ايطاليا (3)

د. عثمان قدري مكانسي

ايطاليا (3)

بقلم: د. عثمان قدري مكانسي

[email protected]

دعاني الإخوة المسؤولون في اتحاد الجمعيات والهيئات الإسلامية إلى مخيمهم السنوي في أرشيفيا قرب مدينة " أنكونا " على شاطىء البحر الأدرياتيك للمرة الثالثة – وقد لقيت بفضل الله تعالى قبولا لديهم ـ عام ألفين واثنين . وصحبني في رحلتي هذه زوجتي مدعوّة لا مرافقة ، فهي من حفظة القرآن الكريم ، والمدرسةالأولى  للغة العربية في الإمارات ، ثم الموجهة لها ... لتلقي على النساء في المخيم بعض المحاضرات والعظات .

      استقبلني الإخوة  وكأنني واحد من المقيمين هناك ، فما عدت غريبا عنهم بعد الزيارات المتكررة  لمخيماتهم ومؤتمراتهم ومدنهم ،وسرعان ما اندمجنا  في الترتيبات الأولية ، فقد وصلنا قبل يوم من بدء المخيم،  وتعرفت أم حسان إلى النساء فأحبتهن وأحببنها ، وتذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المسلم آلف مألوف " . وذَكَرَ صلى الله عليه وسلم كلمة " آلف " قبل  مألوف "  لأن على المسلم أن يسارع في الاندماج بإخوانه ويتحبب إليهم فتكون المبادرة الأولى منه ، فيأنسون إليه ، ويزول منه حذرهم ، ويتقبلونه بينهم .

      أرسلت منظمة المؤتمر الإسلامي إلى المخيم ثلاثة من موظفيها مشاركين في المخيم ، وكانوا شبابا في مقتبل العمر ، قليلي الخبرة في الحياة الاجتماعية ، وتبرعت للمخيم بخمسة آلاف دولار ، واشترطت على إدارة المخيم .. أو اشترط هؤلاء باسمها :

1-    أن تكون المحاضرة الأولى اليومية لأحدهم .

2-    أن يكون مبيتهم في أحد فنادق أنكونا الجيدة .

3-    أن يُخصص لهم سيارة تقلهم إلى المدن القريبة <سياحة> .

4-    وعلى هذا فطعامهم في الفندق أو في مطاهم المدينة وحيثما يصلون في جولاتهم ...

قَبِلَ القائمون على المخيم هذه الشروط على أن يُصرف على " جحا " ما تبرع به !!!.

ولا يطلب من أحد إلا ما يستطيعه ويرضاه ، وما قدم هؤلاء إلا للفرجة والنزهة على حساب منظمتهم .. ولم يأتوا دعاة !! وإلاّ لزموا المخيم وبنوا علاقة طيبة مع المسلمين فيه ، وعاشوا كما يعيش الآخرون وتحسسوا آمالهم وآلامهم ، والداعية حريص على لقاء إخوانه والتقرب إليهم ، يغتنم هذه الفرص  ولا يضيّعها .. أما أن تكون المحاضرة الأولى يوميا لأحدهم ، ثم يسرعون بالمغادرة ، ولا يلتقون أحدا ، وسيارةً .. ووو .. فعلى مثل هذه المنظمة أن تتقي الله في الدعوة إليه واتخاذ الأساليب الصحيحة ، وإرسال القدوة الواعي الغيور على الإسلام والدعوة إليه .

     عن هذا المخيم غاب جماعة العدل والإحسان المغربية التي أسسها الشيخ عبد السلام ياسين ،

لأنهم اصطدموا بالجماعة المغربيةالأخرى ........... ومن المؤسف أن بعض  المحاضرين الذين قدموا في المخيمين السابقين من كلا الجماعتين – بدل الدعوة إلى الله ونبذ الخلافات بين المسلمين داخل المغرب  – أججوا الصراع بين الفريقين ونقلوا الخلاف خارجه ، وهذا يدل على التخلف الذي يعانيه المسلمون تفكيرا ، ويعيشونه واقعا !!..

