ابن الراوندي، مؤسس الإلحاد أستاذ العقلانية الجديدة

د. أحمد محمد كنعان

هو أبو الحسن أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي المعروف بـ "ابن الراوندي" ( 827 – 911 م ) هو من أوائل من أسسوا للإلحاد في تاريخ الإسلام، وذلك بمؤلفات ومدونات كثيرة سار على نهجها الكثيرون من الزنادقة والمعادين للإسلام، وتجدر الإشارة إلى مولده ونشأته في قرية "راوند" الواقعة في بلاد فارس المجوسية، وربما هذا ما يفسر جانباً من أسباب زندفته وإلحاده !

مرت حياة هذا الزنديق بتحولات مذهبية وفكرية كثيرة، فقد كان في بداياته العلمية واحدا من علماء المعتزلة، ثم تحول عن المعتزلة وانتقدها بشدّة في كتابه "فضيحة المعتزلة" لكن لوثة الاعتزال لم تفارقه حيث نجده مغرماً بالعقل بلا حدود، على حساب النقل؛ مما انتهى به إلى الإلحاد، وازداد عقله لوثة باعتناقه لفترة وجيزة المذهب الشيعي، ثم التقى بأستاذ الزندقة أبي عيسى الوراق (889 – 994م) فاتخذه معلماً ورفيقاً، فصار زنديقاً ملحداً مثله، وصار واحداً من أشد "اللاأدريين" في تاريخ الإسلام .

ألف ابن الراوندي العديد من المؤلفات الحافلة بالشبهات، لكن أبرز أفكاره الإلحادية ضمنها في كتابيه " الزمرد" و "الفرند" ويمكن تلخيص هذه الآراء في النقاط الآتية :

1-   سمو العقل على النقل : فهو يمتدح العقل البشري إلى حد التقديس، ما جعله يعتقد أن العقل هو الوسيلة الوحيدة للمعرفة والإدراك، فما وجدناه عقلانياً قبلناه، وإلا فلا، ومن ثم فهو يرى ضرورة إخضاع كل واقعة أو حدث، أو فكرة للعقل، لتبيان صدقها من كذبها .

2-   نفي النبوات : وانطلاقاً من تقديسه للعقل يرى ابن الراوندي أن النبوات ليس لها عصمة تحميها من النقد العقلي، بل يرى أن ظاهرة النبوات من أكثر المسائل حاجة لاختبارها وفحصها عقلياً، بسبب ارتباطها بحياة الإنسان وما بعد حياته، وهو يطرح فكرة عجيبة لاختبار النبوة فيقول : إذا كانت طروحات النبي تتفق مع العقل، فهذا يعني أننا في غنى بالعقل عن النبوة لأن العقل يكفينا هذه المؤونة، وإذا تعارضت النبوة أو تنافت مع العقل فهي باطلة، ولا حاجة لنا بها (!؟) وبهذا المنطق الشيطاني يكذب ابن الراوندي النبوات كافة، ويذهب إلى أبعد من هذا الهذيان الفكري فيرى أنه ليس من الحكمة إرسال أنبياء إلى البشر، لأن الله لو كان عليماً فمن العبث أن يرسل نبياً إلى أناس يعلم مسبقاً أنهم لن يؤمنوا، وبما أن الله لا يمكن أن يكون بهذه الغباء والسطحية (تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) فإن النبوات نوع من العبث والغباء (؟!!) ويزيد ابن الراوندي هذا الهذيان ضلالاً على ضلاله فيرى أن الله إذا كان يستهدف من النبوات هداية الخلق، فإن الواقع يدل على فشله في هذه الغاية ( أعوذ بالله من هذا الضلال !) فهناك من كفر ومن رفض ومن حارب الأنبياء .. هذا هو المنطق (العقلاني؟!) الذي أنتجه عقل هذا الزنديق، وهي النهاية البائسة التي يمكن أن ينتهي إليها كل من اتخذه العقل إلهاً من دون الله، ومن عجبٍ أن تجد اليوم من يتعلل بهذا الضلال، كما نجده اليوم مثلاً عند الشيخ العراقي الشيعي "أحمد القبانجي" الذي يبدو نسخة طبق الأصل لابن الراوندي، وغيره من مجانين العقلانية العلمانية المعاصرين !

