يوميات من القاهرة 4

صباحكم أجمل/ بهية يا مصر

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

أغادر عمّان الهوى ، أشعر أني أترك روحي فيها، متجهاً إلى رام الله صبيحة الأحد الماضي لاسترداد الروح هناك، بعد أن اختتمت وجودي في عمّان مساء الخميس مع زوجتي بحضور فيلم "عودة الحكي" للمخرج الشاب أصيل منصور في قاعة المركز الثقافي الملكي، ولقاء العديد من المخرجين الشباب وفي مقدمتهم هناء الرملي، والتقي بالمصادفة الجميلة الصديقة أمل التي لم التقيها منذ ثمانية عشر عاماً، وأحظى بالحصول على عدد من النسخ لأفلام سمعت بها ولم يتاح لي أن أحضرها، للمخرج الشاب أصيل منصور وفيلم الأيقونة للمخرجة هناء الرملي، مما سيتيح لي الفرصة للاطلاع على هذه التجارب والكتابة عنها، لنواصل الحديث بعد الفيلم بجلسة في مقهى جميل في شارع المدينة المنورة، جلسة غمرتني بالفرح والجمال. وفي مساء السبت كنت التقي في قاعة المدينة في قلب عمان إبداع على شكل لوحات مطرزة بالتطريز الفلسطيني الأصيل تحكي حكاية فلسطين منذ الأزل، صاغتها روح وأصابع الفنانة الصديقة زهيرة زقطان تحت اسم "كنعانيات" برفقة زوجتي والصديقة الرائعة أسمهان والشاعر الجميل زهير زقطان، لنكمل جلستنا في مقهى لطيف في جبل عمان، وبعدها أغادر وزوجتي لارتباط بدعوة عشاء في مطعم جميل ومتميز في أم أذينة، لنعود للبيت وأبدأ بتجهيز نفسي للسفر ومعانقة رام الله من جديد.

مصر.. ليس من السهل لإنسان أن يزور أرض مصر ولا يسحر بجمالها وبهائها، وليس من السهل أن لا تحيط القاهرة بكل جوانحها ودروبها وسحرها روح كل زائر، بحيث يصبح لديه حالة وجدانية من العشق أن يبقى فيها ولا يغادرها أبداً، كانت هذه مشاعري وأنا أتوجه لزيارة الأهرامات صبيحة الجمعة العشرون من آذار/ مارس، فالأهرام من أكثر ما عرفنا عن مصر وأرض الكنانة من خلال الدراسة والصور، وما زلت أحتفظ بالعديد من المقالات عن أسرار الأهرام قرأتها عبر سنوات من الزمن، فلذا كانت زيارة الأهرام مسألة أساسية لا يمكن أن أفوتها أبداً، وحين أخبرني صديقي الرائع خالد عن نيته بالسفر انتابني شعور بالوحدة وأني إن زرت الأهرام قد أكون وحيداً، ولكنه أعلمني باليوم الثاني أنه قرر تأجيل الرحيل كي يرافقني للأهرامات ثم يسافر، فسعدت لذلك أيما سعادة، فكان صباح الجمعة موعدنا فأفطرنا إفطاراً شهياً أعدته طيبة الروح والقلب توأمه ياسمين، لنمتطي السيارة متجهين للهرم، مبكرين كي نكتسب بعضا من الهدوء في التجوال وقبل أن تسيطر على الجو حرارة الشمس.

حين رأيت الهرم الأكبر من بعيد شعرت بإحساس غامض، فها أنا التقي أحد أعظم الحضارات في تاريخنا وتاريخ مصر، حضارة حيرت عقول العلماء وما زالت أسرارها لم تكشف بالكامل، فسادني صمت كبير ودهشة، وحين همست لي ياسمين: ما رأيك وانطباعك الأولي، قلت لها: يقفز لذاكرتي عبارة لأم كلثوم في أحد أغانيها تقول فيها: "وحديث في الحب إن لم نقله أوشك الصمت حولنا أن يقوله"، فالكلام يصمت أمام هذا الإبداع والحضارة العظيمة، هذا ماضي أمة أبدعت وتسامت، فلماذا لا يواصل الأحفاد المسيرة ويبنوا على أسس ما سبق ليبدعوا حضارة أخرى معاصرة مميزة.

   جولة طويلة في الأهرام لا يمكن أن تنتهي بدون لقاء أبو الهول، كنت قد قلت لأصدقائي ونحن في الطريق: لا تنسوا أن أرى أبو الهول فلدي موعد معه، وحين نظروا باستغراب قلت لهم: هو صديقي ولدينا موعد قديم آن الوقت للوفاء به، وحين وقفت أمام أبو الهول كنت أشعر أني أقف أمام حارس التاريخ في مصر، الصامت الشاهد على مر العصور، شعرت به يهمس لي ويتحدث عما رأى، يقول لي: لم تكن الأهرام معجزة ولكنها إبداع شعب حضاري تسامى بقوة في ظل ظروف صعبة، فواصلوا المسيرة أنتم الأحفاد فليس هناك من معجزات أمام قوة الإرادة والتصميم.. وشعرت بنفسي أهمس له وأسائله حتى انتبهت ياسمين فتساءلت عما أتمتم، فقلت لها: أبو الهول صديقي ويحدثني، ألم تسمعي ما يتحدث به؟ فدهشت وقالت: انتم الكُتاب مجانين..

