القلتة والمرسى بين الأمس واليوم

 هذه السنة ثلاثة أيام بشاطئ القلتة رفقة أم الأولاد والأولاد الأربعة ، ثم مررنا على شاطئ المرسى ونحن راجعون إلى البيت.

ولي في النفس ذكريات عزيزة قضيتها في شاطئي القلتة والمرسى مذ كنت صبيا يأخذني تارة الأخ الأكبر وتارة أخرى الأخ الأوسط ، وكان ذلك قبل زلزال 10   1980. وبعد سنوات طوال قضيت أياما جميلة رائعة، وأنا يومها الزوج السعيد المتمتع بأيامه وأحلامه. وعدت إليهما من جديد عن شوق وحب وأنا أب لأربعة.  

كنا نقضي العطلة الصيفية في غابات المرسى، كنا يومها أطفالا، يتعلم الطفل مع الكبار جلب الماء، والطهي، وغسل الأواني، وغسل ملابسه، وغسل المكان، ونظافة  المكان والمحافظة على الصلاة، والنظام والانتظام. ومثل هذه الخصال التي يتعلمها المرء في الصغر، سيستفيد منها طيلة حياته، فتظهر في سلوكه اليومي، وحديثه مع الناس، وحبه لكل ماهو نظيف منظم، وعدم إعتماده على غيره.

لم يكن في المرسى غير دكان واحد ومخبزة واحدة بالقرب من القنطرة التي مازالت دالة على تلك الأيام. نستيقظ فجرا لنشتري خبزا كثيرا، لأن الأفواه كانت كثيرة شابة. وكان يومها حافلة واحدة بيضاء اللون باسم VOLVO، تنطلق من الأصنام سابقا والشلف حاليا على الساعة الثالثة صباحا، وتعود من القلتة على الساعة الثالثة مساء.

الأراضي الساحلية كانت تزخر بالعنب الجيد المذاق المعروف بالموسكات، وربما كانت نسبة منه توجه للخمر، فقد كان شرب الخمر رائجا في تلك الأيام.

إمتدت الأيام وكبر الطفل وتزوج، فعاد من جديد للمرسى في أواخر التسعينات من القرن الماضي. دفع ثمن 4000دج لشهر واحد مقابل بيت صغير، كان من المفروض أن تخصص السكنات لسكان المرسى، إذ بالهاربين بأرواحهم من اللهيب والجمر والذبح والنسف والقتل أيام المرحلة السوداء لفترة التسعينات من القرن الماضي، إستولوا على المساكن طلبا للنجاة في انتظار أن تسوى وضعيتهم، ويجد لهم القائمون على السكنات حلا لهم.

حدثني أكثر من واحد يومها، أنهم كانوا يعيشون عيشة رضية، فيها كل أنواع الراحة والسكينة والغنى والأمن، والاعتماد على النفس من حيث الزراعة والأكل والشرب، لكن الجمر والقتل الذي عاشته الجزائر في تلك الفترة، جعلتهم يمدون اليد لغيرهم ويطلبون المساعدة منهم، لأجل قطعة خبز أو شربة ماء أو كأس حليب لأطفالهم. ويتحسرون للذل والمهانة التي أوصلتهم إليها المرحلة السوداء من فترة التسعينات.

يعترف الزوج الزائر، أنه قضى أياما سعيدة بالمرسى أواخر التسعينات، وتلقى كل العون والمساعدة من سكانها، وتمتّع حينها بكل أنواع السّمك العالي الجودة كالروجي مثلا وأنواع أخرى لايحضرني الآن إسمها، ضف لها الأمن المطلق والسكينة، وخير دليل على ذلك، لم يكن لباب البيت مفتاح نغلق به الباب باستثناء دفعه، وحين نعود للبيت نجده سالما لم يمسسه أحد بسوء. وأعترف أني قضيت رفقة الزوجة، أحلى الأيام وأسعدها، وكم يتمنى المرء لو عاد لتلك الأيام. فالتحية كل التحية لسكان المرسى.

