خواطر في الأدب الصوفي الدكتور عبد الحميد مدكور

صالح أحمد البوريني

خواطر في الأدب الصوفي

الدكتور عبد الحميد مدكور

من صالح أحمد البوريني/عمان

[email protected]

استضافت رابطة الأدب الإسلامي العالمية في مقرها بعمان الدكتور عبد الحميد مدكور الأستاذ المحاضر في كلية دار العلوم بمصر  والزائر حاليا في كلية الشريعة بجامعة اليرموك ، وقد ألقى محاضرة بعنوان ( خواطر في الأدب الصوفي ) وصفها الدكتور عودة أبو عودة الذي قـدم الضيــف بأنها تعتبر بحثا علميا متكاملا عن الأدب الصوفي وعن مبادئه وأصوله وأسراره وأسلوبه ولغته ، وقال : إن الدكتور مدكور انتقل بنا من لغة الصمت التي كان يحرص عليها المتصوفة الأعلام إلى ضرورة التأليف التي تفرضها الحاجة إلى الكشف عن كنوز الأدب الصوفي  ثم  إلى هذه الخواطر التي تظهرنا على عدد من نماذج الأدب الصوفي نثرا وشعرا  .

فالموضوع ليس بالسهل  أو باليسير وإنما هو يستحق أن تقدم فيه رسائل عديدة يتخصص لها جهد الدارسين لسعة المجال الذي يندرج تحت تحت هذا العنوان  وهو الأدب الصوفي .

ولكن تخصص الدارسين غير تخصص الأدباء وغير تخصص المبدعين ؛ فالذي يتخصص في مجـال معين يعنى بالمناهج والأفكار وبالمذاهب وبالنظريات وبالمقارنات وبالموازنات وتغلـب عليه اللغة العلمية التي يستحقها البحث العلمي حتى وإن كان البحث في مجـال التصوف . وهذا يختلف عن نطاق الإبداع والإفصاح عن المشاعر وعن الوجدان وعن الفكرة التي تسيطر على الأديب حتى يخرجها فنا ويخرجها شعرا ويخرجها قصة ورواية ومسرحية وخواطر مشبوبة بدم الروح الذي يسمو به الأدب ويعلو به الأديب .

ثم يضاف إلى ذلك صعوبة أخرى تتعلق بالتصوف في ذاته ؛ لأن التصوف بحسب قواعده ومجاهداته ووصايا شيوخه وأخلاق مريديه ينحو نحو الصمت ؛ فالصمت وسيلة من وسائل التربية الروحية ، وقاعدة من قواعد المجاهدة النفسية ، فالذي يسلك هذا الطريق ينبغي عليه أن يروض نفسه على الصمت لا على النطق ، وهذا يجعل النصوص التي تتعلق بهذا الموضوع شحيحة نادرة أحيانا ..

اتهام ودفاع :

ولقد يضاف إلى ذلك سبب آخر يجعل الصوفية يتحدثون عن هذا الذي سنسميه من بعد الأدب الصوفي ، إذ نجد أن التصوف وجهت إليه اتهامات في داخل المجتمع الإسلامي من الفلاسفة ومن المتكلمين ومن الفقهاء ومن المحدثين ومن الذين يأخذون بالمنهج السلفي كل هؤلاء وجهوا اتهامات إلى التصوف ؛ اتهامات تتعلق بالأخلاق التي يلتزمها الصوفية وإلى العقائد التي يتحدث عنها بعض الصوفية وإلى الشطحات التي يقع بها بعض الصوفية فبدأ هجوم واتهام وطعون وشكوك  توجه إلى هذا التصوف ولذلك وجدوا أنفسهم مضطرين إلى أن يكتبوا وإلى أن يعبروا وإلى أن يفصحوا . ومن هنا وجدنا كتبا كثيرة جدا تخرج إلى الساحة  متساوقة مع حركة التدوين التي ظهرت في العلوم العربية والإسلامية في القرن الثاني والقرن الثالث وما بعده متساوقة لم تتأخر عنها ولكنها وجدت طريقها مثلما وجدت الكتب الأخرى في المجالات العلمية الإسلامية الأخرى إلى التدوين بدأت تظهر أمثال هذه الرسائل وهذه الكتب الصغيرة والكبيرة ونسمع هنا أسماء عن رسائل الجنيد رسائل التستري وأبي الحسين النوري ونجد كتابات كتبها أمثال أبي طالب المكي وأبي نصر السراج الطوسي وأبي القاسم القشيري والغزالي والجيلاني والسهروردي صاحب عوارف المعارف إلى آخر هذه الكتابات الأخيرة التي كتبت عن التصوف ويأتي في جنباتها حديث عن هذا الأدب وليس فقط عن الأخلاق والقواعد والعقائد ولكن يشيع فيها ثمرة لهذه المجاهدة الروحية والسلوك والقصد إلى الله سبحانه وتعالى . 

