الداعية المجاهد أحمد الخطيب

المستشار عبد الله العقيل

 (1333 - 1418ه /  1914 - 1997م)

 

معرفتي بالأخ المجاهد العامل الداعية أحمد محمد الخطيب كانت في الخمسينيات، عند أول زيارة قمت بها إلى الأردن، وكنت أسمع عنه قبل لقائي به من بعض إخوانه رفقاء الدرب في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، ومن خلال ما قرأته عن جهاد الإخوان المسلمين في الأردن ضد الإنجليز واليهود، وكان في مقدمة هؤلاء المجاهدين الأخ أحمد الخطيب.

فهو من رجال الرعيل الأول المؤسس لحركة الإخوان المسلمين في الأردن، حيث تأثر بالإمام الشهيد حسن البنا، وأعجب بحركته الإصلاحية وارتبط بها.

أخلاقه وصفاته

لقد كان (رحمه الله) مثال الأخ الصادق، والمؤمن العامل، والمجاهد الصابر الذي فقه الإسلام حق الفقه، وترجم هذا الفقه إلى واقع عملي يعيش فيه وسط الناس، يدرسُ مشكلات المسلمين ويعمل على علاجها، ويجاهد الأعداء بتخطيط وإحكام، وعزم وتصميم، وقد توثقت صلتي به، بحكم الرباط العقدي والعمل الدعوي، والاهتمام بنشر الكتب الإسلامية، وبخاصة رسائل البنا، وكُتب سيد قطب الذي سمى أحد أبنائه على اسمه، وغيرها من الكتب الهادفة التي تنير عقول الشباب، وتبيِّن محاسن الإسلام، وتهيب بالأمة للالتزام بشريعة الله، والتي يعمل على نشرها من خلال (مكتبة الأقصى) وأعمل أنا على اقتنائها وترويجها لدى العاملين في حقل الدعوة الإسلامية.

أذكر أنني وبعض إخواني في أوائل الستينيات احتجنا إلى الرجوع إلى جريدة الإخوان اليومية التي كانت تصدر بمصر أواخر عام 1946م، ثم توقفت بقرار الحل في 8 ديسمبر 1948م، فلم نعثر عليها عند كثير من الإخوان، ولكن وجدنا بعض أعدادها لدى الشيخ عبد الرزاق الصالح، والشيخ عبد العزيز العلي المطوع بالكويت، وأكثر الأعداد حصلتُ عليها من الأخ أحمد الخطيب (رحمه الله)، ثم عثرنا عليها كاملة من أول صدورها إلى توقفها لدى مكتبة الجامعة الأمريكية في بيروت.

إنَّ الخُلق الفاضل، والأدب الجم، والصدق، والوفاء، والعمل الصامت الذي يتميز به الأخ أحمد الخطيب كان مثار الإعجاب والتقدير لدى إخوانه ومحبيه، فهو لا يحب الظهور، ويؤثر البعد عن الأضواء، والعمل الهادئ، وهو مجاهد من الطراز الأول، فيه الرجولة والشجاعة، والإقدام والجرأة، لا يتردد ولا يضعف ولا يخاف، ولا يهاب، بل من صفاته الجرأة والإقدام والعزم والتصميم.

مواقف جهادية

كتب عنه الأستاذ زهير الشاويش في جريدة "الدستور" يقول:

"... نشأ معلمًا مع والده القارئ المدرس في المدرسة الابتدائية في "إربد"، وسار في ركاب ثورات البلاد الشامية على الانتداب البريطاني والفرنسي وعلى الغزو الصهيوني والاستيطاني المدعوم من الإنجليز بالدرجة الأولى، وكان هناك خط لأنابيب النفط مار بالقرب من مدينة (إربد) إلى مدينة (حيفا)، ومنها إلى أول وأكبر مصفاة للنفط على شرقي البحر المتوسط، فقام أحمد الخطيب وإخوانه المجاهدون من السوريين والأردنيين بنسف تلك الأنابيب في الصحراء وفي داخل الأراضي الفلسطينية خلال السنوات 1936 - 1941م، وكانت بريطانيا تظن أن هذا العمل قام به ضباط عراقيون أو فلسطينيون تدربوا في ألمانيا بمساعدة الحاج أمين الحسيني، مما أبعد الأنظار عن الخطيب وإخوانه، وحتى اليوم لم يُعلم أن الذي أوقف النفط عن حيفا مرات ومرات كان الأستاذ الخطيب وصحبه، كما اشترك في معارك شمالي فلسطين في ثورات 1936 - 1939م، ثم شارك عام 1948م في حرب اليهود مع إخوانه عبد اللطيف أبو قورة، وممدوح الصرايرة، ومشهور حيمور وغيرهم في معارك (صور باهر)، و(القدس)، و(القطمون)، وأصيب بشظايا قنبلة ورصاصات رشاش، فأدخل المستشفى الوطني بدمشق للعلاج من آثارها، وبقي فترة طويلة، وبعد الشفاء عاد إلى الأردن ليواصل العمل الإسلامي مع إخوانه محمد عبد الرحمن خليفة، ويوسف العظم وغيرهما...." انتهى.

