يومياتي في أمريكا

يومياتي في أمريكا:

بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

الحلقة ( 35 )

نعم يا محمد ... في بردج بورت

الجمعة  6 من أغسطس 1982

صلينا الجمعة اليوم في مسجد " وست هافن " .

عدت إلى منزلي بعد ذلك ، وفي السابعة وعشر دقائق انطلقت مع أخوين عزيزين بسيارة احدهما إلى " بردج بورت "  لإلقاء المحاضرة المتفق عليها . وبعد  صلاة المغرب تناولنا عشاء جماعيا ... ممتعا جدا ... العناصر الأساسية فيه لحم الضأن المشوي ، والأرز البشاور ، بكميات وفيرة . وبعد تناول العشاء ألقيت المحاضرة .

كانت المحاضرة بعنوان " نعم يا محمد ... سمعنا وأطعنا " .  والحمد لله كان التوفيق من عند الله عظيما جدا . وقد دارت المحاضرة حول المحاور والنقاط التالية :  

1- لماذا اخترت هذا العنوان ؟ وارتباط ذلك ابتداء بالرجل المسلم وهو يردد" نعم    يا محمد ... نعم يا حضرة النبي " أثناء استماعه إلى خطبة خطيب الجمعة( سأذكر ذلك تفصيلا فيما بعد ) .

2-المنطق المعوج التافه للزعيم العربي المجنون ، في دعوته إلى ضرورة الاكتفاء بالقرأن الكريم دون السنة لأن السنة ــ على حد زعمه ــ فيها من الأحاديث الموضوعة الكثير والكثير .

وأنا أرى أن وضع هذه الأحاديث ــ وهي قليلة ــ دليل على صدق السنة   النبوية ؛ إذ أن التعرف على الموضوع من الأحاديث عزله العلماء عن الصحيح ونفوه عنه .

ونحن حينما ندعو إلى الأخذ بالسنة إنما نقصد السنة الصحيحة النقية الصافية التى جاهد علماء المسلمين حتى نفوا عنها كل خبث وموضوع .   

3- القيمة العلمية المنهجية للعنعنة ، وجهود علماء الجرح والتعديل . وقصة أحمد بن حنبل الذي رحل إلى اليمن ـــ في رحلة استغرقت أشهرا ــ وذلك للتأكد من صحة حديث نبوي .

4-  مفهوم السنة ، وأنواعها : السنة القولية ــ السنة الفعلية ــ السنة التقريرية .

5- أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم :   

 أ – الخصوصيات  ( كصوم الوصال ، وقيام الليل بطوله ، أو أغلبه )

ب – المعاشيات والعاديات ( كالأعمال  اليومية العادية ، وتفضيله طعام على     طعام ... الخ ) 

جـ - الأفعال والأقوال التشريعية في العبادات ، والمعاملات ، والجهاد ، وآداب النفس والاجتماع .

    6 -  مصادر التشريع الإسلامي :

          أ – القرأن الكريم  .

         ب – النبوية بأنواعها .

         جـ - الاجتهاد بالرأي .

         د  -  الإجماع .

        هـ  - أعمال الصحابة .

ويمكن تقسيمها على النحو التالي :

         أ- الوحي ويشمل القرأن والسنة . ويقصد بالسنة ــ كمصدر تشريعي ــ النوع  

             الثالث من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله .

ب‌- المصادر الآخرى : من قياس  ، وإجماع ، ورأى الصحابة ، والمصالح     

المرسلة ، ويمكن اعتبارها مصادر فرعية .

   7-  نهى الرسول  صلى الله عليه وسلم عن اتباعه في الخصوصيات ، أما اتباعه في   

في المعاشيات ، والعاديات فمندوب ، يثاب آتيه ، ولا يعاقب تاركه .

   8 – بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقيمة هذه البشرية في إبراز عظمة التشريع .