      خطبْتُ الجمعة في مدينة فلورنسا ، ويسميها الإيطاليون " فرنز " كان المصلى ضيقا على شكل مستطيل متطاول،  يتسع بالكاد لمئتي مصل . وهذه المدينة ملتقى مواصلات الخط الحديدي القادم إليها من الجهات الثلاث الرئيسة ، الشمال الشرقي والغرب والجنوب. يمر فيها نهر عريض ، جسره الضخم منازل قديمة . وكنائسها ضخمة وقديمة وكثيرة ، لكنها تشكو من تناقص المصلين المطّرد . وهذا العزوف عن الكنائس جعل القائمين عليها يبيعون الكثير منها . وبعضها على أبّهتها وفخامتها لايؤمهاأحد،  فهي مغلقة . ولما رأى رجال الدين النصارى أن بعضها ينقلب مساجد وتُزال بعضُ معالم الشرك فيها تنادَوا إلى منع بيعها للمسلمين ، ونادَوا بالثبور وعظائم الأمور ، واتخذوا قرارا بهذا المنع . وقد زرت مسجدا في بلدة " بادوفا" هو جزء من كنيسة كبيرة  دفعها صاحبها لمقاول رمم الكنيسة،  فباعها المقاول للمسلمين في هذه المدينة ،فبُني مسجد المدينة عليه .... وقامت الدنيا .. ثم قعدت... وإلى جانب المسجد في بادوفا نهر متوسط المجرى غزير المياه . والمدينة قريبة إلى " فينيسيا " ضافنا في بادوفا الدكتور الحلبي " عبد الله الباش " أبو محمود والتاجر اللطيف " مصطفى جبل " أبو أسامة الذي صحبنا وزوجته الفاضلة في زيارة إلى مدينة فينيسيا في عصر يوم مشمس بعد انتهاء مخيم أرشيفيا .

    رغب بعض الشباب أن أزورهم في رمضان في مدينة " جنوا " الساحلية القريبة  من الحدود الفرنسية ، ويبدأ رمضان في العشرين  من تشرين الثاني 2002 للميلاد. ... حملتنا الطائرة إلى مطار ميلانو ، فوصلناه عصر اليوم الثاني من رمضان 1422للهجرة ..... قال موطف الاستقبال : إلى أين ؟

-         إلى جنوا ...  المركز الإسلامي فيها..... نظر في التأشيرتين متفحصا ً وكنا قد استصدرناهما في الصيف من القنصلية الإيطالية صالحتين عدة مرات ولمدة ستة أشهرحين دعانا الدكتور محمد نور دشان إلى مخيم أرشيفيا قرب أنكونا . قال :

-         لكن تأشيرتيكما للمركز الإسلامي في أنكونا ، وأنتما ذاهبان لجنوا .

-         هما تابعان لاتحاد الجمعيات والهيئات الإسلامية .

-         تفضلا معي إلى الضابط المناوب ، هو المخول بإدخالكما .

دخلنا غرفة كبيرة فيها منضدتان ، إلى إحداهما يجلس ضابط عرض الموظف عليه الأمر فقال بلكنة إيطالية مفهومة :

  -  " رمدان..  رمدان   أي رمضان ، وأشار إلى درج فيه ختم ، فأخرجه الموظف وختم به الجوازين  وسلمنا إياهما ....

      استقبلنا أخ مغربي لطيف السمت ، بسّام المحيا ،" عبد الحميد " وسلم علينا بتهذيب ثم قادنا إلى سيارته القديمة ، وانطلق بنا على طريق جنوا ... توقفت السيارة على الطريق بعد مسيرة ربع ساعة .. قد تعطل جهاز الكهرباء فيها، وحاول أن يكلم أحدهم في جنوا لكن بطاقة الهاتف ما عادت ترسل لكنها تستقبل ... نظرت إلى أم حسان فوجدتها قابعة وراءنا مسترخية،  كأن الأمر لا يعنيها . السيارات تمر إلى جانبنا مسرعة ، والشرطة – وقد حل الظلام – لم ترنا فلم تقترب منا .

-         ماذا ستفعل يا عبد الحميد؟

-         أنتظرالأخ  إدريساً ، فهو من أرسلني  .