الاختلاف يوجب التخصيص :

 هؤلاء الذين يتحدثون وهم صادقون في تجربتهم الصوفية ، لأن التصوف نظام له الآن عند المسلمين فقط أكثر من األف ومائتي سنة .. ظهر في بيئات ثقافية مختلفة في أنظمة اجتماعية مختلف في أحوال متعددة وظهر فيه من هو مؤمن ومن هو طائع وظهر كذلك من هو شاطح بعيد تبنى نظريات تأتي من هنا أو من هناك فلا نستطيع أن نسم التصوف كله بميسم واحد .. لأن هذا ليس من العلم ولا من الموضوعية ولا من الأمانة .. ولذلك يجب أن نلجأ إلى التخصيص ونحن نتحدث عن التصوف لأنه نظام ظهر في أجناس مختلفة في حضارات متعددة في ثقافات متنوعة وأزمنة متطاولة وأمكنة بعيدة مترامية ، وهذا كله لا يمكن أن يبرز لنا نظاما واحدا أو أن يبرز لنا نسقا واحدا ولذلك تتعدد الأنساق والمفاهيم  أحيانا وتختلف العقائد أحيانا تختلف التعابير أحيانا .. ولذلك فنحن مكلفون دائما ونحن نتحدث عن التصوف أن نحدد وأن نخصص ولا نعمم .. حتى يكون الحكم مطابقا للحقيقة والواقع فلا يؤخذ الجميع بعصا واحدة ولا يقادون بقياد واحد ولكن تتعدد الأحكام والنظرات عندما ننظر إلى هذا التصوف ..

.. لقطة أخرى سنجد أن الصوفية في حقيقة الأمر ظهر عندهم موضوعات ومجالات ليست موجودة عند أحد غيرهم من الذين انشغلوا بالأدب في العالم العربي والإسلامي .. مجالات جديدة ليست عند غيره مطلقا .. ومن هذه المجالات :  المناجيات

. باب المناجيات لله عز وجل أن العبد يناجي الله تعالى ، لهذا باب لا تجده عند الشعراء و عند الفنانين ولا عند .. وإنما هو باب المناجيات فهو من خصائص أدب الصوفية .. فلا تجه إلا عندهم .. أو لا تجده على هذا النحو السامي الراقي البليغ إلا عنهم .. اأ] الصوفية ..

نموذج :  وأختصرالحديث اختصارا ..

ننظر إلى المناجيات التي ظهرت عند عديد من الصوفية ومن أكثر الذين  عرفوا بهذا المجال ابن عطاء السكندري وأبو مدين الغوث التلمساني وأمثالهم كثيرون ؟ يقول :

) مناجيات طويلة تكشف عن هذه الصلة بين العبد وبين مولاه .. بين العابد والمعبود .. بين الرد والمربوب بين هذا الذي لا يريد أن يحس بوحشته في هذا العالم فيفر إلى الله سبحانه ..  

المدائح النبوية :

وباب آخر مما أضيف إلى الأدب الصوفي : وهو باب المدائح النبوية .. لا تجدها إلا عند الصوفية أو من يسلك على طريق الصوفية .. وهم الذي أظهروه وأبرزوه وقد كانوا على سنن الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كحسان وابن رواحة وأمثالهم هؤلاء الذين تحدثوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم هم الذين أمسكوا بهذا الخيط وسار على هذا النهج ودرج على هذا الطريق .. فلا تجد هذا إلا عندهم أو عند من يتشبه بهم أو من يعود إلى طريقهم ، كأبي العتاهية الذي رجع  أحيانا إلى هذا الطريق ، لكن الذي أسس والذي أبدع والذي أجاد وأقام هذا موضوعا أدبيا راقيا رائعا هم هؤلاء الصوفية الذين كانوا كتبوا دواوين وقصائد مطولات وشعرا ونثرا في المدائح النبوية لا تجده في أي أدب إلا عند الصوفية أو من يسلك طريقهم . هذا من الموضوعات التي نجدها في الأدب الصوفي ولا نجدها على هذا النحو إلا عندهم . 