   9- نصوص قرأنية في خدمة السنة وضرورة إطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم :

أ – ( ......  وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ       شَدِيدُ الْعِقَابِ ) الحشر 7

ب- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً  )  النساء 59 

جـ - (  فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ) النساء 65

 ومن ثم نقول  : نعم يا محمد ... نعم يا محمد ... سمعنا وأطعنا ... بقلوبنا أطعنا ... بعقولنا أطعنا ... بكل جوارحنا سلمنا ... أنت يا محمد في أعماقنا ... على هداك نعيش ... وعلى دعوتك نحيا ... فنحن بك ولك ... إدع لنا ربك يأخذ بيدنا ، وينقذنا مما نحن فيه ... ويمحوا من حياتنا المهانة التي نعيش فيها ... نعم يا محمد ... سمعنا ... سمعنا وأطعنا  ... و كل منا يردد مع الشاعر المسلم مصطفى صادق الرافعي :

في ضميري دائما صوت النبي=آمرا : جاهد وكابد واتعب

صائحا : غالبْ وطالبْ وادأبِ =صارخا : كن أبدا حرا أبي

كن سواء ما اختفى وما علن =كن قويا بالضمير والبدن

كن عزيزا بالعشير والوطن =كن عظيما في الشعوب والزمن

ومرة آخرى أحمد الله سبحانه وتعالى  ؛ إذ منحني نعمة التوفيق ، وكان الإخوة على مستوى طيب في الأسئلة التى طرحوها ، وأشكرهم من أعماقي بعد الله فقد كان توديعهم لي ـــ كاستقبالهم ـــ  عظيما ... جد عظيم .

الجمعة  6 من أغسطس 1982          

 قطرات نفس

نعم يا محمد من المنزلة إلى المدينة

( أذكر القارئ بأنني قد أشرت أنفا أنني جعلت عنوان المحاضرة " نعم يا محمد " وعللت ذلك بارتباطه ابتداء بالرجل المسلم وهو يردد" نعم    يا محمد ... نعم يا حضرة النبي " أثناء استماعه إلى خطبة خطيب الجمعة ، واعدا بذكر ذلك تفصيلا فيما بعد وهأنا ذا أذكر المناسبة بالتفصيل ، كما وعدت  ) : 

ما حل موسم الحج إلا وتذكرت هذه القصة العجيبة التي سأقصها علي القارئ بعد قليل, كما أعرضها كذلك علي العلماء والفقهاء, آملاً أن أجد لها تفسيرًا علميًا مقنعًا. وعلي أية حال تبقي هذه الواقعة دليلاً علي أن هناك مجهولات كثيرة أمام العقل البشري, لا أقول في الفضاء - الذي يزعم الإنسان بغروره أنه قهره - ولكن في الأرض التي يدب عليها, وفي المحيط الذي يعيش فيه.

. . .

كان ذلك مساء يوم الجمعة (أول ديسمبر 1967), كنت جالسًا في انتظار أذان العشاء بالجامع الكبير في المنزلة دقهلية - مسقط رأسي - ورأيت رجلاً نحيلاً, أبيض البشرة, يرتدي جلبابًا رماديًا... جلس إلي يساري, لم يشد نظري إليه إلا أنه كان يضع علي رأسه عمامة خضراء. وأهل المنزلة يطلقون علي «العمامة الخضراء» وصف «الشرف الأخضر», فيقولون «فلان لابس شرف أخضر» أي معمم بعمامة خضراء, والسبب أن هذا اللون اختصت به عمائم الأشراف الذين ينتسبون - كما يقولون - إلي الرسول الله صلي الله عليه وسلم وآل البيت.

-       هذا رجل غريب عن المنزلة ولا شك.. دار في ذهني هذا الخاطر, لأن أصحاب العمائم الخضراء من أهل البلد, كنت أعرفهم جميعًا, وهم لا يتجاوزون سبعة أشخاص.

     أخرج الرجل الغريب من جيبه مصحفًا صغيرًا, وشرع يتلو سورة الأنفال بصوت خفيض, ولكنه كان ينساب إلي أذني كماء الذهب. وأشهد أنني ما سمعت في حياتي تلاوة أجمل وأبهي من تلاوة هذا الرجل, حتي إنني أملت رأسي علي كتفه اليمني كيلا يفلت مني حرف واحد مما يتلو, وشعرت بتيار من الدفء يغمر أعماقي في هذه الليلة الباردة, إلي أن وصل الرجل إلي قوله تعالي: { يا أيها َّالذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم .....} [الأنفال: 24]. وقف الرجل عند هذا الجزء من الآية... وأخذ يكرره عدة مرات, وفي كل مرة كان صوته يزداد خشوعًا, وتهدجًا, وفي كل مرة يزداد شعوري بالدفء, إلي أن تحول صوته إلي ما يشبه النشيج الباكي, وأخذ يردد " أنا مستجيب يا محمد... نعم نعم يا محمد... نعم يا حضرة النبي».. نظرت إلي وجه الرجل فرأيت الدموع تنهمر علي وجنتيه وذقنه الحليقة, ووجدتني أردد معه بصوت مهموس  " نعم يا محمد.. نعم يا حضرة النبي".

