الأستاذ الدكتور العلامة الشيخ محمد عبد الله دراز

توفي في مثل هذا اليوم  16 من جمادى الآخرة سنة 1377 هـ الأستاذ الدكتور العلامة الشيخ  محمد عبد الله دراز عن 65 عاما. رحمه الله تعالى .

ولد العلامة محمد عبد الله دراز بقرية  " محلة دياي " إحدى قرى دلتا مصر بمحافظة كفر الشيخ  في الثامن من نوفمبر 1894م لأسرة علمية عريقة؛ فوالده الشيخ عبد الله دراز شيخ علماء دمياط و الفقيه اللغوي المعروف الذي قدم شرحا لكتاب الموافقات للشاطبي، والذي عهد إليه الإمام محمد عبده بمهمة الإشراف على المعهد الأزهري الجديد بالإسكندرية اطمئنانا إلى علمه وكفاءته.

عاش دراز حياته منذ أن كان طالبا للعلم في المرحلة الثانوية الأزهرية، مدافعاً عن الإسلام في كل الميادين بما أتاه الله من قلب صاف وعقل وقاد، وعلم واسع، فدبج المقالات، وكتب الكتب وأذاع الأحاديث، وشارك في الكثير من المؤتمرات العالمية، وتصدى لكل ما كان يثار في حياته عن الإسلام ، فما وجد فرية علي الإسلام إلا وردها، ولا شبهة ظالمة إلا ونقدها، ولا مشكلة عويصة إلا وفندها.

كان الشيخ دراز علمًا من أعلام الفكر، وإمامًا من أئمة الدين، وبحرًا من بحور العلم والثقافة، جمع - حقًّا- بين الأصالة والمعاصرة، فإن شئت نسبته إلى جامع (الأزهر) فهو ابنه البار، وتكوينه الأزهري قوي متين، وإن شئت نسبته إلى جامعة (السوربون) فهو من خريجيها الذين تعتز بهم، وتفخر بانتمائهم إليها، وهو أحد رجال الفلسفة والأخلاق المعدودين في عالمنا العربي والإسلامي.

في السوربون:

درس دراز بالأزهر وحصل على الشهادة العالمية عام 1916، وعيّن مدرسا عام 1928 ثم أستاذا للتفسير بكلية أصول الدين.

في عام 1936 سافر إلى الحج وفي العام ذاته حصل على منحة دراسية للدراسة بجامعة السوربون الفرنسية، فأقام في فرنسا اثنتي عشرة سنة، أمضاها كلها اجتهادا وجدا وانكبابا على استيعاب الثقافة الغربية من منابعها الأصلية، وتأملا مقارِنا لتلك الحصيلة بمبادئ علم الأخلاق في القرآن الكريم. ودرس هناك على يد كبار المستشرقين مثل: ليفي بروفنسال، لويس ماسينيون، لوسن، حتى نال درجة الدكتوراه في فلسفة الأديان بمرتبة الشرف الأولى عام 1947.

تألفت رسالته من دراستين: 

الأولى :مدخل إلى القرآن الكريم، وهي دراسة تمهيدية موجزة حول تاريخ القرآن ،

والثانية: دستور الأخلاق في القرآن الكريم، وتقع في حوالي ثمانمائة صفحة، قدم خلالها رؤية متكاملة للنظرية الأخلاقية القرآنية في شقيها النظري والعملي.

وإنجاز الرسالة الأساسي أنها استخلصت - للمرة الأولى- الشريعة الأخلاقية من القرآن في مجموعها، وقدمت مبادئها وقواعدها في صورة بناء نظري متماسك مستقل عن كل ما يربطه بالمجالات القريبة منه، وهو ما أحدث انتقالا بها من دائرة التعاليم الوعظية التي تستهدف تقويم السلوكيات إلى الدائرة المعرفية.

لم تنل الدراسة في السوربون والاحتكاك بالمستشرقين من أزهرية الرجل العتيقة واعتزازه بثقافته وتراثه؛ فقد كان مؤمنا بأن مهمة الباحث المسلم تتجاوز إحياء التراث ووصل ما انقطع منه إلى تحديثه والإضافة إليه.

