رحلة إلى الأندلس

رحلة إلى الأندلس

بقلم: نبيلة الخطيب

  ما إن لامست قدماي أرض إسبانيا حتى لهج قلبي ولساني بالدعاء (اللهم ارفع راية الإسلام في هذه البلاد)، ملأتُ رئتيّ بالهواء وأطبقتُ أجفاني للحظات محاولة كبح جماح عبراتٍ تراود بالانفلات في ظرف غير مناسب، لا بد من التوجه بشكل عملي مع حشود القادمين لتعبئة بطاقات معينة ومتابعة أمور الجوازات وتفقد الحقائب، من مطار إشبيلية نقلتنا الحافلات الكبيرة إلى قرطبة ووزعتنا على الفنادق المحجوزة لنا حسب ترتيب مسبق.

  بعينين أرهقهما النعاس تفقدتُ الساعة زمن الوصول فإذا بها قاربت على الرابعة فجرا ( كنت أظنها فجرا)، في الصباح ناداني منبه هاتفي الخاص، فنهضتُ واختلستُ نظرة من خلف الستارة، فإذا بالظلام ما زال يحتضن المدينة الغافية، عاودت النظر في الساعة فإذا بها حول الثامنة، أصابني شعور بأنني فقدت الإحساس بالزمن، رفعتُ سماعة الهاتف  وسألت الموظفة المناوبة عن الزمن فأجابت بأن الساعة الثامنة وخمس دقائق صباحا، أعرف أن صفة نؤوم الضحى تليق بالغيد المنعّمات، أما أن أرى الشمس كذلك فهذا لم يخطر ببالى، الثامنة وخمس دقائق في بلاد المشرق تعني أن جيوشاً من الطلاب يجلسون على مقاعد الدراسة، و آلاف المعلمين والمعلمات يتمرغون بغبار الطباشير، وأن أعداداً هائلة من السيارات تطلق أبواقها في اختناقات السير المزمنة، وأن ملايين الأرغفة قد خُبزت وربما غُمس بعضها بالفول أو الحمص أو زيت الزيتون والزعتر، بالمناسبة، كنت على مدى أيام الرحلة كلما دخلت المطعم تذكرت المثل الشعبي الذي يقول: (صحيح لا تقسمي ومقسوم لا تأكلي وكلي حتى تشبعي)، اللحوم هنا ما لم يكن من الخنزير فهو بالتأكيد ليس مذبوحاً على الطريقة الإسلامية، والأجبان والألبان بأنواعها وأشكالها لا تخلو من دهن الخنزير، وحتى الخبز لا يُستبعَد أن يحتوي على بعض الكحول، أما الحلويات والكعكات الإسفنجية فلا بد من استخدام الكحول فيها لإخفاء نكهة البيض الكريهة، موظفو المطعم كانوا يؤكدون لنا- كمسلمين - أن المأكولات والمشروبات تخلو مما نحرص على اجتنابه، ولكن من يُصدّق؟! الفواكه وبعض قطع الخبز غير المخمّر مع المربى والعصير الطبيعي هي الأصناف الآمنة في مثل هذه الأحوال.

فعاليات التظاهرة الثقافية التي أقامتها مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين وأطلقت عليها اسم  " دورة ابن زيدون " ستفتتح في الثامنة مساءً , وأما نهار اليوم فهو وقت حرّ للراحة من عناء سفرنا الطويل والذي أطاله وجعله مرهقاً هو تجمع المسافرين من شتّى الدول العربية في القاهرة والانتظار حتى المساء للتوجّه إلى إسبانيا على متن طائرة خاصة كبيرة , اتفقنا أن نستثمر هذه الفسحة من الوقت في زيارة مسجد قرطبة.

 وما أدراك ما مسجد قرطبة ,  جمال يفوق الوصف وبهاء يخلب الألباب , أعمدة من الرخام الأسود وأخرى من الرخام الأبيض تنتصب فوقها أقواس من الرخام الوردي والأبيض , المنبر آية من الجمال نقشت عليه آيات من القرآن الكريم بخط جميل ودقة عالية , مساحة المسجد شاسعة وقد جرت توسعته أكثر من مرّة.

مسجد قرطبة

مئذنة من مآذن مسجد قرطبة الكبير

لكن الذي يحز في النفس ما رأيته من إضافات غير إسلامية أُلحقت بالمسجد , فقد جعلت في أحد مداخل المسجد كاتدرائية وقد علّقت على المآذن أجراس كنائس .