وبعد الأذان... أعاد الرجل مصحفه إلي جيبه. ومن جيبه الصغير في أعلي الجهة اليسري من ثوبه أخرج زجاجة صغيرة, وفتحها عن "مرٍود " كمرٍود المكحلة, ومسح باطن كفي اليمني بهذا المرود الزجاجي المحمل ببلل من عطر فواح.

وبعد التحيات.. وبُعيٍد التسليمة اليمني.. أدرت رأسي بالتسليمة اليسري... فلم أجد الرجل.. انتفضتُ واقفًا - وكان أغلب المصلين مازالوا جلوسًا - أدرت نظري في كل أنحاء المسجد بحثًا عن صاحب العمامة الخضراء - بل عن أي لون أخضر - دون جدوي.. واستبد بي شعور من الإحباط والفزع, وكأنني فقدت شيئًا عظيمًا عزيزًا علي نفسي... وفي ذهول سألت من كان يصلي علي يميني:

- أين الرجل؟

- أي رجل؟

- الرجل الذي كان يصلي علي يساري... صاحب " الشرف الأخضر".

- لم يحضر الصلاة أحد تعمم بشرف أخضر.

بدأت أشعر بانكسار شديد, أيمكن أن يكون كل ما رأيت خيالاً أو وهمًا؟. آه... والعطر؟! رفعت كفي إلي أنفي... الرائحة فوّاحة جميلة... قد يكون ذلك وهما أيضًا. قصدت صديقًا كان يهمّ بمغادرة المسجد وقربت باطن كفي اليمني من أنفه دون أن أتكلم فهتف:.. الله!! الله!!! منين اشتريت هذا العطر؟؟!! ولم أجب... وغادرت الجامع ولساني يردد بنبرات هامسة: نعم يا محمد... نعم يا حضرة النبي.

. . .

وبعد قرابة ست سنين توجهت لأداء فريضة الحج, وبدأنا بالمدينة المنورة, وبعد أن صليت العشاء بالمسجد النبوي الشريف مساء الأربعاء (غرة ذي الحجة 1393 - 26 من ديسمبر 1973).. جلست في أحد المقاهي التي كانت تتناثر حول المسجد النبوي...

كان الجو شديد البرودة.. رفعت فنجان القهوة إلي فمي, ولكني توقفت... اكتشفت أن الفنجان لم يغسل جيدًا , فعلي حافة الفنجان وجزء من جداره الأعلي الخارجي «بصمة شفة» الشارب السابق. ودارت في ذهني خواطر مفزعة, والفنجان قريب من فمي, ألا يمكن أن يكون «صاحب البصمة» مريضًا بالسل, أو الكوليرا, أو بمرض آخر معٍد خطير?.. وهممت بوضع الفنجان علي المنضدة ولكني شعرت بمن ينقر علي كتفي من الخلف.. وهو يردد بصوت خافت «اشرب... اشرب القهوة يا حاج.. توكل علي الله, فهو الحامي.. الشافي». وكأن الرجل كان يقرأ أفكاري, ورأيت يده تمتد إليّ «بمرود» مبلل بالعطر... فتحت يدي اليسري لاستقبال العطر...

- لا.. هات اليمني يا حاج... تيامنوا... نقلت فنجان القهوة إلي يدي اليسري, وفردت كفي اليمني لتستقبل عطر الرجل الفواح... كل ذلك وأنا مشغول عن وجه الرجل بالقهوة... وبكفي... وهو يقول:

- نفحة من نفحات النبي صلي الله عليه وسلم... نعم يا محمد.. نعم يا حضرة النبي...

نهضت واقفًا... ياه... إنه هو... الرجل النحيل الأبيض, ذو الجلباب الرمادي والعمامة الخضراء... وسقط الفنجان من يدي علي الأرض وصار فتاتًا... وصاح عامل المقهي «حاسب رجليك والزجاج» وفي اللحظة التي نظرت فيها إلي موطئ قدمي كان الرجل قد اختفي كأنه شعاع خاطف من البرق, وأرسلت نظري إلي أقصي مدي الرؤية.. بحثًا عن أي لون أخضر فلم أجد... وأخذ لساني يردد كأن قوة غيبية تديره " نعم».. نعم يا محمد... نعم يا حضرة النبي".