يومياتي  في أمريكا

يومياتي  في أمريكا

بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

الحلقة (  25 )

مع الإخوان في فلادلفيا ...

فيلادلفيا (Philadelphia) هي أكبر مدن ولاية بينسلفينيا، وخامس أكبر مدن الولايات المتحدة الأمريكية من حيث عدد السكان. اسم المدينة مأخوذ من اللغة اليونانية، فتعني الكلمة "Φιλαδέλφεια" (فيلادلفيا) "الحب الأخوي"، ولهذا تلقب المدينة بـ "مدينة الحب الأخوي". بلغ عدد سكان المدينة 1463281 نسمة (تقديرات عام 2005).

وفيلادلفيا هي ثاني أكبر مدن الساحل الشرقي للولايات المتحدة، وهي مركز تجاري وتعليمي وثقافي هام بالنسبة للبلاد. حدود فيلادلفيا شمال الشرقية تبعد عن جنوب غرب مدينة نيويورك بحوالي 46 ميلاً. المدينة من أقدم مدن الولايات المتحدة، وكانت في القرن 18 عاصمة البلاد والمدينة الأكثر اكتظاظاً بالسكان فيها. في تلك الفترة كانت تتفوق على بوسطن (ماساتشوستس) ومدينة نيويورك (ولاية نيويورك) في الأهمية الاجتماعية والسياسية، حينما أثر بنجامين فرانكلين على نهضتها بشكل كبير بعد قدومه من بوسطن. تحتوي المدينة على العديد من الجامعات والمدارس، أبرزها جامعة دريكسيل وجامعة بينسلفينيا وجامعة فيلانوفا وجامعة تيمبل. كما يوجد فيها عدة أندية رياضية بارزة مثل فيلادلفيا إيغلز (كرة قدم أمريكية) وفيلادلفيا فيليز (بيسبول).

***********

من مسجد ويست هافن اتصل بي الأخ المهندس إبراهيم موسى الذي يقيم في مدينة فلادلفيا بولاية بنسلفانيا ليخبرني بوصوله ، وأنه سيمرعلي غدا لكي ننطلق إلى فلادلفيا في الثامنة صباحا . وفي الثامنة والنصف من صباح السبت 8 من مايو 1982 صحبني الأخ إبراهيم موسى في سيارته إلي فلادلفيا . وقد وصلنا إليها بعد أربع ساعات .

واستضافني الأخ إبراهيم  في بيته : وهو فيلا تحيط بها جنة خضراء ، رائعة الحسن ، ناطقة بالجمال . .

وفي الثالثة بعد العصر كنا في إحدي قاعات جامعة بنسلفانيا : وكان الحاضرون من الجنسين : الرجال والنساء ، من جنسيات متعددة ، عدد كبير منهم مصريون ، وسوريون ، وأمريكيون ، وسودانيون ... الخ  . وعلى مدي ست ساعات كان توفيق الله :  إذ ألقيت محاضرة بعنوان الإسلام ورصيد الفطرة ، واختير بعض الإخوة للقيام بترجمة فورية من أجل الذين لا يفهمون اللغة العربية . وقد تناولت المحاضرة المحاور الآتية :

1-ربانية المنبع القيمي في الإسلام وأثرها .

2-بين النجاشي وجعفر بن أبي طالب .

3-قائمة القيم الجاهلية : ( عبادة الأوثان ــ الظلم والبغي ــ لغة الدم ــ ذوبان شخصية الفرد في شخصية الجماعة ــ وأد البنات ــ شرب الخمر )

4-فضائل في المجتمع الجاهلي ( الكرم ــ حلف الفضول لنصرة المظلوم )

5-المجتمع الجاهلي كان مجتمع المتناقضات ــ ومصادر الفضائل فيه : الأديان السماوية ، والفطرة الإنسانية .

6-موقف الإسلام من قائمة القيم الجاهلية :

 أ - تحريم الكفر والشرور والموبقات  ، وغرس القيم الجديدة البديلة .

ب- إقرار الأعمال والفضائل التى لا تتعارض مع الإسلام .

 ج - السمو بطاقة الشعر وطاقة القتال .

7- الإسلام  والشعر : الإسلام لم يحرم الشعر ، ولكنه حرم الموضوعات اللاأخلاقية ــ إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للشعر وإعجابه بالطيب النبيل منه ــ النبي وحسان ــ النبي وعبد الله بن رواحة . عبد الله بن الزبعرى نموذج للإعلاء الشعري .

8-الجهاد الإسلامي امتص طاقة الجاهلية ــ إنسانية الجهاد الإسلامي ــ نطاق السمو أو الإعلاء في الجهاد وذلك في الوسيلة أو الطريقة والهادفية أو الغائية.

و مما جاء في هذه المحاضرة ــ على سبيل التفصيل ما يأتي : ومن القيم والقدرات ما أبقى الإسلام على منبعه وأصله الدافع ، ولكنه وجه مسارها الوجهة الإنسانية الخيرة الصحيحة ، وهو يشبه  ــ إلى حد بعيد ــ ما يسميه النفسيون " التسامي أو السمو " ، أو الإعلاء   Sublimation  . ولكن يجب أن نلاحظ أن عملية الإعلاء لا تنجح في صرف الطاقات المكبوته بطريقة ناجحة ملائمة إلا إذا أعيد تنظيم الشخصية بأكملها على أساس جديد لتقوية جميع نواحيها وتحقيق وحدتها وتكاملها بتأثير المثل الأخلاقية العليا . و التربية السديدة الصالحة هي التي تحقق إعلاء الغرائز ، وتنقية الميول مما يشوبها من عوامل الأثرة و الضعف ، وذلك لتحقق وحدة الشخصية وتكاملها ، وبتقوية الإرادة ، وتوفير وسائل ضبط النفس .