-         وما تظن أنه فاعل إذا كلمك ؟

-         يأتينا بسيارته ليأخذكما ثم أتدبر أمر السيارة .

-         كم المسافة بين ميلانو وجنوا ؟

-         أكثر من مئتي كيلو متر ، وحوالي الساعتين

-         هل معك ماء نشرب، فنحن صائمان،  وقد دخل العشاء ؟

-         آسف جدا ، فما كنت أظن أننا سننقطع ، كنت سأقف عند أول مقهى كي نفطر .

 قلت في نفسي ليس من المعقول أن ننتظر ساعتين بعد أن يخطر ببال إدريس أن يتصل ! ومتى سيتصل؟. .... التفتُّ إلى عبد الحميد قائلاً:

-         خذ هذا الرقم . فإذا كلمك إدريس فأعطه إياه ليتصل بالدكتور ماهر قباقبجي في ميلانو ، واذكرْ له المكان الذي نحن فيه كي يدله عليه ، وليعطه رقم هاتفك  ، فسيأتينا فورا .أن شاء الله ، فأبو عبد الله صاحب مروءة ونجدة .

   وانتظرنا ربع الساعة فاتصل إدريس يسأل عنا ... ثم اتصل ماهربعده بدقائق  يستفسر عن مكان وقوف السيارة ، وكان قريبا منا فجاءنا على التو ، ومعه " ونش " ليحمل السيارة إلى مكان آمن ، ثم حملنا بسيارته –جزاه الله خيرا – إلى عيادته .... وهناك أفطرنا بعد ثلاث ساعات من أذان المغرب ، وصلينا المغرب والعشاء .. وجاء الاخ إدريس حفظه الله تعالىمن حنوا وحملنا إليها ، فوصلناها بعد منتصف الليل .

    نزلنا " موتيلا " وهو فندق صغير ، يشغل المستأجرفيه غرفة وتوابع لها من حمام ومطبخ مدة ليست بالفصيرة ،  فيشعر أنه في بيت لا فندق ، لكن أم حسان لم تطبخ فيه سوى مرات قليلة . وكان جلّ إفطارنا في بيوت المصلين الذين يصرون على دعوتنا جزاهم الله خيرا ... كان المكان بعيدا عن المصلى،  وأخونا عبد الحميد يوصلنا إليه وإلى منازل الآخرين . ولم نجرب الذهاب إلى المصلى والعودة منه في الحافلة إلآ في أواخر إقامتنا في جنوا. وقد سألتهم عن سبب استضافتنا بعيدا عن المصلى فأفادوا أنه أرخص وأوسع . والحقيقة أنه ليس أرخص من وسط المدينة إذا أُضيف إلى  أجرة المكان تخصيص مرافق لنا يقوم بإيصالنا ، بل هو أغلى بكثير . وقد يتأخر عبد الحميد أو غيره  فنصل إلى المصلى متأخرَيْن أو لا نصل .

    جنوا مدينة ساحلية متطاولة على شاطىء البحر المتوسط ،قد تمتدّ طولاً أكثر من أربعين كيلومترا، لكن عرضها لا يتجاوز خمسة كيلومترات ، فهي ساحلية جبلية ، ترى نفسك في طرقاتها وشوارعها طالعا نازلا ، وهذه الطرقات ضيقة متعرجة ، والأبنية يعلو بعضها بعضا في نسق عجيب . وفوق الوديان جسور تصل بين الحواري والأحياء السكنية . والمسافة بينها وبين مدينة " كرارة التي استضافنا في بيته هناك أخونا هشام قدسي تبلغ تسعين كيلو مترا ، الأنفاق بينهما التي تخترق الجبال العالية تبلغ الستين نفقاً !... ولأن الطرق ضيقة متعرجة فسياراتهم صغيرة الحجم تفيد في حرية الحركة وسهولتها وتناسب المواقف الصغيرة . أما حدائقهم فعلى شريط الساحل مرتبة وجميلة ، لا تسمو إلى جمال حدائق المدن الشمالية . ويكثر في المدينة العمال الغرباء ويقل المثقفون فيهم ، ،، فعلى سبيل المثال لم أجد فيها من الأطباء المسلمين المترددين على المصلى أحدا ،على الرغم أنهم كثيرون في المدن الشمالية . وهناك مهندس واحد هو الأخ " حسين " فلسطيني من غزة ، ودارس دكتوراه فلسفة من الكويت ، والأخ " محمد حنون " مندوب إحدى الجمعيات الفلسطينية – على ما أعتقد- ، والمئات منهم بعد ذلك عمال ... وبينهم كثير من أهل البوسنة والهرسك الذين فروا من الاستئصال المتعمد الذي مارسه الصرب والكروات في بدابة التسعينات من القرن الماضي .

