مقيل العثرات، الحاج رسلان علي الخالد (أبو علي)

المستشار عبد الله العقيل

 (1337 - 1404هـ / 1919-1984م)

توطئة

إن هذا الوصف الذي أُطلق على الحاج رسلان الخالد، ليس فيه تكلّف أو مجاملة أو تزلّف، بل هو التعبير الصحيح لوصف الرجل بأخص خصائصه، ألا وهي نجدة الملهوف، وإغاثة المحتاج، والقيام على شؤون الفقراء، والأُسر المستورة، والأرامل، والأيتام، والسعي لتشغيل العاطلين عن العمل، وتقديم المال لسداد ديون الغـارمين، والمشي بحاجة إخـوانه المسلمين أينما كانوا، ومن أي بلدٍ قـدموا.

يتحرك بالليل والناس نيام، ويتلمس حوائج الناس، ويُقدِّم العون في الخفاء، بعيدًا عن الرياء، ويسعى للصغير والكبير على حد سواء، وهذا كان شأنه في بلدته «سلمية» في سورية، قبل مغادرته إلى الكويت.

معرفتي به

ولقد عرفته في الكويت بعد قدومي إليها واستقراري بها عام 1959م، حيث قدم هو في نفس العام، وعرفت معه مجموعة خيِّرة تسعى مثلما يسعى، وتعمل متطوعة في مجال خدمة المسلمين، دون كلل أو ملل، ومن هؤلاء الدكتور سعيد النجار، والأستاذ محمد عبد الحليم الشيخ، والمهندس محمد حلمي الكاشف وغيرهم.

إن الحاج رسلان الخالد من بلاد الشام، ومن مواليد بلدة «سلمية» عام 1919م، عرفته مع الحاج محمد الطحان «أبو إبراهيم»، والحاج بكور، والشيخ علي القطان، الذين سعدنا بهم في الكويت، ورأينا من أفعالهم الخيِّرة وجهودهم المباركة ما يشرح الصدر، بأن أمة الإسلام ما زالت بخير والحمد لله.

إن الحاج رسلان الخالد، واسع الاتصالات مع معظم الشخصيات في الكويت، ومعروف لديهم بالصدق والأمانة والإخلاص والوفاء والشهامة والرجولة، وهو محل الثناء لدى الجميع، وموضع الثقة لدى المسؤولين، لأنه لا يعمل لنفسه قط، وما سأل أحدًا حاجة لشخصه.

صفاته

رجل بسيط في مظهره، نظيف في ملبسه، عليه الوقار، وفيه الصفاء، يغشى مجالس العلم، ويحب العلماء والدعاة، ويساعد طلبة العلم، والراغبين في الزواج، والباحثين عن العمل، ويسعف المرضى، ويحضر الجنازات، ويقدِّم المعونات، وكان (رحمه الله) يُسمي المجموعة التي تتعاون معه «جماعة إقلاق الراحة»؛ لأنه يطرق الأبواب في الليل أو القيلولة، وهو وقت الراحة للاستعانة بالمطروقين، لإنجاد ملهوف، أو مساعدة محتاج، أو حلِّ مشكلة عويصة، أو معضلة من المعضلات.

وكان من المترددين على (ندوتنا الأسبوعية) مساء الجمعة، حيث يطرح - بعد الدرس - ما يطلب المساهمة في دعمه من الأمور الإنسانية والحاجات الضرورية للمسلمين والعوائل المستورة، فينطلق مع المتطوعين من الإخوان الراغبين في الأجر والثواب، يحملون الطعام والكساء والمال إلى ذوي الحاجة من المسلمين الفقراء والمعوزين، الذين يحسبهم الناس أغنياء من التعفف، مع أن بعضهم لا يجد قوت يومه.