 وباعتراف الأدلة السياحيين الإسبان أن " ألفونسو " أمر ببناء الكاتدرائية قبل دخوله قرطبة , وعندما دخلها ورأى ما رأى من روعة مسجدها العظيم أصابه الندم وقال عبارته المشهورة "إنني شوّهت تحفة فنيّة نادرة في العالم بإضافة بناء إليها يوجد مثله في العديد من البلدان .

بعد زيارة مسجد قرطبة زرنا بيتاً أندلسياً , عندما تُفتح البوابة الخارجية للمنزل تستقبلنا في باحة البيت نافورة عذبة الماء , على يمينها بئر تنعكس على وجهه صفحة السماء حيث الباحة الثرية بخصوبتها الوارفة وأزهارها سماوية السقف , هبطنا عبر ممر ضيق وأدراج قديمة إلى قبو مظلم تفوح منه رائحة الرطوبة . يحتوي أدوات خشبية ونحاسية قديمة بعضها للزراعة وبعضها الآخر مواقد وآنية طهو وأشياء أُخرى .

الطابق الأوسط للبيت قد جُعل متحفاً عرضت فيه وثائق وأوراق عملات قديمة وبعض التحف . الجهة اليسرى من المنزل تطل على شرفة سماوية أيضاً تحفل بالأزهار العابقة والجمال الأخاذ -(صدقاً اشتهيت أن احتسي فنجان قهوة في ذلك المكان البهي) – في الخلف حمام يحوي حوضاً كبيراً ما زال أصحابه يحرصون على ملئه بالماء المغطى بالأزهار الطافية على السطح ويُصار إلى تجديد الماء والزهور بين الفينة ولأخرى .

أما الطابق العلوي للمنزل والمحاط بالشرفات والنباتات المتسلقة والمتهدّلة فإنه معدّ لسكن العائلة صاحبة المنزل ويكتفى بمشاهدة روعة بنائه من الخارج ، لقد عرفنا أن المنزل يعود حالياً للسيدة سلمى الفاروقي زوجة المفكر الفرنسي المسلم روجيه جارودي.

  الأندلسيون مولعون بالزهور فهم يزرعونها في كل مكان , حتى جدران المنازل بعضها مغطى بشكل كامل بواسطة أُصص الزهور أو النباتات الممتدة والمتهدلة.

 لكن ما أثار في نفوسنا الكثير من الألم أن ذلك الحي الإسلامي العريق استولى عليه اليهود حين أخرجوا المسمين منه بعد أن ارتووا من دمائهم وأعراضهم، بل وأطلقوا عليه اسم حي اليهود، وما زال يحمل هذا الاسم،مسجد قرطبة الآن يمنع أن تقام فيه الصلاة ويصعب دخوله إلاّ بتذكرة مدفوعة الثمن!

بيت أندلسي غارق بالورود

مدخل بيت أندلسي

   عدنا إلى الفندق وأنا يطارحني الزهو تارة والانكسار تارة أخرى , يجب الاستعداد لافتتاح الدورة في تمام الساعة الثامنة مساءً ؛ أقصد عصراً , فقد عرفت أن الشمس تطيل النوم لتطيل السهر،إنها إن استفاقت تمعن بالسطوع كما تفعل عندنا في الشرق، يا لهذه الشمس التي يشدها الحب لمهد بزوغها الأول، لكأني بها عربية الهوى، فهي تنشر توهجها في قسماتنا سُمرة حميمة، وتخبئ دفئها في عروقنا وصدورنا فتضفي ألقاً على العيون والمشاعر، بينما تصبغ جلود غيرنا بالشحوب البارد وتنطفئ على القسمات الباهتة حدّ الجمود، الغروب هناك يكون في حدود الساعة العاشرة مساءً, حسب التوقيت الصيفي لديهم , مع أن الوقت خريف, الخريف هنا غاية في الروعة , أوراق الأشجار اتشحت بالصفرة والحمرة , بعضها

ما زال يلوح للشمس من على الأغصان , والبعض الآخر آثر أن يحظى بغفوةٍ معانقاً دفء الثرى.

أما أشجار النخيل الضاربة جذورها في أعماق الأرض، والشامخة رؤوسها إلى السماء، أدخلها أجدادنا العرب إلى الأندلس وذهبوا، بينما وحدها بقيت متشبثة بالتراب شاهدة على التاريخ.

