مسجد السلطان حسن في القاهرة

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

صباحكم أجمل/ وللقاهرة عبق وجمال آخر..

يوميات من القاهرة 3

واصلت القاهرة سحرها واستلاب روحي، لم تترك لي لحظة بدون تحليق، تجولت فيها وجالت بروحي، فكانت روحي تجول عبر سحر القاهرة وعبق النيل، لا أشعر بالتعب إطلاقا رغم كثافة البرنامج اليومي، لم تفارقني رام الله وعمّان وروح طيفي أبداً، ولم يفارقني الأصدقاء الذين التقيت بهم هناك، من التقيت بالسابق ومن تواصلت أرواحنا عبر الحروف والجمال وعالم الكتابة والحرف، فمن ليس معي بجسده وروحه تواصلني عبر الهاتف، فغمرني أهل أرض الكنانة/ أهلي بطيبتهم وجمال روحهم وحسن الضيافة وكرمها، فزادوا من بهاء القاهرة ومصر في الروح، فتجذرت في القلب وسكنته بجمالها والروعة والطيبة والمحبة.

   ما أن خرجت وصديقي الرائع الأستاذ يحي حسن المذيع المعروف ومقدم البرامج في إذاعة صوت العرب من بوابة القلعة، حتى كنت أستدير بوجهي ونحن نركب سيارته وألوح للقلعة هامساً: سيكون لنا لقاء من جديد، فسحر القاهرة وأرض الكنانة لا يقاوم، لأتجه مع صديقي المضياف ذو الروح المحلقة إلى مسجد السلطان حسن، ومن ثم مسجد السيدة عائشة، ونجول في تلك الأحياء القديمة التي تروي كل حجارتها حكاية مضخمة بعبق التاريخ والأصالة، فكل ما قرأته عن تلك الأماكن لم يستطع إلا أن يزرع الحلم بلقاء المدينة الحلم/ القاهرة في الروح، لكنه لم يتمكن أبداً من أن يمنحني أحاسيس الجمال والروعة في التجوال.

كانت الحكاية تتواصل، وكل مكان نزوره يروي فصلا من الحكاية حتى وصلنا لأول مسجد في تاريخ القاهرة، مسجد الصحابي عمرو بن العاص، فانسكب التاريخ شلالات من جمال تروي حكاية مرحلة جديدة وحضارة أخرى من تاريخ مصر والعرب، فكل أعمدة هذا المسجد الضخم تروي فصولا من الرواية، تجولت فيه وعدسة التصوير لا تتوقف عن التقاط الصور، والروح لا تكف عن التحليق عبر عبق التاريخ ومجده، فليس أجمل من المكان حين يحكي الحكاية، يروي فصولا من رواية بدأت وليس لها نهاية طالما الدنيا قائمة، طالما الأرض تدور.

من باحة المسجد إلى محيطه والجمال، إلى الحي المحيط به ثم لأحياء جُلناها بالسيارة بين قديم وحديث، لنتناول العشاء في مطعم أبو رامي الشهير والمختص بأصناف محددة، لنواصل السهرة والراحة والحديث في مقهى يمازج بن القدم والحداثة، يحمل اسم نارجيلة الباشا، فجلسنا وصديقي يحي حسن في حوار جميل حول التاريخ وعبق الجمال، الحاضر وحلم المستقبل، لأعود لمقر إقامتي متوقعا بعد إرهاق الجولة أني لن أصحو في الصباح.

   في الصباح التالي كنت أصحو مبكرا كالعادة، نشطاً متهيئا للمغادرة والتجوال، جلست للشرفة ورافقتني رام الله وعمّان وطيفي، نحتسي القهوة العمّانية، نتداول الهمس الروحي، نستعيد ما رأينا ونحلم بما سنرى، وما أن أنهينا فنجان القهوة وسماع فيروز رفيقة كل صبح حتى كنت أجول سيرا على الأقدام على جسر قصر النيل، أو كما يسميه الأهل في مصر "كوبري" قصر النيل، هذا الجسر الذي يربط ضفتي النيل كغيره من الجسور، تحرسه أسود أربعة على مداخله من الجانبين، ويقف سعد زغلول يشير بيده من جانب، ليلتقي عمر مكرم في ميدان التحرير من الجانب الآخر، يرويان معا قصة نهضة مصر الحديثة وعبق طيبها والجمال، وللتجوال على هذا الجسر جمال خاص، فأنا أسير عليه وإلى ميدان التحرير بدون ارتباط بمواعيد مع أصدقاء من الكُتاب كما في زيارة سابقة في الأيام التي سبقت، أجول وحدي وروح طيفي وهمساته ترافقني، فأنظر للنيل من حافتي الجسر، أقف مطولا متلقياً نسمات عبق النيل ترد لي الروح، أتأمل هبة الله لمصر أرض الكنانة، فجعل الله فيه آية وجعل من الماء كل شيء حيّ.