إن الحاج رسـلان الـخالد مثـلٌ من الأمثـلة الرائعة، ونمـوذج مـن الـنمـاذج الصادقة، التي تدل دلالة واضحة على أن الخير بـاق في أمة الإسلام إلى يوم القيامة، وأن المسلمين - رغـم ما فيهم ومـا يحيط بهم، وما يُدبَّر لهم ـ لا تخلو مجتمعاتهم من أمثال الحاج رسـلان، المسلم الصادق، والعامل الزاهد، والمجاهد الصابر، الذي ضـرب أروع الأمثلة في عمله الصامت وجهـده المبارك، فهو لم يكن من كبار الـعلماء ولا من ذوي الـجاه، ولـيس من أصحاب المال، أو النفوذ، أو التجارة، بل كان رجـلاً يعيش على الكفاف، ولم يتزوج، لأن عمل الخير شغله عن أي شيء آخر، وآثـر أن يكون مِلكًا للمسلمين، فهم إخوانـه وأولاده، وخدمتهم هي أمله ومبتغاه، وما يرجوه عند الله.

خصال نادرة

لقد كنتُ قريبًا منه، وكان قريبًا مني، وعرفتُ فيه من الخصال والصفات ما تمنيتُ أن يكون بعضها عندي، فهو متوكل على الله غاية التوكل، لا يرد يد سائل، ولا يتأخر عن قضاء حاجة مسلم، جاءني مرة طالبًا شفاعتي لدى مسؤول كبير، لحل مشكلة مجموعة من ذوي الحاجات، وكان وقت الدوام الرسمي موشكًا على الانتهاء، فطلبتُ منه تأجيله إلى الغد، فقال بأن الأمر لا يحتمل الإرجاء، وتأخيره قد يؤدي إلى ضرر بالغ بهم، فقلتُ إن المسؤول صاحب مزاج، وكان بالأمس على غيـر مـا يـرام، وأخشـى إن أعطيتُك التوصيـة ألاّ يستجيب. فقال (رحمه الله): اكتبها وعجِّل بالأمر، وسأذهب إليه بها، والله يفعل ما يريد، فاستجبتُ وكتبتُ التوصية، فأخذها مسرعًا وأدركه قبل خروجه من مكتبه، وببركة دعاء الحاج رسلان استجاب المسؤول لطلبهم جميعًا دون استثناء أحد، وهذا على غير عادته، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده.

لقاؤنا في موسم الحج

وأذكر أنني كنتُ مرة في أحد مواسم الحج مع الأخ الكريم الشيخ إبراهيم الناصر، وبينما نحن في رمي الجمار، أضاع كل منا صاحبه، وكان معنا الحاج رسلان الخالد، وهو رجل طويل القامة، تعلو قامته الرؤوس، فما كان منه إلا أن صوَّب نظره في الحجاج الذين يرجمون الجمار، ثم التفت إلى الشيخ الناصر، وقال: انتظر يا أبا عبد العزيز، فسوف آتي لك بصاحبك أبي مصطفى، وبالفعل ما شعرتُ إلا ويد الحاج رسلان تهبط عليَّ بين الجموع، وتمسك بعضدي، ويصحبني إلى حيث يقف الشيخ الناصر، ونذهب جميعًا ونحن في فرحٍ وسرور، ونقول للحاج رسلان مازحين: وهذه من فوائد طول القامة بعد طول يدك في أعمال الخير يا أبا علي.

كان الدكتور عيسى عبده إبراهيم أقام فترة طويلة في الكويت، للتحضير لإنشاء بنك إسلامي غير ربوي، وكان طيلة بقائه في الكويت يحضر «ندوة الجمعة»، ويشارك في موضوعاتها، ويتحدث إلى روادها، وكان من عادتنا بعد الدرس أو المحاضرة أو الندوة، أن نسأل الحضور عن أخبارهم ومشكلاتهم، لنتعاون في تقديم الحل المناسب لها، ثم يتلو ذلك تبادل النكت والطرائف، وكان من البارزين في هذا الميدان د. عيسى عبده، والأستاذ عبد الحليم خفاجي والحاج رسلان في بعض الأحيان وهكذا نعيش في أجواء العلم والعمل والسرور والأخوَّة الإسلامية.