وحقق الإسلام هذا الإعلاء بربط الشخصية بالدين وقيمه التربوية من ناحية ، وربط العمل بالجزاء من ناحية ثانية وتقييم العمل على أساس النية من ناحية ثالثة .

ومن أمثلة الإعلاء : موقف الإسلام من الشعر : والمعروف أن العرب أمة شاعرة ، وأن الشعر ديوان العرب ، سجلت فيه أيامها وتاريخها ومعاشها ، ودافعت به ، وبه هاجمت ، وبه مدحت ، وبه تغزلت ، وكانت القبيلة تقيم الأفراح إذا ما بزغ فيها نجم شاعر : فالكلمة عند أمة البلاغة والفصاحة كان لها فعل السحر ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال " إن من البيان لسحرا ، وإن من الشعر لحكمة " .

و الشعر الجاهلي شأن الأدب في كل أمة ، وخاصة في عهد الطفولة الأممية كان فيه ــ من ناحية المضمون الفكري ــ الوضيء و الوضيع : كان فيه الغزل الفاحش ، كما كان فيه الغزل العفيف ، وكان فيه الهجاء المقذع ، كما كان فيه التغني بالمناقب والخصال الإنسانية العليا ، كما كان فيه من الأوصاف ما هو موغل في الكذب ، كما كان فيه ما يتدفق بالصدق .

قال تعالى (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ *

 الشعراء 224 – 227

لقد نزلت الآيات الثلاث الأولى " والشعراء ..... يفعلون " ابتداء وفيها حكم عام صارم على الشعراء ، فبكى الشاعر المسلم عبد الله بن رواحة فنزلت الآية الأخيرة  ( 227 ) ــ تستثني من هذا الحكم " الذين أمنوا وعملوا الصالحات ..... "

فالشعر لم يحرمه الإسلام على إطلاقه ، وقد قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي : أما الشعر فكلام حسنه حسن ، وقبيحه قبيح .

فمدار التحريم والتحليل هنا هو المضمون الفكري للشعر ، لا فن الشعر ذاته ، فإذا تضمن معنى خبيثا يسيء إلى الناس أو الدين فهو حرام ، وإلا فهو من قبيل المباح الذي لا حرمة فيه ...

***********

ثم توالت الأسئلة بعد ذلك من الإخوة ، عن الأدب والأدب الإسلامي ، وإلى أي مدى يمكن توظيف القيم الشعرية لخدمة المضامين الإسلامية في الحديث والسلوكيات... الخ واستمرت المحاضرة ثلاث ساعات ، ولكن الإخوة أصروا على أن أتناول في محاضرة أخرى ، موضوعا آخر يهمهم أكثر من غيره وهو " المستشرقون " وموقفهم من الإسلام ، وموقف المسلمين منهم ، وهل كلهم في معاداة الإسلام سواء ؟

واضطررت إلى الاستجابة للإخوة .  واستغرقت المحاضرة الثانية ثلاث ساعات أخرى ، وبلغ من حماستهم للموضوع أن غادر بعضهم القاعة لشراء أشرطة جديدة لتسجيل الموضوع بعد أن استنفدوا من معهم من أشرطة .

السبت 8 من مايو 1982

قطرات نفس

عزة المسلم

المؤمن يجب أن يعيش عزيز النفس، رفيع الرأس، يستشعر استعلاء الإيمان الذي تصغر أمامه كل صعوبة، وكل محنة؛ لأنه يستقي عزته من أفق علوي ((وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)) (سورة المنافقون: 8). وما كان للمسلم أن يطأطئ رأسه أمام أي إنسان، أو يخشى غير ربه، وعليه ألا تسجد جبهته إلا لله.

ولهذه العزة مقتضيات على المؤمن أن ينفذها ويأخذ نفسه بها. يقول تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139).

فالمسلمون هم الأعلون اعتقادًا وتصورًا للحياة وارتباطًا وصلة بالعلي الأعلى، وهم الأعلون شعورًا، وخلقًا وسلوكًا، ثم هم الأعلون قوة ومكانة ونصرة فمعهم القوة الكبرى قوة الله سبحانه وتعالى. يقول تعالى: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (سورة محمد: 35).

ومن مقتضيات عزة المسلم في وجهها السلوكي ما نجده في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) (سورة المائدة: 54).

   ومن مقضيات العزة رفض الظلم والخنا، والاستسلام لذوي الجبروت والطغيان.

ومن مقتضياتها الاعتزاز بالقدرات والإمكانات الذاتية وإبرازها وتوظيفها عند الحاجة، فهو من قبيل ما يسميه علماء النفس: "اعتبار الذات"، ولا يكون ذلك من قبيل الغرور أو الكبر ما حسنت النية، وكان القصد وجه الله، والمصلحة العامة.

  ومن مقتضياتها: طاعة أمر الله، وأخذ النفس قولاً وعملاً بقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون خوف من الناس.

  ومن مقتضيات العزة واحترام الذات اعتماد المسلم على نفسه في كسب رزقه بالعمل، والسعي في الأرض.

    بهذه المشاعر الطيبة الدفاقة، وهذا السلوك السوي الإنساني الصادق الخيِّر استطاع المسلمون أن يكونوا قوة لها اعتبار, لا على المستوى المحلي فقط، ولكن على المستوى العالمي آنذاك.