  حفل الافتتاح تحت رعاية ملكية بحضور بهيّ لقمم ثقافية من كل الدول العربية وإسبانيا والبرتغال  ودول أُخرى , كان حظي وافراً إذ كانت قراءتي الشعرية في يوم الافتتاح مع عدد محدود من الشعراء العرب والأسبان .

"لقد أتيت لأتنشق عبقَ أجدادي" ، كانت عبارتي الأولى على منصة الشعر , "كما عاد لي طائر الزنبق وأعادني عبر المكان والزمان إلى الطفولة الجميلة , وهكذا عدنا إلى الأندلس " وقرأت قصيدة عاشق الزنبق التي ترجمت وقصائد الشعراء العرب إلى الإسبانية والبرتغالية , بينما ترجمت قصائد الشعراء الأسبان والبرتغال إلى العربية  .

برنامج الفعاليات كان متخماً بالندوات صباحاً وظهراً ومساءً , هل يعقل أن نكون في إسبانيا بل في الأندلس ولا نزور غرناطة ؟! لا بد من حركة عصيان وتمرد على برنامج الدورة , اتفقنا بسريّة كبيرة مجموعة من الأدباء والكتّاب العرب على رأسنا رئيس اتحاد الكتّاب والأدباء العرب الدكتور علي عقلة عرسان على السفر إلى غرناطة ، ولكن الخبر انتشر كالنار في الهشيم , فالجميع يتشوقون لزيارة غرناطة , وتوافدت أعداد هائلة تطلب الانضمام إلى الفرقة المنشقة , ولكن هيهات .. فزيارة قصر الحمراء تتطلب حجزاً مسبقاً قد يحتاج إلى أسبوع , ومنظّمو الرحلة الطارئة لم يتمكّنوا من الحصول على حجزٍ -" بطريقتهم الخاصّة " – إلاّ لعدد من الأشخاص يكفي لملء حافلة نقل كبيرة .

  الطريق إلى غرناطة استغرقت ما يقرب الثلاث ساعات ذهاباً ومثلها إياباً , وقد علمنا أن سائق الحافلة قد سلك الطريق الأطول , لكن لا بأس فقد كانت فرصة بالنسبة لنا للتمتّع بمشاهدة روائع الخضرة وطراز البناء المكسو بالبياض والجبال والهضاب , حقول ممتدّة من الزيتون قد طرّزت بها الأرض على مد البصر , وغابات من الأشجار الباسقة تسحر العقول .

من نافذة الحافلة كنت أراقب وكأنني أرى وأسمع سنابك خيولنا وقد أثارت النقع فملأ المدى وصهيلها يجلجل في الفضاء , أقسم أنني أكاد أرى وأسمع , على رؤوس الجبال والمرتفعات تلوح أبراج المراقبة والقلاع شاهدة تتكلّم وتؤكد , وأنا أقرأ التاريخ  سطراً محفوراً في القلب , وآخر مرسوماً على الثرى .

مررنا ببلدة تسمى " زفرة الأمير الأخيرة " هكذا هي الترجمة العربية عن الأسبانية , حيث هناك وقف عبد الله الصغير بعد أن خرج من غرناطة ونظر وراءه وذرف دمعة الألم والحزن التي ما زال ثرى تلك البلدة يصطلي بلهيبها , فقالت له أمه مقولتها الشهيرة :

"ابكِ مثل النساء ملكاً مضاعاً             لم تحافظ عليه مثل الرجالِ "

لقد بكيتَ يا عبد الله يومها .. وما زلنا نبكي بعدك جيلاً فجيلا , فرّت دمعتي واستشعرت أنني ثالثة اثنين ينتحبان , فها نحن نعيش المأساة يوماً بيوم , وكيف ننسى يا عبد الله ؟!

وصلنا غرناطة , استقبلتنا " جنّة العريف " , تلك جنة من جنان الله في الأرض , أي روعة وأي جمال ؟! الجنة مبنية بطريقة مدرّجة بديعة , في كلّ صعود بهاء من نكهة خاصة , أزهار وأشجار وماء بارد زلال , يأتي مباشرة من جبل " سيرا نيفادا" الذي ما زال يعتمر آخر ما تماسك عليه من ثلوج الشتاء الماضي, شدّ انتباهي كثرة وجود الطائر الجميل الأخضر الذي شدوت له ليلة الافتتاح , فهو طائر يجذبه رحيق الأزهار التي تكثر في هذه الحدائق الغنّاءة كما تكثر في فلسطين مهد الطفولة واليَفعة.