في إحدى ديوانيات الجمعة تركنا للشيخ الحاج بكور، أن يُحدثنا عن جهوده في الدعوة إلى الله وبخاصة في سورية، فتكلم بإفاضة عن جهوده المباركة، حتى إنه كان يذهب للوعظ والإرشاد في بيوت الخنا، حيث يتحدث إلى النساء المنحرفات بأسلوب يأسرهن ويستولي على قلوبهن، ويخاطب الفطرة في نفوسهن، فلا يلبثن أن ينخرطن في البكاء والنحيب والندم، فيُرغِّبهُن الشيخ بالتوبة، وأن بابها مفتوح، وأنه سيأخذ التائبة منهن إلى طريق الخير، ويؤمِّن لها مستقبلها، وقد هدى الله على يديه الكثير من العاصيات، فَعُدن إلى جادة الصواب، وقد أكد الأمر وثنَّى عليه الحاج رسلان لمعرفته بالشيخ بكور.

أما قصص الشيخ الحاج رسلان مع الأَخوين الكريمين الأستاذ محمد عبد الحليم الشيخ الموجِّه العام بوزارة التربية، والمهندس محمد حلمي الكاشف فهي كثيرة وكلها في السعي لقضاء حوائج الناس، وكذا الشأن مع الدكتور سعيد النجار، رحم الله الجميع وجزاهم الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

قالوا عنه

يقول عنه الأستاذ عبد الله شبيب - المحرر بمجلة «البلاغ» الكويتية:

«... لقد هجر الحاج رسلان الخالد موطنه الأصلي فكانت هجرته لله، وعرفته الكويت وأهل الخير فيها، منارًا للخير والبر، يعيش لغيره أكثر مما يعيش لنفسه، ولم يعتنِ بجمع الحطام، ولا بالعمران والمال، وحين انتقل إلى جوار ربه، وُجدت في سجله مئات الأسر الفقيرة التي كان يَسُدُّ حاجتها».

القيامة قد قامت

ويقول عنه د. عادل حسون، وهو من بلدة الحاج رسلان:

«... قضى الحاج رسلان الخالد جزءًا مهمًا من حياته في مسقط رأسه «سلمية» يدعو إلى الله، ويجاهد الإسماعيلية الآغاخانية، الذين حاربوه، حتى رموه بالحجارة وأدموه، وقد رأيتُ بأم عيني الحجارة الكثيفة المركزة على محله التجاري، حتى ليخيل إليك أن القيامة قد قامت، وهو رابط الجأش، واثق بالله، صابر محتسب، وقد دفعه هذا الظلم والعدوان إلى الهجرة في سبيل الله إلى الكويت يوم 27/3/1959م، داعيًا ومجاهدًا، وساعيًا في الخير لكل الناس، فالتف حوله الكثيرون من أهل الخير من الكويتيين وغيرهم، واستجابوا لدعوته، وآزروه بالمال الكثير، لتوزيعه على ذوي الحاجات من الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام والمعوزين في الكويت وخارجها».

ويحدثنا الدكتور زهير الخالد فيقول:

«... جاء الشيخ حسين الخالد جَدُّ الحاج رسلان إلى (سلمية) وفتح مدرسة لتعليم القرآن الكريم وزاوية للصلاة لمقاومة الدعوة الإسماعيلية الآغاخانية المدعومة من الهند، حتى إنه لم يكن يصلي خلفه في البداية سوى أربعة من أهل السُّنَّة، في الوقت الذي تحوَّل فيه الكثيرون عن دينهم، وتعرَّض الشيخ حسين للقتل أكثر من مرة، وقتلوا أحد أولاده، وهو عمُّ الحاج رسلان الخالد، وبعد وفـاة الشيخ حسين تعاون ابنه الحاج رسـلان مع الحاج رضـا المعصراني، والشيـخ عبد الفتاح الدروبي، حيث بنوا مسجدًا جامعًا في سلـمية بدل الـزاوية الصغيـرة التي كان يصلي فيها جـدُّه، كما تعـاون مع الـدكتور مصطفى السباعي، ومحمد المبارك وكانـا عضـويـن في المجلس النيابي السوري في اختيـار الـمعلمين والـمعلمات من أهل السُّنَّة والـجماعة للتـدريس في مـدارس (سلمية)، مما كان له الأثـر في تبصيـر التـلاميذ بحقيقـة الإسلام، وكشف ضلال الإسماعيلية، ممـا أغـاظ رؤوس الطائفـة التي كانت تتـربص به لاغـتياله حتى هـاجر إلى الكـويت» انتهى.