     أخبرني الأخ الدكتور " بهاء الدين غريواتي " المقيم في ميلانو أنه استأجر وبعض المسلمين – لا يتجاوز عددهم سبعةً- حين كان في جنوا هذا المصلى عام ألف وتسع مئة وتسعة وسبعين بمبلغ بسيط ، وكان صاحب البناية رجلا عجوزا كريما أحبهم لأخلاقهم وبعدهم عن المفاسد ،فكان يمهلهم في السداد ، وقد يضع عنهم بعض الإيجار ...... والمصلى مخزن أسفل بناء كبير ذي طوابق عديدة في وسط البلدة ، يُصعد إليه قرابة الثلاثين درجة ، فهو قائم على تل مرتفع ليس صحيا تماماً ، لكنه متسع قليلا ، ففيه بهو متوسط وغرفة للإدارة ، ومصلى للنساء ، وغرفة للأطفال ، ومصلى للرجال يتسع لأكثر من ثلاث مئة مصلّ .

    مات الرجل العجوز وورثه ابن أخته – في الستين من عمره – كان يزيد الأجرة عليهم كل سنة ثم طالبهم بالخروج من المبنى ، واستصدر حكما بذلك ، فأغلقت البلدية المصلى صباح السادس  والعشرين من رمضان  1421قبل سنة من زيارتي هذه  – ليلة القدر – بالشمع الأمر ، فكان صدمة للمسلمين في جنوا ، قاموا على إثرها باعتصام أمام البلدية ، واتفقوا بكفالة رئيس البلدية على تمديد فترة الإيجار سنة ونصف السنة فقط . وكم كانت فرحتهم بقيام ليلة القدر في المصلى نفسه ، وكان هذا فتحا من الله  يشكرعليه الشكر الجزيل ويُحمد.... ولما شعروا بوجوب البديل بحثوا عنه فوجدوه في بناء في مكان قريب من المصلى يتسع نصفه لخمس مئة مصلٍ ، والنصف الآخر فالدور الأسفل فيه خُطط أن يكون للإدارة ومنزلآً للضيوف ، أما الدور الثاني فللإمام ...

هكذا كان المخطط حين غادرتهم نهاية رمضان. وقد يسر المولى سبحانه  دفع ثمنه كاملآً، وهم يحتاجون أكثر مما دفعوه من ثمن ليصبح صالحا لإقامة الشعائر واستقبال الزائرين .

إنّ وجودَ إمام متخصص وداعية مقيم في المسجد لأهمُّ للمسلمين في بلاد الغربة من أي اختصاص آخر . فهو –إن كان داعية – جمع المسلمين في منطقته ، وكان مبعث النور فيها ، يرجعون إليه في علاقاتهم الاجتماعية والدينية ... وإنه لمن المؤسف أن ترى مدينة مثل " بادوفا " عام ألفين واثنين ، والمسجد ملك للجالية المسلمة - وهناك تحدّ لهم- أن يجعلوا إمامهم شابا ليس فيه من ميزات سوى أنه عزب يحتاج غرفة صغيرة في المسجد ويرضى براتب زهيد ثم يكنس المسجد وينظفه !! فإذا وجد عملا أفضل تركهم دون أن يخبرهم !!   وحجتهم في ذلك أن الناس لا يتبرعون لراتب إمام متخصص.. .. حين زرتهم وكان لي عندهم محاضرة لم أجد أكثر من ستة أشخاص !!! لماذا ، وقد دعوتموني ؟

 قالوا: لم يعتد الناس على وجود أنشطة في المسجد .