في الجهة المقابلة لجنّة العريف , قصر الحمراء يجمع بين الوقار والبهاء , لم يحن موعد دخول القصر بعد , فهناك حجز مسبق يجب التقيد به لتفادي الازدحام داخل القصر , صعدنا إلى القلعة المجاورة للقصر , ارتفاع القلعة والدرج المنتصب الضيق كان اختباراً حقيقياً يصنّف الصاعدين حسب أعمارهم وقوة أجسامهم , لم يكن الأمر سهلاً بالنسبة لكبار السن الذين أصرّوا على الوصول إلى قمّة القلعة , فهي فرصة لا تتكرّر كلّ يوم،حيث المَشاهد التي تُرى من الأعلى ليست هي ذاتها التي تتاح من بين الجدران والنوافذ ,لذا الأمر يستحقّ المثابرة .

حديقة من باحة قصر الحمراء

المكان أصبح مكشوفاً تماماُ , القمم تتيح للنظر ما لا يتأتى لغيرها , الجبال البعيدة مطرزة بأكواخ ملونة تأخذ شكل القباب في غالب الأمر، إنها مساكن الغجر, الوادي المحيط بالقلعة والقصر نموذج باهر للجمال الثريّ , الأشجار المشرئبّة إلى السماء والأغصان الملتفة والطيور المقيمة وأسراب الحمائم التي تحجّ إلى المكان أفواجاً ثم تنعطف لتحطّ على أسطح المنازل الغارقة بالأزهار حتى السقوف .

تملّكني شعور يصعب وصفه , كلّ الذي استطعته أنني بكيت , الدكتورة هبة عارف من مصر سألتني عن سبب بكائي , فأجاب الدكتور صلاح جرّار أمين عام وزارة الثقافة الأردنية الأسبق: لعلّها تذكّرت الباذان , فهذا المشهد هو أقرب ما يكون لوادي الباذان ، وأضاف معرّفاً، قضاء مدينة نابلس في فلسطين وهي بلدة الشاعرة , أجبته بمرارة : إنني أبكي مُلكاً مضياعا هنا وهناك .

تنهّد الشاعر المصري فاروق شوشة وقال : وأيُ ملك يا أختاه ؟! إنه والله ملك مضاع يستحقّ أن نبكيه .

تحت شجرة كستناء بريّة وارفة الظلال , جلسنا ننتظر وقت دخول القصر , ونأمل قبل ذلك أن يوصل إلينا رجال الأمن كلاً من الدكتور عبدالرزّاق حسين وزوجه اللذين بهرهما الجمال في جنّة العريف وانشغلا بالتصوير , فانفلتا من السرب أثناء ذلك .. ألقت إليّ شجرة الكستناء سخية الظلال بثمرة طاب لي أن أعتبرها هديّة , وهُيّء لي أن الشجرة الشاهدة على عصور موغلة في القدم ,قد أحسّت بما يختلج في نفسي , واستشعرتْ بفطرة الندى ما يترقرق في عينيّ من لهيب , زوجة الدكتور علي عقلة عرسان , التي كنت أشاركها المقعد , كانت تشاركني الهم .

" ولا غالب إلاّ الله "  نقشت على الأبواب والجدران والأقواس وآيات عدّة، أحدهم قرأها وأسقط حرف (الواو) فاعترض أحد الأساتذة الحريصين على اللغة العربية قائلاً إن حرف الواو في ( ولا غالب إلا الله) يحمل دلالة كبيرة , وبدونه يتغير المعنى تماماً , فهي تعني أنه مع الثراء والعظمة والقوة والرخاء نذكر عظمة الله وغلبته أما إذا أُسقِط حرف الواو فتخيّم على العبارة ظلال الضعف وقلّة ما في اليد وضياع الحيلة والانكسار .

الأسود التي في باحة القصر ما زالت جامدة من شدّة الصدمة كأنها لا تصدّق الذي يجري، فقد أصبحت كأسود السيرك التي فقدت ما فُطرت عليه من شموخٍ وإباء , وأمست متاعاً للفرجة , لقد كانت هذه الأسود في يوم ما رمزاً للمنعة والعزّة ! أيّ منعةٍ وأيّ عزة أبقينا لأنفسنا في هذا الزمن ؟!