خصوصية التجربة الصوفية :

وهم يؤمنون بأن لهم تجربة تتصف بالذاتية والخصوصية ، ولذلك تكون العبارة عنها ذاتية وخاصة جدا ،  فلا يصح أن نقتبس رأي شخص للتعبير عن تجربة شخص آخر ، فهنا يجب أن يتوفر الصدق بالمعنى الواقعي ، فلا بد أن يكون الكلام نتيجة تجربة وعصارة معاناة ولذلك فعندما يجدون بعض الصغار يقول كلاما قاله شيخه أو أحجد السالكين الكبار فيأتي كلام الشيوخ فيقول لا نريد أن نأكل قديدا نريد أن نأكل لحما طريا ،  كلام عال ، نريد كلاما معبرا عن الذات

لاي عرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيه .. نريد أن تكون التجربة صادقة صدقا واقيعا وكذلك صدقا فنيا ..فيها كل خصائص التجارب الشعرية والفنية والدبيى ة مع هذا المزيج من الطاعة والتقوى والصدق والقرب والأنس والوجد الذي يتوجه به صاحبه إلى الله تعالى .

       لم يكن غريبا ـ والتجربة الصوفية تجربة خاتصة جدا تجربة ذاتية يمر بها كل إنسان  على حدة وربما يكون اثنان في  موقف ولكن كل واحد منهم ينظر إلى ما في قلبه يختلف عما في قلب الاخر فهو يتلقى من الأنوار والأسرار ما هو جدير به من حيث علاقته بالله سبحانه من أجل ذلك نجد من خصائص الأدب الصوفي الرمز ..

الرمـــز في الأدب الصوفي :

الميل إلى الرمز :  لماذا ؟ أولا لدقة التجربة وخصوصيتها وحرص الصوفي على أن لا يعرفوا الأغراب عنهم بمضمون ما عندهم يريدون أن يظل تداول هذه التجارب بين أصحابها العارفين بمسالكها ودروبها ومصطلحاتها ورموزها ووقائعها ومصاعبها فيكون الأمر بينهم فلا يحبون أن يتحدثوا بكلام كثير يقتبسه هذا وذاك وإنما يريدون أن يكونوا على هذا المستوى الضيق من تداول هذه التجربة الصوفية .. فذاتية التجربة من ناحية وخصوصيتها والرغبة في عدم الإقصاح عنها للآخرين حتى تظل سرا مخبوءا لا يصل إليه إلا من عاناه وذاق .. وقد قالوا من ذاق عرف .. فالذي يذوق يعرف  ومن حرم انحرف .. هؤلاء يلجؤون إلى الرمز .. وربما شاع في كلامهم ليلى والخمر والكاس والراح والوصال والهجر ونحو ذلك من هذه الكلمات وهي مقتبسة من اللغة العامة أو من كلام الشعراء في مجال الغزل أو نحو هذا . ولكن انظروا ماذا يقول الصوفية في تفسير هذه الرموز : وأقرأ عليكم شيئا مما قاله محيي الدين بن عربي : يقول إنه نظم قصائد شكلها مظهرها عزل وتشبيب ولكنه كما قال أشير بها إلى معارف ربانية وأنوار إليهية وأسرار روحانية وعلوم عقلية وتنبيهات شرعية وجعلت العبارة عن ذلك بلسان الغزل والتشبيب لتتعشق النفوس بهذه العبارات فتتوفر الدواعي على الإصغاء إليها ، ليسمع الناس فيأتي إليهم بباب يجرهم إليه ويحببهم فيما يقول .. وهو لسان كل أديب ظريف روحاني لطيف وقد نبهت على هذا المقصد بأبيات هي : 

أسلوب السلسلة الصوفية :

ثم نجد في كلام الصوفية أسلوبا  ـ احترت في تسميته ـ ولكنني أسميه بأسلوب السلاسل أو الأسلوب الحلزوني  فالفكرة تسلمك للتي بعدها والتي بعدها إلى التي بعدها وهكذا .. بحث لا يمكن أن تقطع السلسلة وإذا قطعت حدثت فجوة لا يتصل بفقدها معنى الكلام .. فحينما يقول أحدهم مثل : ( أصل الطاعة الورع وأص الورع التقوى وأصلى التقوى محاسبة النفس وأصل محاسبة النفس الخوف والرجاء وأصل الخوف والرجاء  الوعد والوعيد وأصل معرفة الوعد والوعيد عظم الجزاء وأصل ذلك الفكرة والعبرة ) هذا أسلوب تستطيع أن تقرأه من أوله وتستطيع أن تقرأه من آخره .. معكوسا

هكذا باسلوب كأنه الأسلوب الحلزوني أو السلسلة المترابطة لا تستطيع أن تفوت منه شيئا وإلا ضاع منك كلام كثير .. وهنا كلام يتعلق بالأسلوب .. 