قلت:  لو أنكم استعنتم برجل نذر نفسه لله وللدعوة ، وأمّنتم له سكنا لا ئقا ، وراتبا مقبولا لجمع الناس ، فأفادهم ووثقوا به والتزموا المسجد وأنشطته ، وتبرعوا للمسجد بسخاء نفسٍ وأريحيّة ...

     لم يكن الإخوة في جنوا حين قدمت إليهم قد دفعوا من ثمن بناء مسجد المستقبل  سوى الثلث ويعادل أربعين ألف يورو ، وينبغي أن يكملوا الثمن في آخر رمضان ، وإلا ضاع العربون  وخسروا المكان . وجمْعُ ما تبقّى من المال من العمال أمر مستحيل .... بدأت أحث المصلين على التبرع كل يوم في منتصف صلاة التراويح ، ثم اقترحت على أعضاء الإدارة أن نزور المدن الصغيرة الأخرى حول جنوا،  فأصلي بهم العشاء والتراويح ، وألقي محاضرة ، ثم نجمع التبرعات لهذا المشروع . .. وهكذا كان فيوما نبقى في جنوا،  ويوما نذهب إلى غيرها ، ثم كثفنا الذهاب إلى المدن مبعدين ، وجعلت ثلاثة أيام فقط في الأسبوع لجنوا . وكان الإخوة في كل مكان ذهبنا إليه إيجابيين والحمد لله رب العالمين ، وتزداد التبرعات وتنتشي الأريحية في رمضان الكريم ، وفي الثلث الأخير منه على الأخص ، .. وجاء المدد من المراكز الكبيرة الغنية . وسافر الأخ مسؤول المركز إلى دول الخليج ، عله يستفيد من أهلها ، ومعه ما يثبت صدق المشروع . .. وكان الله في عون العباد حين يقصدون وجه الله تعالى . وسُدد ثمن البناء في الموعد المحدد، فلله الحمد والمنة ، وله الفضل في كل شيء.

      مواقف رائعة رأيتها في هؤلاء الإخوة الأحباب،  تعلن أن الخير يؤتي أُكًلَه كل حين بإذن الله تعالى ، وأن النفس الإنسانية حين تُعامل بالحكمة والموعظة الحسنة تسمو وتبذل في سبيل الله الغالي والنفيس :

      أحدهم  يملك مطعما يقدم فيه شتى المأكولات الإيطالية والعربية ، يقصده الإيطاليون والعرب على حد سواء ، صاحب المطعم هذا قدم شابا من مصر ، لم يربّه أهله التربية الصالحة قبل أن يدَعوه يهيم على وجهه في بلاد الله الواسعة . فلم يكن له رادع يمنعه أن يقدم الخمر والنبيذ ولحم الخنزير لزبائنه ... وتفتح له الدنيا بابها الواسع ، ويكثر ماله ويتزوج إيطالية كانت تعمل نادلة في مطعمه أعجبه منها ما يعجب الشرقي من أدب وطاعة وجمال ...  ثم يريد الله تعالى له الهداية فيأتي بعضَ من كان يتوسم فيهم الخير من أصحابه وأبناء دينه ووطنه يسألهم : كيف ُيرضي الله تعالى .... فيقولون له : باب التوبة مفتوح ، ولكن ينبغي أن تتخلص من مالك كله فهو مال نجس ، كنتَ  تقدم للزبائن الخمور واللحم الحرام . ... وطن نفسه على التوبة .. أما أن يتخلى عن ماله كله فهذا يصعب عليه ، فقد أفنى سنوات من شبابه يسعى إلى جمعه .. إنه يريد أن يتوب صادقا ، ويريد من أصحابه أن يعينوه على شيطانه . ولا يستطيع أن يعود عاملا في مطاعم تبيع الخمور وتقدم الأكل الحرام لطالبيه !!! كاد شيطانه يغلبه فيعود إلى سابق عهده ، وينغمس فيما كان فيه من فسق وفجور وفساد ، لكن بذرة الخير أبت أن تعود للضمور .. ويسألني :

-         ما ذا أفعل ؟  تتقاذفني الأهواء لتبعدني عن التوبة ، وفي داخلي صوت الرحمن ينبهني إلى أن العمر يسارع ، وأن الحياة إلى أفول ...