في آخر أيام الفعاليات واستجابة لرغبة الجميع بزيارة مدينة الزهراء، قامت إدارة التظاهرة الثقافية مشكورة بدمج فعاليات ندوتي الظهيرة والمساء ليتسنى لنا ذلك ، بعد القيلولة نقلتنا الحافلات المخصصة من فنادقنا وكان التجمع في باحة أحد الفنادق لننطلق في موكب موحد إلى الزهراء.

 

الشاعرة نبيلة في ساحة الأسود

يا ألله كم هي جميلة ومدهشة تلك المدينة! أي حس فني كان يتمتع به ذلك الأجداد؟! لقد بلغ حد الترف ، نظام الري الذي يتيح للحياة أن تتدفق في كل مكان يمثّل شبكة من الأوردة والشريانات تتوزع بعناية فائقة في أوصال الحدائق العابقة بالخضرة.

الشاعرة نبيلة في مدينة الزهراء

القصر الذي يضم المكتبة الشهيرة يشرف على حديقة مدرّجة وممددة , في الجهة اليمنى بوابة أخرى للمدينة ذات أقواس شاهقة تمثل لوحة فنية نادرة ممعنة في البذخ . مساكن الخدم في الجهة اليسرى ضيِّقة وموغلة في التقشف , أي قانون ذاك الذي يتيح للإنسان أن يرفل بحياة متخمة بالترف بينما يجاوره أخوه الإنسان معدماً يرزح تحت وطأة الفاقة؟! هذا ما سنّه بنو البشر لأنفسهم، أما رب الناس فقد ضمن لنا بالتكافل الاجتماعي حياة أكثر عدلاً وانسجاما.

التقطت بعض الصور التذكارية للمكان وكنت معظم الأحيان خارج إطار الصورة، انتهاء نهار هذا اليوم يعني تفاوت في المشاعر والمواقف، إننا نودع المكان الذي ملأنا بالإلفة مع أننا نزوره لأول مرة ، ولا أدري كيف خيمت علي وحشة غريبة في مشهد الوداع ذاك، شيء ما يشد أعماقي إليه ويثير في نفسي اللهفة على أجداد تفاوتوا هم أيضاً في المواقف والسِيَر، فمنهم من ركب البحر وجرّد السيف ونال الشهادة أو النصر لفتح هذه البلاد التي كانت عصية إلا على الأبطال، ومنهم من أخذها سائغةً دون عناء، وفتنه جمالها وشُغل قلبُه بملذاتها، حتى ركنت نفسه إلى الدعة والغفلة، فانتُزع منه المُلك تفريطاً لا قسرا.

وانتهاء هذا اليوم يعني أيضاً أننا على موعد مع الجو الذي سيعيدنا إلى بلادنا وأهلنا ومنازلنا التي افتقدناها وافتقدتنا قرابة عشرة أيام، قبل الفجر توجهنا إلى إشبيلية ، لكن التفجيرات التي حدثت في طابة في تلك الأيام أحدثت إرباكاً في حركة الطيران- كما قيل لنا- هذا يعني أننا سنفقد موعد الرحلة التي ستقلنا من القاهرة إلى عمان، مما يسبب تأخيراً على الأسرة والعمل، لهذا أصابني شيء من الضيق.