عن المعجم الصوفي :

المعجم مختلف معجم الأدب الصوفي وهذه مسألة مهمة فنية فمعجمهم مختلف حتى وإن توافق في بعض الأشياء التي تقتبس من مجالات أخرى وعلى سبيل المثال يتحدثون عن الوجد والفقد والكشف والحجاب والعطاء والسلب والورد والوارد والذوق والري والشرب والشهود والوجود والتواجد والثبوت والعدم و والفناء والبقاء والفرق والجمع وجمع الجمع والشاهد والمشهود وعين الجمع والفرق بعد الجمع والغيبة والحضور والظاهر والباطن والتجلي والتحلي والتخلي والمحاضرة والمكاشفة والمشاهدة  والخوف والرجاء والتلوين والتمكين والقبض والبسط والسكر والصحو والتوحيد والتفريد الخ هذا الذي يشيع في الأدب الصوفي .. إذن الذي يدخل إلى الأدب الصوفي عليه أن يكون دارسا للتصوف .

 عارفا بالمعاني حتى  لا يتوه في هذه الغابات الموحشة على من لا يعرفها ومن لم يسلكه ومن لم يتأدب بأدبها ولم يتقرب من مجالها لهذا أمر يتعلق بالمسائل الصوفية .. وهنا كمسائل كثيرة ولكن رفقا بكم أتحدث عن بعض الخلاصات البسيطة التي أختم بها هذه المحاضرة ..

خلاصـــــــــــة :

أقول : إن هؤلاء الصوفية الذين استخدموا الرمز وسعوا نطاق استخدامه وجعلوه حاملا  للدقيق من المعاني وجعلوه معبرا عن أعمق حالات الشعور والوجدان بل وسعوا مجاله ليشمل التعبير عن الأفكار وعن الآراء والفلسفات الدينية والأخلاقية .

ثانيا إن هؤلاء وسعوا مجال الدب بصفة عامة فأضافوا إليه المناجيات الإلهية والمدائح النبوية والمجاهدات النفسية وأسهموا بحظ كبير في الغرض الديني وفي نطاق الحكم والمثال واستخدموا الأجناس الدبية المعتادة لدى الأدباء من نثر وشعر وقصة وكان للفرس وربما الأتراك ..... في هذا المجال إسهام كبير و في مجال القصة بالذات ، انظر إلى جلال الدين الرومي فريد الدين العطار عبد الرحمن الجامي أمثال هؤلاء فعلا كتبوا بطريقة قصصية وأدبهم أدب عالمي في الحقيقة ، ممكن الشعراء الصوفية  العرب كتبوا نثرا , إلا قليلا عندهم شعر ولكن في مجال المدائح عندهم شعر كثير وفي مجال المناجيات .. لكن التعبير عن التجربة الصوفية نثرا عند العرب أكثر من الشعر وشعرا عند الفرس أكثر من العرب .. وإن كانا جميعا يتكاملان باعتبارهما يمثلان حضارة واحدة .. وقد ارتقوا بالنثر ارتقاء كبيرا حتى صار لدى كثير منهم كأنه الشعر .. نثر كأنه الشعر .. تفيض يفيض شعرا وتسري فيه روح الشعر ولعل لدي بعض المسائل البسيطة ولكن أقول آخر كلمة ن إن هذا الأدجب الصوفي يتحقق فيه الصدق بمعناه الفني وبمعناه الواقعي كما كنت أقول واختم وأختم بأن هذا الأدب يحتاج إلى دراسات علمية كثيرة تجمع النصوص وتصنفها وتحللها وتستخرج ما في هذه النصوص من كنوز مطمورة وتقارن بينها وبين الأدب المعاصر لها  بل تقارن بينها وبين الآداب العالمية لأننا سنجد تفوقا ظاهرا في هذا الجانب أكثر من الجوانب الأخرى الموجودة عند العرب في مجالات أخرى وهذا الدراسات تمد البصر إلى إجراء مقارنات بين التصوف في اللغات الإسلامية عربية وفارسية وتركية وأردية دراسات مقارنة أقول إذا كان أحد مهتما فأنا ألقي إليه هذه الوصية وهذه النصيحة ولعله بعض الناس يلتقطها .. ومن المؤكد أن من يغوصون في هذه البحار العميقة الجميلة سوف يعودون بصيد ثمين ولآلئ تسر الأبصار والعقول وتكشف عن جوانب التفرد والأصالة في هذا المجال المهجور أو المقبور .. ثم أما بعد