هذا جانب من جوانب شخصيته الجهادية التي عايشها الأخ الأستاذ زهير الشاويش، وتحدث عنها حديث العارف البصير، ولست أنسى له مواقفه الكريمة في اللجنة التي تشكلت وخططت للعمل الجهادي 1968م، وأسهمت في إخراجه إلى حيز الوجود، حيث عمل مع إخوانه أبي عمرو وأبي أسامة، وأبي أحمد، وأبي طارق، وأبي بدر وغيرهم، وبذلوا الجهود المضنية ليستمر الجهاد ضد اليهود لإزالة اليأس والإحباط الذي كاد يصيب المسلمين نتيجة الهزيمة الكبرى التي تسبب بها الحكام المتسلطون على شعوبهم الذين فرت جيوشهم كالأرانب أمام أبناء القردة والخنازير من يهود.

لقد كان أحمد الخطيب علمًا من أعلام الإسلام المعاصرين، ومجاهدًا من المجاهدين الأبطال، وداعية من دعاة الإسلام، وقائدًا من قادة الإخوان المسلمين في بلاد الشام لا يعرفه حق المعرفة إلا الرعيل الأول، والجيل المؤسس لكبرى الحركات الإسلامية في هذا العصر.

يقول الأستاذ يوسف العظم في جريدة (السبيل):

"كنت في الخمسينيات شابًا في عنفوان الشباب، وكان أحمد الخطيب رجلاً مكتمل الرجولة، راجح العقل يجلس في مكتبته في إربد التي يرتادها الشباب لشراء الكتب وبخاصة الإسلامية، وكان البعض يظنونه مجرد صاحب مكتبة يبيع الكتب، وما كانوا يعلمون أنه كان يلتهم تلك الكتب التهامًا، يغذي بها عقله، ويمتِّع بها روحه، مما جعل منه رفيق كتاب، حكيم تجربة، فقيه مطالعة، وكان في طليعة الرواد الأوائل العاملين والمجاهدين ضد الحركة الصهيونية والوجود البريطاني في الأردن وفلسطين على حد سواء" انتهى.

إن حركة الإخوان المسلمين المباركة التي أسسها مجدد القرن الرابع عشر الهجري الإمام الشهيد حسن البنا، قد قدّمت الكثير من النماذج الرائعة على مستوى العالم العربي والإسلامي، وكان هؤلاء الدعاة صورًا صادقة عن الإسلام في فقههم وعملهم وجهادهم وصبرهم وصدقهم وإخلاصهم، كما أن آثارها جد واضحة في هذه الصحوة الإسلامية التي تنتظم العالم الإسلامي كله، وهذا الإقبال من الشباب على الإسلام وحمل رسالته، وانتشار الكتاب الإسلامي، والشريط الإسلامي، والزيّ الإسلامي، والبنوك الإسلامية، وعمارة المساجد، وفتح المدارس الإسلامية والأندية، والنقابات المهنية، والاتحادات الطلابية التي يمثل مكان الصدارة فيها أبناء الحركة الإسلامية المعاصرة، فضلاً عن هيئات الإغاثة الإسلامية وهيئات الدعوة الإسلامية، وحركات الشباب الإسلامي، والجهاد الإسلامي في فلسطين وكشمير والفلبين وغيرها.

ولا شك أن هذه النهضة الإسلامية تباشير خير لعودة الأمة إلى دينها، رغم العراقيل والعقبات التي تصنعها القوى المعادية للإسلام، وإن المعركة طويلة بين الحق والباطل والحرب سجال بين دعاة الخير ودعاة الشر، ولكن العاقبة دائمًا للمتقين، وهذا الدِّين سينتصر على أعدائه بإذن الله، إذا أحسن المسلمون التوكل على الله وأخلصوا عملهم لله، وأخذوا بالأسباب التي أمر الله بها عباده المؤمنين.