عاشق القرآن:

كانت أهم سمة من سمات شخصية دراز، والمنبع الذي فاضت منه كل مآثره العلمية والعملية هي شدة ارتباطه بالقرآن الكريم. كان رجل القرآن بحق، فقد ملكت عليه محبة القرآن لبه، وشغفت قلبه، فكان شغله الشاغل، لا يكاد يُرى إلا وهو منكب على قراءته وتدبُّره، أو قائم يصلي به. وقد انصب اهتمامه العلمي على القرآن حصرًا، فلا يكاد يوجد له عمل علمي إلا والقرآن محوره ولبابه. ولا يستطيع دراز كفكفة عشقه لكتاب الله وتعلقه القلبي به، فهو يتتبَّع ألفاظ القرآن تتبع الوالِهِ، ويصفها بحق بأنها "حبات درية".

ثابر دراز على قراءة ستة أجزاء من القرآن كل يوم دون كلل أو ملل. وكان معظِّمًا للقرآن، يسجد سجود التلاوة أثناء محاضراته في التفسير، ويطلب من طلابه التوضأ قبل بداية المحاضرة استعدادًا لذلك. وقد كتب عنه رفيق رحلته إلى المؤتمر الإسلامي بلاهور، الشيخ محمد أبو زهرة: "كان يؤمُّنا في صلاة العشاء، ثم يأوي كل منا إلى فراشه، ويأوي هو إلى صلاته وقرآنه. وكنت لا تراه إلا قارئا للقرآن أو مصليا."

ريادة وتجديد:

لا يكاد عمل من أعمال دراز الفكرية يخلو من نظرات تجديدية ثاقبة. لكن تجديده تجلَّى أكثر ما تجلى في الدراسات القرآنية. وقد أسس علمين جديدين، هما علم "أخلاق القرآن" وعلم " مصدر القرآن". ففي الأول كتب كتابه" دستور الأخلاق في القرآن"، وفي الثاني ألف كتابيه:" النبأ العظيم" و"مدخل إلى القرآن الكريم". أدرك دراز أنه يسلك دروبا غير مطروقة، وأن عليه أن يبدأ عملا تأسيسيا في هذين العلمين. ومن هنا كانت إضافته في هذا المضمار ثمينة حقا، وهي حصيلة جهد ومعاناة فكرية عميقة لا يقدرها إلا من تمرَّس بكتبه واكتشف ما فيها من أصالة وعمق وصدق.

نفس أبيَّة:

كان دراز يحمل بين جنبيه نفسا أبيَّة، وكان يتصف بشمائل نادرة، قال عنه تلميذه البار العلامة الشيخ يوسف القرضاوي: "ما حدثنا وجلسنا إليه إلا وجدناه مشغولا بأمر الإسلام وهموم المسلمين" . ومن مظاهر عزة نفسه: دعمه العلني –وهو مقيم بفرنسا- لحركات التحرر في المغرب العربي الذي كانت فرنسا تحتله آنذاك. 

وفي أعقاب الثورة عرض عليه الضباط الأحرار منصب شيخ الأزهر إلا أنه لم يهرول لقبول المنصب الجليل واشترط الاستقلالية الكافية، وأن تطلق يده لإجراء إصلاحات جوهرية بالأزهر، وعندما لم يجب إليهما رفض قبول المنصب ،وأصرَّ على رفضه له رغم المحاولات والعروض المتكررة.

في ظلال الحركة الوطنية:

لم يكن دراز من أولئك النفر من العلماء القابعين داخل محراب الفكر محتجبين عن الواقع وتياراته، وإنما هو من المنشغلين بقضايا وطنه وأمته، وللرجل مواقف مشهودة فقد طاف على السفارات الأجنبية بمصر إبان ثورة 1919 محاضرا باللغة الفرنسية التي أصر على تعلمها آنذاك ليشرح قضية بلاده أمام ممثلي الدول الغربية.

عرف عنه تأييده لإلغاء المعاهدة المصرية الإنجليزية عام 1951، وكان ممن أسهموا في إعداد كتيبة طلبة الأزهر التي انخرطت في مقاومة القوات البريطانية بمنطقة قناة السويس.

ومن الاهتمام بقضايا الوطن إلى مناصرة قضايا الأمة؛ فعندما كان بفرنسا جهر بتأييده لحركات التحرر العربية: الفلسطينية والمغربية والجزائرية، وقد توطدت صلاته بوجه خاص مع جمعية العلماء الجزائريين حين شارك في الأنشطة الثقافية والدعوية التي قامت بها في باريس ومن خلالها تعرف على مالك بن نبي الذي طلب منه أن يقدم لبعض كتاباته. كما تواصل دراز مع الإمام عبد الحميد بن باديس في الجزائر حين تدخل لدى الأزهر لقبول الطلبة الجزائريين بالجامعة العريقة.