أتأمل النيل وحوافه والشطآن، تدخل روحي تشابيه جمالية كثيرة، فأحمد الله الذي أطعمني زيارة مصر وتحقق الحلم بزيارة المدينة الحلم، وأستعيد عبق التاريخ منذ انبثقت روح الحياة في هذه الأرض، وأجلس بعد التجوال الطويل الذي بدأ من حي الدقي  حيث أقيم فميدان المساحة فميدان الدقي إلى شارع التحرير  وجسر قصر النيل فميدان التحرير، أجول الشوارع المحيطة وميدان طلعت حرب، أتجول على المكتبات فيه وفي المناطق المحيطة، ثم أعود لميدان التحرير وأجلس على حافة قاعدة تمثال عمر مكرم، أتأمل الميدان والمباني، وجامعة الدول العربية، فيأخذني الحُلم إلى أمل أن تصبح يوماً مقراً للوحدة العربية، التقط صوراً لكل ما شدني في المنطقة، أستل قلمي ودفتري وأبدأ بالكتابة في ظلٍ منحني إياه التمثال، فقد ارتفعت حرارة الشمس وكنت بحاجة للظل والراحة، أتأمل حركة البشر والازدحام الكبير، حركة السيارات واكتظاظها الهائل، فأكتشف أن ذروة ازدحام شارع وصفي التل في عمّان وازدحام رام الله بين ميداني المنارة والساعة ليسا أكثر من نزهة مقارنة بما أراه، فأبتسم وأنا أرى في الحديقة حولي وفي الشارع أمامي الشباب والشابات يتأبطون أذرع بعضهم، يحلمون بالغد ويتجولون في الحديقة، أتأمل كباراً في السن يستظلون إما تحت ظل شجرة أو بظل السور أو التمثال، إلى أجانب يلتقطون الصور ويرتاحون من تعب التجوال، فأجلس حتى يأتي موعدي مع الصديقة الكاتبة التي جمعنا الحرف معاً، الطيبة هدى أم بتول، فنجول معاً ونحتسي القهوة في جروبي، ونتجول في الشوارع وفي ميدان طلعت حرب، ثم تأخذني بجولة في سيارتها تعرفني بشوارع القاهرة في المساء في مدينة لا تنام، حتى تعيدني إلى مكان إقامتي فأودعها على وعد بلقاء آخر قبل السفر، قبل العودة لأحضان عمّان الهوى ورام الله العشق والجمال، وأستعد لزيارة الأهرام في اليوم التالي الجمعة، بدعوة من صديقي خالد وتوأمه ياسمين، فقد أجل سفره للبعيد من جديد، من أجل أن يمتعني ويجعل روحي تحلق في عظمة الأهرام ولقاء أبو الهول.

 صباح عمّاني جميل بنسمات باردة وشمس مشرقة، بعد عودتي من القاهرة في فجر يوم الأحد التاسع والعشرون من آذار، أجلس لشرفتي أحتسي قهوتي أستذكر معرضاً فوتوغرافياً يحمل اسم "تفاصيل" حضرت بالأمس افتتاحه في مركز رؤى في عمّان للفنان والكاتب والصديق هاني حوراني، فأستذكر تفاصيله الصغيرة وجمال روحه، وأنوي زيارة أخرى فإبداع جمال عين هاني حوراني لا تكفيه زيارة واحدة، ويحتاج إلى كتابة تدخل في عمق تفاصيله سيكون لي معها لقاء، وتلفني أنفاس طيفي وحروفي الخمسة الأجمل، أكتب عن القاهرة وما زال في الذاكرة الكثير، فروحي ما زالت هناك تجول، وجسدي هنا يرتاح بعد جولة كانت عبارة عن حلم، أستمع لشدو فيروز:

"راجعٌ من صوب أغنية يا زمان ضاع في الزمن، صوتها يبكي فأحمله بين زهر الصمت والوهن، من حدود الأمس يا حلماً زارني طيراً على غصني، أي وهم  عشت به كنت في البال ولم تكن، أنا يا عصفورة الشجن مثل عينيك بلا وطن، أنا لا أرض ولا سكن، أنا عيناك هما سكني".

صباحكم أجمل.