-         الأمر بسيط يا أحمد وأسهل مما تتصور ، فديننا يسير لمن بدأ في السير على صراطه .

-         ولكنهم أكدوا أن عليّ أن أتخلى عن جهد العمر كله ، وأعود إلى الصفر، فأنطلق من جديد !.

-         أكنت تقدم في مطعمك الخمر والخنزير فقط ؟

-         لا.. طبعاً ، فجل الأطعمة كانت شرقية وعربية ، .. وهناك المشروبات الغازية والحلوى

-         هذا يعني أن جُلَّ ماكنت تقدمه أكل حلال ؟

-         نعم يا سيدي .. أؤكد لك ذلك ...

-         وماذا يفعل الإنسان ليطهر ماله من الخبيث فيه ؟

-         هذا ما أسألك عنه ، وأجِدُّ في السؤال يا شيخي .

-         أمتنعتَ عن تقديم ما ليس حلالاً؟

-         نعم ، وأقسم لك على ذلك ، وكل من يأتيني يعرف ذلك .

-         ليس هناك من مشكلة . أكثر من الصدقات ، واستغفر الله تعالى وساعد المحتاج .. هذا كل شيء  .. قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن هذا الدين يسر..  وما شادّ الدينَ أحدُ إلا غلبه " 

-         أهذا كل ما يُطلب مني ؟!

-         نعم ، يا ولدي .. حين دخل المشركون الإسلام وزكت نفوسهم امتنعوا عما يغضب الله َ تعالى وتصدقوا ودفعوا زكاة أموالهم ، وصاروا من الدعا ة .. وأنت الآن تائب ترجو غفران الله ورحمته ، وتسابق إلى رضوانه .

 حين كنت قبل صلاة الوتر أدعو الرجال والنساء إلى التبرع لشراء المسجد كنت أجده كل يوم يبذل المال عن سماحة نفس ، وحين تقدم امرأة قطعة ذهب – وكنّ كثيرات حفظهن الله وأزواجهن وأولادَهنّ– هدية منها للمسجد ، فأعرض هذه القطعة للبيع أراه يشتريها بأضعاف ثمنها ، ثم يعيدها هدية للمسجد مرة أخرى .....ويجتهد في الدعاء أن يغفر الله له ، وأن يرزقه الرزق الحلال... وأبتسم له وأشجعه ، فالإنسان يحتاج للمؤازرة والتشجيع .

لا أدري كيف يتشدد الدعاة ، وقد أمروا أن ييسّروا ولا يعسّروا ! وأن يقرّبوا ولا ينفـّروا ، وأن يحبّبوا الدين إلى الناس ، وأن يزرعوا حب الله تعالى قي قلوبهم قبل التخويف منه .

     أحد المواظبين على الصف الأول في المصلى حريص على أن يرافقه ولده في رمضان وغيره في صلاته ، وحريص على أن يكلمه بالعربية ، ويقضي الصيف في مصر – فهو مصريٌّ – مع أسرته ليصل بينها وبين الأهل وعاداتهم ، والبلدِ وتاريخه .... يقول لي بحرقة وألم شديدين :

-         جئت إيطاليا شاباً يافعاً ، لا أعرف من أمور ديني شيئا ، فوجدت ما يريد المتفلّت ، فانغمست في كل شيء لا أحرّم ولا أحلّل . وصاحبت إيطالية كانت لي زوجة دون عقد . فهذا دأب الإيطاليين والغرب عامّة . ورزقت منها ثلاثة أولاد ، هذا – وأشار إلى صبي في الثامنة – أكبرهم ..... قلت لأم الأولاد سأذهب إلى القاهرة لأتوب وأتزوج . قالت :

-         وأنا ألست زوجتك ؟

-         لا بد من عقد وزواج من امرأة مسلمة ، فأنا أريد أن أتوب إلى الله .