وما هذه القوافل من الشهداء الذين قدمتهم الحركة الإسلامية المعاصرة إلا دليل على صدقها وأصالتها، وإخلاصها ونقائها، ولن يضيرها أن يسقط البعض أو يتخاذل أمام الترغيب أو الترهيب من قوى البغي والعدوان الذين يريدون القضاء على الإسلام والمسلمين وتجفيف منابع الدين كما يزعمون أو يحلمون، فالإسلام قادم لا محالة، رغم كل الطغاة والبغاة والمتسلطين والمستكبرين، والإسلام دين محفوظ باق بحفظ الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر: 9).

يقول العلاّمة الكبير الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه (المبشرات بانتصار الإسلام) عن المحن التي يتعرض لها دعاة الإسلام في كل مكان وعصر:

"إن هذه المحن الشداد التي تُصب على رؤوس الدعاة إلى الإسلام، والضربات القاسية التي تنهال عليهم من هنا وهناك، ليست علامة ضعف أو موت لدعاة الإسلام، بل هي دليل حياة وحركة وقوة، فإن الميت الهامد لا يُضرب ولا يُؤذَى، إنما يُضرب ويُؤذَى الحيّ المتحرك المقاوم. إن الدعوة التي لا يُضطهد أصحابها ولا يُؤذى دعاتها، دعوة تافهة أو ميتة، أو أن دعاتها - على الأقل - تافهون ميتون، ثم إنّ هذه المحن والاضطهادات برهان على حيوية المبدأ نفسه "مبدأ الإسلام"، فهو يقدم كل حين شهداء في معاركه، يروون شجرته بدمائهم، ويبنون صرح مجده بأشلائهم، وهذه المحن أبلغ مُعَلِّم وأعظم مربٍّ لأصحاب الدعوات باعتبارهم أفرادًا تصفو أنفسهم بالشّدة، وتتمحص قلوبهم بالمحنة" انتهى.

كبرى الحركات الإسلامية

ويقول د. محمد السيد الوكيل في كتابه: (كبرى الحركات الإسلامية في القرن الرابع عشر الهجري):

"... إن الإمام الشهيد حسن البنا تصدى لكل المفاهيم الخاطئة ووقف يتحداها بإيمان تَنهدُّ أمامه الجبال الرواسي، تحدى الزعماء السياسيين بالمفاهيم السياسية الأصيلة في الإسلام، وتحدى رجال الاقتصاد بالنظم المالية في صريح القرآن، وتحدى علماء الاجتماع بالأسس التي بنى عليها القرآن المجتمع الإسلامي، وتحدى النظريات التربوية أن تصل في أصالتها إلى تربية القرآن، وتحدى حضارة الغرب بإظهار مفاسدها وما جرّته على العالم من الوبال والدمار" انتهى.

ويقول ماجد رسلان في جريدة (اللواء) عن المجاهد أحمد الخطيب:

"كان - سباقًا مبرزًا في أعمال البر والإحسان، وما أكثرها وأكثر تشعباتها وبخاصة أيام التردي والهوان، كما كان من الذين إذا حضروا لم يُعرفوا، وطالما وقفت الزعامة ببابه تحاوره وتجادله ليتسلَّم قيادها، ولكن جنديته تأباها وتنفر منها وهي تتشرَّف به ولا يتشرف بها" انتهى.

تلك صفحة مشرقة من جهاد الدعوة الإسلامية في الأردن منذ نصف قرن، أسهم في إرساء قواعدها وتسجيل مآثرها الأخ الحبيب المجاهد والمؤمن الصابر أحمد محمد الخطيب وإخوانه الكرام أهل السابقة والجهاد، وهي صفحات مكملة للصفحات المشرقة التي سطرها إخواننا المجاهدون والدعاة المخلصون الصابرون في أرض الكنانة وبلاد الشام والعراق:

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } (الأحزاب: 23).

وفاته:

ولقد اختاره الله إلى جواره يوم السبت (التاسع من شهر صفر 1418ه الموافق 14/6/1997م) وهو في الخامسة والثمانين من عمره، وقد شيّعه إخوانه ومحبوه وعارفو فضله وجهاده في موكب مهيب، ضمّ المئات من داخل الأردن وخارجها، حيث دفن في مقبرة (سحاب) في عمان.. رحم الله المجاهد والداعية أبا محمد وأسكنه فسيح جناته وغفر الله لنا وله ونفع الله بآثاره وذريته.

وسوم: العدد 841