مؤلفاته:

- النبأ العظيم " نظرات جديدة في القرآن " وتكمن أهمية الكتاب في أن مؤلفه استطاع أن يثبت بالأدلة العقلية والتاريخية والحالية بأن القرآن كلام الله, وأنه يستحيل أن يكون مكذوبا أو مختلقا أو محرفا, ويشعر القارئ لهذا الكتاب بأنه أمام مشروع عقلي ضخم لا يجد أمامه إلا التسليم بقوة أدلته وصرامة منهجيته, وهو بحق من أبدع ما كتبه المعاصرون، ومن أقوى ما يؤسس القناعة بصدق القرآن ومن أشد ما يبدد الشكوك حول مصدره وصدقه.

- الدين ( بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان ) يعد هذا الكتاب أحد الكتب المركزية التي أثرت تأثيرا بالغا في الدراسات العربية عن حقيقة الدين وتاريخه، وهو بحث من أبدع ما كتب حول مسائل فلسفة الدين.

- دستور الأخلاق في القرآن (بالفرنسية - مترجم إلى العربية) وهذا الكتاب هو رسالة الدكتوراه التي تقدم بها المصنف للسوربون باللغة الفرنسية، وقد طبعت النسخة الفرنسية عام 1950م على حساب مشيخة الأزهر الشريف. ثم قام بالتعريب والتحقيق والتعليق: د. عبد الصبور شاهين ، ومراجعة: د. محمد السيد بدوي في مجلد واحد في أكثر من 800 صفحة.

- مدخل إلى القرآن الكريم عرض تاريخي وتحليل مقارن (بالفرنسية- مترجم إلى العربية) 

- مِن خُلق القرآن.

- المختار من كنوز السنة النبوية و هو شرح أربعين حديثا في أصول الدين.

- نظرات في الإسلام.

وله رسائل عميقة في موضوعات كتبها للمشاركة في مؤتمرات علمية، مثل رسالته عن (الربا) التي قدمها لمؤتمر الحقوق الدولي في باريس سنة 1951م، ورسالته عن (الإسلام والعلاقات الدولية) ،ورسالته عن (موقف الإسلام من الأديان الأخرى)، وله كتب شرع فيها، وظهر منها بعض الملازم ولم يكملها، مثل كتاب: (الميزان بين السنة والبدعة).وهو في الأصل رسالة تخرجه من الأزهر.

ومن مقالاته : رأي الإسلام في القتال، وبين المثالية والواقعية، والأزهر الجامعة القديمة الحديثة, ومجموعة أحاديث إذاعية في الدين والأخلاق, ومجموعة من المحاضرات والمقالات النافعة ، و قد اعتنى أخونا الشيخ أحمد مصطفى فضلية رحمه الله تعالى بتراث الشيخ دراز و أصدر الكثير من كتبه و رسائله وما كتب عنه رحمه الله .

وكتب عنه دراسة موجزة متقنة الأخ د. محمد المختار الشنقيطي: " محمد عبد الله دراز رائد الدراسات القرآنية".

وأقام مركز القرضاوي للوسطية والتجديد الإسلامي بجامعة حمد بن خليفة بقطر مسابقة علمية بعنوان: " محمد عبد الله دراز ودوره في خدمة الإسلام" كتب فيها عدد من الباحثين، وستوزع الجوائز على الفائزين في وقت قريب بعون الله تعالى. 

وفاته :

استمر فضيلته في نشاطاته المختلفة عاملاً، وباهتماماته في معالجة الشؤون الإسلامية ، وظل علي هذا الحال حتى صعدت روحه الطاهرة إلي بارئها غريباً عن وطنه، وهو يمثل الأزهر في مؤتمر دولي عام في لاهور بباكستان عشية يوم الاثنين السادس عشر من شهر جمادى الآخرة سنة 1377هـ، الموافق للسادس من شهر كانون الثاني سنة 1958م.

وبعد أن عاد جثمانه إلي مصر علي متن طائرة، شيعت جنازته بعد أن صٌلي عليه في الجامع الأزهر، وكان في مقدمة مشيعيه علماء الأزهر، وقد كان موكباً مهيباً يمتلئ بالجلال رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

وسوم: العدد 821