موقف

أذكـر مـرة أن الحاج رسـلان الخالد اتصل بي، وطلب مساهمـة شقيقـي الأخ يوسـف العقيل (رحمه الله) في التنـازل عن حق له لـدى شـخص ضعيـف، فكلمتُ أخي فاستجاب للرجاء لما يعرفه في الحاج رسلان من المروءة والنجدة.

دعم الكويتيين له

لقد كان الكرام من أهل الكويت في تعاون مع الحاج رسلان، بل يدعمونه ويشدّون من أزره لأنهم قد جرَّبوه، فوجدوا فيه الصدق والإخلاص والجدّ والمثابرة، فكانوا يبذلون بسخاء ويرفدون أعمال الخير التي يقوم بها لأنهم لمسوا آثارها الطيبة المباركة، ومن هؤلاء الكرام نذكر الإخوة: عبد العزيز علي المطوع، ويوسف جاسم الحجي، وحسن الجار الله، وأحمد بزيع الياسين، وعلي عبد العزيز الخضيري، والسيد يوسف الرفاعي، وعبد الله العلي المطوع، ومحمد العدساني، ومحمد بودي، وعبدالله سلطان الكليب، وغيرهم كثير ممن لا أذكرهم ولكن الله يعلمهم.

إن الجهود المباركة التي قام بها الحاج رسلان بالكويت، هي التي شاهدناها وعشناها، أما جهوده في سورية فحدّث ولا حرج، فقد حدثني زملاؤه والثقات من إخواننا بأنه أفنى عمره في الدعوة إلى الله وعمل الخير، في مجالاته المختلفة، وقد هدى الله على يديه خلقًا كثيرًا من الناس لأن بلدته «سلمية» كان فيها عدد كبير من الإسماعيلية وهم فئة خارجة عن الإسلام، وإن ادعت انتسابها إليه، فكانت جهوده مع الدعاة إلى الله جهودًا مكثفة أثمرت نتائج طيبة، حيث دخل الإسلام وعاد إليه أفراد وأسر كثيرة والحمد لله.

حرب... وتربص

كما أن بناء المساجد شمل معظم المناطق التي تسكنها طائفة الإسماعيلية، وانتشر العلم الديني، وحفظ القرآن الكريم والالتزام بمنهج أهل السُّنَّة والجماعة، وقد حاربه المتطرفون من الطائفة وتربَّصوا به أكثر من مرة لاغتياله، ولكن الله نسأ في أجله وحفظه ورعاه، وكانت هجرته إلى الكويت خيرًا وبركة، حيث وَجَدَ من الإخوان المسلمين كل الحب والتقدير، والمؤازرة والمناصرة، والدعم والتأييد، واجتمعت القلوب، وتضافرت الجهود، وتحقّقتْ الأخوَّة الإسلامية بأجلى معانيها، وذابت الجنسيات والأعراق، وارتفعت راية الدين على راية الطين، وأخوَّة العقيدة على رابطة النسب، فكان العمل لله وفي سبيل الله والمستضعفين من المسلمين رجالاً ونساءً وولدانًا.

وفاته

وقد توفي في الكويت يوم 25/12/1984م، حيث خرج في جنازته جموع من المشيعين لم تشهد الكويت مثل أعدادهم، يمثلون أهل الكويت والمقيمين فيها من كل الطبقات ومختلف الأقطار، مما يعتبر شهادة بصلاحه، وتزكية لجهوده، وعرفانًا بفضله، وتلك ولا شك بركة العمل الصالح والمشي في حوائج الناس والمستضعفين من المسلمين.

نسأل المولى الكريم أن يتقبل شيخنا الحاج رسلان في عباده الصالحين، وأن يغفر لنا وله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وسوم: العدد 850