-         لقد وجت فيك منذ تعرفت عليك الرجل المحب لي المتفاني في خدمة أسرتك .

-         وأنا وجدت فيك المرأة المحبة لي ولأولادنا .

-         فما الذي طرأ وتريد بسببه خراب أسرتنا ؟

-         بقائي معك زنا ، وأنا اريد امرأة مسلمة أعايشها بالحلال .

-         أنا أعلن إسلامي بل أدخل فيه عن طواعية ، لنبقى معا نربي أولادنا.

كان جوابها يقطر حبا واحتراما . ورغبة في دوام الرابطة إلى الأبد . وسافرنا إلى القاهرة ، وعرضنا أمرنا على بعض علمائنا ، فأسلمت زوجتي وعقدت عليها ... لكن هم حين سألتهم أن يسجلوا أولادنا رفضوا ،فهم أبناء الزنا ....عنفوني ، واسمعوني قارص الكلام ، وقالوا إن هؤلاء أولاد زنا ، وأنهم ليسوا أولادي شرعاً!. ... وعدت أدراجي حزينا كاسف البال ،

منفطر الفؤاد . قلت له:

  -   بإمكانك أن تسجل  زواجك مستدركا السنين السابقة.

  -   فعلت ذلك ، ومن ثم سجلت أولادي ، وانتهى الأمر بين الناس وعلى الورق ، ولكن أحقا

      ليسوا أولادي ؟ لا أرثهم ولايرثونني؟

     كان الموقف صعبا يحتاج إلى حكمة وفهم غابا عن أصحاب العلم والفتوى ممن أنبوه ووبخوه  فالرجل لم يكن في بلد مسلم ، ولم يكن ملتزما بدينه ، وعاش مع امرأة أخلصت له،  وأخلص لها ، ولم تسلم نفسها لغيره طيلة هذه السنين ، وهذه الحياةالطبيعية لغير المسلمين . والإسلام يجبّ ما قبله . وكان زوجها فاسقا جاهلا،  ثم تاب إلى الله وأناب . وتوبته تجبّ ما قبلها ، على أن نتذكر أنهما في غير بلاد المسلمين . ... ونسأل أنفسنا : ماذا نقول عن المشركين والكفار الذين أسلموا ، وأسلم معهم زوجاتهم وأبناؤهم ؟!!! ألم تبق الأسرة هي الأسرة ؟ واعترف الإسلام بالأمر الواقع المنطقي ؟

-         إن ولدك يشبهك يا أخي كثيرا ، أليس كذلك ؟

-         ضحك ولف ولده ، وقبله ، ثم ضمه إلى صدره يشمه .

-         من هذا يا ولدي يا سعيد ؟ وهل تحبه كثيرا ؟

-         هو بابا.... وأنا أحبه أيضا ، وأحب ماما كذلك .

-         إنه ولدك يا أخي ، وأنت أبوه ، يرثك بعد العمر الطويل،  وأسأل الله سبحانه أن يجعله من الصالحين العاملين بما يرضيه  تعالى .

كانت فرحة الأب بابنه وأبنائه جميعاً لا توصف . فما ينبغ للمفتي أن يسرع بالفتوى إلا بعد تدقيق وتمحيص ، ودراية بزمان الفتوى ومكانها .

جاءني قبل سفري بأيام يقول :

-         لم تصُم زوجتي رمضان كله ، ولم تصل الصلوات المكتوبة كلها . أأطلقها لأنها مرتدّة ؟

-         وهل أعلنت ارتدادها صراحة ؟

-         لا .. كلما سألتها هذا السؤال بادرت إلى النفي . لكن من لا يصوم ولا يصلي مرتد فعلا وإن أنكر ذلك قولاً.

-         لا تتسرع . أتحبها أم لا ؟ أتريدها معك أم لا ؟.

-         أحبها وأرجو لها الهداية ، فهي محبة مطيعة .