3-   نقده للمناسك والطقوس : يزعم ابن الراوندي أن الرسول عليه السلام أتى بما كان منافراً للعقول مثل الصلاة وغسل الجنابة ورمي الجمار والطواف حول بيت لا يسمع ولا يبصر، وكذلك السعي بين جبلين حجرين لا ينفعان ولا يضرّان، وهذا كله – في زعم ابن الراوندي - مما ينافي العقل، فما الفرق بين "الصفا" و "المروة" إلا كالفرق بين "أبي قبيس" و "حراء" وما الطواف على البيت إلا كالطواف على غيره من البيوت (؟!!) وإن الرسول شهد للعقل برفعته وجلاله فلماذا أتى بما ينافره إن كان صادقاً ؟! من الجدير بالذكر هنا أن الكاتبة المصرية "نوال السعداوي" قد صرحت بمثل كلام ابن الراوندي حرفياً في العديد من مؤلفاتها ومقابلاتها التلفزيونية !

4-   نقده للمعجزات : يرفض ابن الراوندي، معجزات الأنبياء جملة، وبخاصة منها معجزات النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وحجته في هذا أن العقول لا تتقبل المعجزات .. في تأكيد آخر منه لتقديس العقل !

5-   نقده لنظم القرآن الكريم وإنكار ما فيه من إعجاز : ولم يكتف الزنديق بهذه الخزعبلات، بل زعم أنّ في القرآن لحناً، وأن في كلام حكيم العرب "أكثم بن صيفي" أبلغ من قوله تعالى : "إنّا أعطيناك الكوثر" . ويتابع ابن الراوندي خزعبلاته حول القرآن في كتابه "الفرند" فيقول : "إنّ المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالكتاب الذي أتى به، وتحدى الفصحاء به فلم يقدروا على معارضته، فيقال لهم غلطتم وغلبت العصبية على قلوبكم، أخبرونا لو ادعى مدّع لمن تقدّم من الفلاسفة، مثل دعواكم في القرآن وقال : الدليل على صدق بطليموس وإقليدس فيما ادعيا أنّ صاحب إقليدس جاء به فادعى أن الخلق يعجزون عنه لكانت ثبتت نبوته" !!؟

6-    التطاول على الذات الإلهية : يتطاول ابن الراوندي على الذات الإلهية تطاولاً يتجاوز كل حد، فيقول عن الله تعالى : "من ليس عنده الدواء للداء إلا القتل دأب العدوّ الحنق الغضوب فما حاجته إلى كتاب ورسول ؟ "ويقول : "أهلك الله ثموداً لأجل ناقة، وما قدر ناقة ؟ ووجدناه يفتخر بالفتنة التي يلقيها بين الناس، كقوله : (وكذلك فتنا بعضهم ببعض) سورة الأنعام الآية 53 ، فهل سمعتم بأحمق هذا الدعي ؟!!

7-   التشكيك بنعيم الجنة : فيسخر مما فيها من أطايب الطعام كالحليب والعسل وغيره، فيقول : "إن الحليب لا يكاد يشتهيه إلا الجائع، والعسل لا يطيب صرفاً، والزنجبيل ليس من لذيذ الأشربة، والسندس يفرش ولا يلبس، وكذلك الإستبرق، وهو غليظ من الديباج .. ومن تخايل أنه في الجنة، يلبس هذا الغليظ ويشرب الحليب والزنجبيل صار كعروس الأكراد أو النبط"

8-   التشكيك بالإسراء والمعراج  : وهي الفرية التي التقطها اليهود في أيامنا هذه وتحدث عنها المستشرق الصهيوني "مردخاي كيدار" وسرقها عنه المصري "يوسف زيدان" ونسبها لنفسه، والحقيقة أنها ترجع أصلاً إلى الزنديق ابن الراوندي الذي ادعى أن المسجد الأقصى الوارد ذكره في القرآن الكريم يقع في "الجعرانة" قرب مدينة الطائف، وليس في القدس كما هو معلوم !

9-    نقد إخبار الرسول عن الغيب : قال ابن الراوندي : "أما قول الرّسول لعمّار بن ياسر إخباراً عن الغيب : (تقتلك الفئة الباغية يا عمّار) فإنّ المنجّم يقول هذا، إذا عرف المولد، وأخذ الطالع" (؟!!)

وغير ذلك من الخزعبلات التي أدرجها ابن الراوندي في كتابيه سيئا الذكر " الزمرد" و "الفرند" وغيره من كتبه الطافحة بالخزعبلات والزندقة والشبهات، ومن عجب أن نرى أدعياء العقلانية المعاصرين ... يسيرون اليوم على منوال هذا الزنديق بغير هدى، تحت ستار العقلانية تارة، والحداثة تارة أخرى، والعلمانية تارة ثالثة ! وما يوسف زيدان ونوال السعداوي وأضرابهما إلا بعض هؤلاء الأدعياء الذين يقول الحق تبارك وتعالى في حقهم : " يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" سورة التوبة 32 و 33 .

وسوم: العدد 803