وبعد سنوات عدت من جديد للقلتة وأنا يومها أب لوليد وأكرم، فدهشت للتطور الكبير الذي مسّ القلتة، مقارنة بأيام الطفولة التي قضيتها بالقلتة، قبل زلزال 10 أكتوبر 1980.

البيت الذي كنت أقضي فيه أيامي، كان لابن خالتي وزوج أختي الصغرى، ويحتوي على كل شروط الحياة، ومنظر رائع يطل المرء من خلاله على البحر، وقرب البيت من الشاطئ، والتمتع بأنواع السّمك الجيد، وما تعرضه القلتة من فواكه صيفيه كالتين والعنب، وفواكه طازجة تستقدم مباشرة من بساتين أصحابها المجاورة البسيطة.طرأ

واليوم وأنا أب لأربعة، أرى تطورا كبيرا طرأ على القلتة والمرسى على كافة الأصعدة، والتطور يلاحظه المرء كل سنة حين يقوم بالزيارة..

تعبيد الطريق، نظافة الشوارع، زيادة في عدد الدكاكين المختلفة الخدمات، إقبال كبير من طرف العائلات الجزائرية المقيمة داخل أرض الوطن وخارجه، إنتشار سكنات جديدة، سواء عمارات التي تشيد أو السكنات ذات الدعم من طرف الدولة، وفرة المياه، وفرة الكهرباء وانتشارها بشكل كبير، ويكفي أن الأضواء المنتشرة عبر شاطئ القلتة وأحياءها يفوق في العدد والحجم أضواء وسط مدينة الشلف أو يقاربها، مطاعم فردية وعائلية منتشرة، ويكفي الإشارة أني رأيت في مدخل المرسى مطعما جديدا يحمل لافتة كتب عليها..

مصلى، قاعة مكيفة للنساء، إستعمال الشبكة العنكبوتية المجانية، مايدل على التطور الإيجابي الذي مسّ القلتة والمرسى، وتغري الزائر بالعودة من جديد، آملا كل السعادة لسكان القلتة والمرسى، ومتمنيا التوفيق والسداد للقائمين عليها.

بقيت أن أشير أن بلدية المرسى، توجت ف السنوات الأخيرة ببناء ميناء صغير يضم مجموعة من السفن الصغيرة لصيد السمك عبر القلتة وما يجاورها. وحدثني بائع السردين أن الأمور تحسنت كثيرا من حيث الكمية المطلوبة من السّمك وتوفره بالسرعة اللازمة والوسيلة المريحة. لكن لاحظت في زيارتي الأخيرة خلال هذا الأسبوع، أنه تمّ إهمال الجهة اليمنى للميناء الخاصة بالشاطئ القديم الذي يذكرني بالصبا وأعز أيام الزواج. وفي المقابل تمّ الاعتناء بالجهة الشرقية للميناء بالنسبة للقادم من الشلف على حساب الجهة اليمنى، ونرجو بالمناسبة من القائمين على المرسى الالتفات لهذه الملاحظة، وإعادة إحياء الشاطئ الأيمن الملاصق للميناء فإن لنا فيه ذكرى طيبة عطرة.

أختم هذه الأسطر بحوار أجريته في أسبوعي الأخير بالقلتة مع بائع السردين. أقول له، القلتة تطورت كثيرا، مقارنة بأيام الصبا التي قضيتها قبل زلزال 10 أكتوبر 1980.يندهش ويقول..

كان ذلك قبل ولادتي، ثم يعقّب قائلا، ومازالت القلتة تعرف تطورا، وفي العام القادم هناك مشاريع جديدة ستقام إن شاء الله. وانصرف فرحا مسرورا، وكم كنت مسرورا لفرحه وسعادته، التي آمل أن تدوم وتعم الجميع.

وسوم: العدد 630