-         اعلم يا أخي أنها إنما أسلمت لأنها تحبك ، ولتبقى معك ومع أبنائها . فارفق بها ، وأعِنْها على دينها ، وعلى فهمه ، وحببه إليها ، وعاملها باللطف والحنان ... وإياك أن تتركها ... إن شيطانها  ينتظر أن تهملها ليزداد وسواسه فيها ... فكن عونا لها عليه ، إنها بحاجة إليك ، وأولادكما بحاجة إليها وإليك  كذلك ، والزمن والمتابعة  وطلب العون من الله كفيل بتقويم كل اعوجاج .

ولعلي وجدت في إخوان جنوا أمثلة رائعة لا تقل في اهتمامها بالدين والعمل له عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم . بل إن أصحابه صلى الله عليه وسلم وجدوا على الخير أعوانا ، ولم يجد هؤلاء على الخير أعوانا ، فهؤلاء أحبابه ،  وأولئك أصحابه .

     من هؤلاء الشباب الأخ " إدريس " المغربي نائب رئيس المركز الإسلامي في جنوا ، شاب في الثلاثين من عمره . جاء إلى إيطاليا للدراسة الجامعية بعد أن نال الثانوية العامة في المغرب ، ودرس سنتين ثم انقطع عن الدراسة لضيق اليد ، وبدأ يعمل في شركة كبيرة في جنوا لتنظيف المؤسسات والأماكن العامة ، ويحمل أدوات التنظيف ، ويجلو الأراضي والأماكن ... ثم يأخذ بيده كتاب الله تعالى وسنة نبيه الكريم  فيجلوقلبه و قلوب إخوانه المسلمين من درن الحياة اليومية ويعمل مع إخوانه الدعاة في الدعوة إلى الله تعالى في صفوف الجالية المسلمة  والإيطاليين الذين يعمل معهم . ورعايتهم ، ويقود مع رئيس المركز وأعضائه مسيرة الخير والعطاء .

    رأيته يقضي الساعات الطويلة في خدمة إخوانه في رمضان فسألته : أتركت عملك يا أخي ؟

فأجاب مبتسما وقد فهم ما أرمي إليه : لم أتركه ، ولكنني كنت أكثر من العمل الإضافي قبل رمضان حتى إذا ما جاء موسم العبادة تفرغت تقريبا لهذا الشهر الكريم .

كان جوابه جوابَ من يرى الدنيا معبرا للآخرة عليه أن يجوزه بأخف التكاليف المادية وأثقلها معنى وفائدة وثواباً .. أما زوجته فكانت نعم الرفيق الذي يؤازره ويشد على يديه ويدفعه إلى المزيد من الأداء الجيد  ... فالدنيا متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة .

دعانا إلا بيته القريب من المسجد لنفطر عنده ذات يوم . أتدرون حجم بيتهما الذي يؤويهما وولديهما الصغيرين ؟!! هذا البيت المؤلف من ممر،  جعلا منه مطبخاً وغرفتين صغيرتين ؟

.... لم تكن مساحته تتجاوز ثلاثين متراً ... نعم ، بل أقل من ذلك إذا لم تخب حساباتي ! فما يسمّى غرفة الضيوف حين جلسنا فيها وأمامنا سفرة الطعام -  وكانت ابنته الصغيرة نائمة فيها على فراش صغير يناسب حجم ابنة أربع سنوات – وسعتنا أنا وهوفقط دون زيادة . ....

    وكان وزوجته وولداه رفاقنا في أكثر الجولات في المدن التي قصدناها لإلقاء المحاضرات وقيام الليل والتعرف على المسلمين فيها . كان سعيدا قانعاً بما قسم الله له . رضيّ النفس ، باسم الوجه ، طلق المحيا . حفظه الله وأجزل مثوبته. .... كذلك كان رئيس المركز الأخ الفلسطيني ، وأظن اسمه أسامة – إن أسعفتني الذاكرة – عملاقا في جسمه الطويل الممتلىء ، جميل الخَلْق والخُلُق . يعمل بائعاأمينا للحم في متجر قريب من المصلّى ، وإداريا ناجحا أمينا في المركز الإسلامي .. يعطيان وإخوانهما أسوة رائعة ، وقدوة صالحة ، ويثبتون أن المسلم – أيّا كان – مثال حي واقعي للإنسانية الرائدة إلى الحق وإلى صراط مستقيم ......