بعد استراحة في مقهى عدنا للتجوال وعدت لالتقاط الصور قبل أن نغادر وساهمت الريح التي هبت وأثارت عواصف من الغبار في أن نغادر أسرع، لنعود للقاهرة للجلوس والحديث عن الأهرامات وحكاية التاريخ، نتناول الغداء ونجلس جلسة لا تنسى بروحانيتها وجمالها، وحين استأذنت بالذهاب.. لم اعد للراحة بل ذهبت لوسط المدينة وجولة على الأقدام ولقاء أصدقاء وعشاء وجلوس على مقاهي شعبية جميلة، حضور معرض في شارع بولاق في قاعة بورتريه لمجموعة من الفنانات بمناسبة عيد الأم، لفت نظري فيه عدة لوحات للفنانة التشكيلية الفلسطينية لطيفة يوسف، ومنها لوحتين شدتا روحي ووقفت مطولاً أمامهما وشعرت أني أقف أمام إبداع متميز لفنانة متميزة، فهنأتها وتمنيت أن يتيح لي الزمن أن أحضر معرض متكامل لها.

السبت وهو عيد الأم كنت أصحو من نومي وصورة أمي لا تفارقني، فترحمت عليها وهي تفارقنا قبل أن يتاح لي الاحتفاء بها بهذه المناسبة، ففتحت حاسوبي المتنقل وقرأت رثائي لها حين كتبت: صباحكم أجمل/ وداعا يا أمي.. وداعا أيتها الياسمينة، فلم أغادر البيت الذي أقيم به حتى الظهر حين تجولت في وسط المدينة وزرت منـزل صديقي أبو أحمد الجمل، الفنان الفلسطيني الذي لم ألتقيه منذ زمن، ومن ثم أعود إلى جروبي في ميدان طلعت حرب للقاء المبدع والصديق الكاتب سيد نجم بجلسة امتدت إلى حوالي الخمسة ساعات لم نشعر بها أبداً، تحاورنا بالكثير من القضايا بها، ليهديني في نهاية اللقاء كتابه الذي يحتوي على روايات قصيرة تحت اسم: "يا بهية وخبريني"، فأمتعني وحلق بروحي بقراءة هذه الجمالية خلال وجودي بالقاهرة التي ما زال لها حديث سأواصله.

أصل لرام الله وأحتضنها بكل الحب والعشق بعد رحلة متعبة زادت عن التسعة ساعات، فالاحتلال يستغل كل مناسبة لممارسة قرفه وإزعاجه للمواطنين، ومع هذا فلن نرحل وسنبقى كالسنديان متجذرين في الأرض، فقبل الهزيمة الحزيرانية لم تكن تأخذ المسافة أكثر من ساعتين مع سائق هادئ، لتصبح الآن تأخذ النهار بكامله، ومع هذا لم أشعر من شدة الشوق لرام الله بالتعب، وحين وقوفنا لساعات فوق الجسر كنت أتأمل نهر الأردن وأستمع لهمساته وحكايته عبر التاريخ، فأصل رام الله وأجول بها رغم إرهاق السفر، وأحضر مساء الاثنين مسرحية مغربية تحمل اسم: "واش فهمتني" للمبدع المغربي عبد الحق الزروالي، حظيت على إعجاب الجمهور، وقبلها معرض كاريكاتير لفنان أجنبي اسمه غي دليل في المركز الثقافي الفرنسي الألماني، وفي مساء الأمس مسرحية المغتربان للمخرج الفلسطيني منير بكري وتمثيل الفنانين إيهاب سلامة وصالح البكري، وهذه المسرحيات جزء من أيام المنارة المسرحية التي يتولاها مسرح وسينماتك القصبة في رام الله والقدس وبيت لحم، أتجول في رام الله بهذه الصباح الباكر، أعانق دروبها والجمال وعبق الياسمين، احتسي وطيفي قهوتنا على شدو فيروز: "يا ربع لي في حماك الغض عِشرة صِبا، غنيت في واحتك الحان حب وصَبا، بنطر علينا من رياضك صَبا عيوني، بذكر ملاهيك يا العشب بيها وَرد، بذكر غدير الهوى بطيب منه وَرد، يا سالب القلب اسمع ما نغني ورِد، ورِد لعيوننا النوم يلي القلب نحوك صَبا"

صباحكم أجمل.