مرة، قال أستاذنا من يريد صورة فعليه إحضار قرش ونصف..

 ركضت لأمي لأخبرتها بما حدث، كانت تلك اللحظة قاسية، فوالدي مصاب بالديزنطاريا، بسبب العمل كأجير في المزرعة لأحد الأثرياء لأكثر من اثنتي عشرة ساعة يومياً.

   لم يكن في جعبة والدي أي قرش، وبقيت أبكي لثلاثة أيام، وعندما عدت إلى  جفنا القريبة من رام الله العام 1995، رحت أفتش عن إدوراد فأخبروني أنه سافر إلى الولايات المتحدة، ومن ذلك اليوم وأنا أحلم بالصورة، وصرت مولعاً بآلات التصوير وكان أول شيء أصنعه  في حياتي شراء كاميرات لي ولزوجتي ولصغاري…

  تحوي ذاكرة ناجي العديد من المحطات، فهو كان يتنقل سيراً على الأقدام برفقة عمه وأخوته من طولكرم إلى جنين، وكان يتوق لارتداء ملابس غير مرقعة، وذات مرة سمعنا أن وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم" الإنروا" توزع " بقج" ملابس، وحينما حصلنا على نصيبنا بدأت أبحث عن شيء يناسبني، كانت المفاجأة أنني وجدت كسوة كاملة، وهي رغم سوء تنسيقها وتوقيتها رائعة.

 يضيف: أسرعت في أوج الصيف لارتداء ما عثرت عليه من ملابس شتوية،تشمل كل ألوان قوس قزح وذهبت للمدرسة، وعندما شاهدني أستاذي ضمني إليه ورفعني على الطاولة، وتصاعد البكاء من عيني، وبدأ رفاقي يضحكون علي…