في صالة الانتظار في مطار إشبيلية كنا بمعية فخامة المشير عبد الرحمن سوار الذهب الرئيس الأسبق لجمهورية السودان والذي عرفته في أيام قرطبة إنساناً عظيماً متواضعا، وكان معنا الشاعر السوداني محيي الدين فارس، الذي اختارته مؤسسة جائزة عبد العزيز البابطين لنيل جائزتها التكريمية، وكان الشاعر الفارس يتخيل كرسياً كتب عليه أن يلازمه عمره كله، وهو على كرسيه ذاك فارس لا يُشق له شموخ، طلب مني الرجل الكبير أن ألقي عليه شيئاً من شعري خصوصاً أننا كنا نجلس في المكان الأقل ضجيجاً في الصالة، وتمنى لو تكون القصيدة اللامية  التي ألقيتها يوم الافتتاح يقصد(عاشق الزنبق) ، لكن الخلل الذي حصل في برنامج الطيران جعلني في حالة نفسية لا تنسجم وقراءة الشعر، تناولت القصيدة من حقيبتي وكتبت عليها إهداءً خاصاً به، ثم قدمتها له ليقرأها بنفسه معتذرةً عن عدم القدرة على القراءة، ولكنه أشار إلى عينيه وقال إن نظره لا يساعده ، عندها سارع الرجل الإنسان عبد الرحمن سوار الذهب بمدّ يده متناولاً القصيدة وشرع بإلقائها، وعندما وصل إلى البيت الثالث استأذنته وأكملت إلقاء القصيدة وقد أذابني تواضعه حياءا، من السودان أيضاً التقيت الوزير الشاعر محمد صديق المجتبى، وزير الدولة للثقافة ورئيس مكتب رابطة الأدب الإسلامي في السودان، أكثر ما يلفت الانتباه في شخصه عفويته وطيبته وخلقه الرفيع، فهذه الصفات من سمات الإخوة السودانيين، فقد لاحظت غير مرة من خلال لقاءاتي بالعديد من الإخوة والأخوات من أهل السودان أن دماثة الخلق من بعض طباعهم.  

    في الجو بين إشبيلية والقاهرة وعلى ارتفاع آلاف الأقدام أقيمت أمسية شعرية نادرة ، حيث تطوع بعض الشعراء المتحمسين لإحياء الوقت- لا لقتله- بالشعر مستخدمين "الميكرفون"  الخاص بالطائرة، وقد كان لتلك الأمسية طعم خاص ، فقد تميزت عن الأمسيات التي تقام على الأرض من حيث المكان وربما الزمان وطبيعة الجمهور الذي كان من صفوة الأدباء ومن شتى أقطار الوطن العربي الكبير، تحدثت القصائد عن أمجاد العرب والمسلمين في الأندلس، وعن البطولات التي سُجّلت في صفحات التاريخ، ومنها ما خاطبت ابن زيدون واستحضرت طيف ولادة بنت المستكفي..ولأن الشعرَ طائرٌ يعشق الانطلاق والتحليق كان للانفلات من الأمكنة وإلقاء الشعر فوق الغيم روعةَ لا يستشعرها أي من المُلقي أو المتلقي في القاعات المغلقة على الأرض ولا حتى في الساحات والباحات المفتوحة.

   بصعوبة بالغة تمكن مكتب مؤسسة البابطين في القاهرة من تأمين حجز جديد لنا إلى الأردن ولكن في اليوم التالي، ليلة للراحة، وجزء من نهار في حي المهندسين أتاح لنا وقتاً لا بأس به لمشاهدة بعض ملامح المدينة ونهر النيل والتسوّق حيث الصناعات الجلدية الفاخرة، بالإضافة إلى تناول بعض المأكولات الشعبية  المصرية، التي يعتزون بها كتراث جميل ويقدمونها في فنادقهم متيحين للزائر أن يشاهد بعض ما يدهشه ، كأن تقوم سيدة وبمهارة عالية بإعداد الخبز المصري الشهي بواسطة التنور.

  في الطائرة إلى عمّان تحسستُ حقيبتي الصغيرة وألقيتُ نظرةً في جيبها الأكثر حصانة لأتفقد كنزي الثمين ؛ حبة الكستناء هدية الشجرة الحانية التي غمرتني بفيئها في باحة قصر الحمراء، وحُصيّات كنت التقطّها من باحة القصر ومن مدينة الزهراء، بينما صوت ينزّ مرارةً يئن في داخلي: بماذا تتشبثين وقد ضاعت البلاد كلها؟!

اللحظة التي تلامس فيها قدماي الأرض هي لحظة عابقة بالإحساس بالحرية ، في الجو أشعر أنني أسيرة الفضاء، أما على الأرض فإنني أمشي كما أشاء وأوقف السيارة إذا لزم الأمر وأترجل وألمس التراب وأتشمم الأزهار وأفعل ما يحلو لي، سبحان الله، إن في هذه الأرض سراً يشدّنا إليها، وبيننا وبينها إلفةٌ عجيبة، أوَلم نُخلق منها وإليها نعود؟ لقاء الأسرة بهيج وآسر، ولكنه لم يستطع منعي من التحدث إليهم بمرارة عن ذلك المجد الذي ضاع منا أو أضعناه، عندما وضعت رأسي على وسادتي راحت عبراتي تتفلت من مآقيها وكأنني أشهد الهزيمة للتو.