الدكتور يسري أبو سعدة وذكراه العطرة في قلوبنا

 

   كان سليم القلب، دائم النصح، واسع الصفح، باسم الثغر، عظيم البشر، محبا للخير، واسع البذل، كريم العطاء، يجمع بين الثقافة الشرعية والقانونية، بفضل البيئة الصالحة التي نشأ فيها، والأسرة المحافظة التي تربي في ظلالها، وقد أهّله ذلك كله لتقديم أبحاثه العلمية مقارنة بين القانون التجاري والفقه الإسلامي، وفي مقدمتها رسالته للدكتوراه من جامعة الأزهر حول " الإفلاس وأثره في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي "، إنه أستاذنا العزيز المرحوم د. يسري إبراهيم أبو سعدة .  

لقد ألزمتني الأيام بأن أدفع بخصوصه ضريبة الغربة مرتين، الأولى عندما رحل شقيقه الأكبر إلى لقاء ربه المرحوم د. عبدالحميد إبراهيم أبو سعدة، ولم أكن أعلم حينها بموته، وعندما قابلته في الإجازة الصيفية بعد فترة فاجأني بخبر وفاته، وعاتبني في عدم تقديم العزاء له، ويعلم الله أني لم أكن أعلم بهذه الوفاة قبل ذلك، ولم يكن يدور بخلدي أني سأدفع ضريبة الغربة في المرة الثانية وفي أمر وفاته شخصيا، فلقد وافاه الأجل هو الآخر وأنا في البحرين لا أدري عن أمر رحيله شيئا إلا بعد مدة ليست بالقصيرة. ويصدق في مخاطبته رحمه الله قول القائل:  

كنا نؤمل أن نراك وإن نأى       بك منزل عنا وأنت ترانا

حتى إذا كتب الإله قضاءه         فارقتنا فتعذرت لقيانا

تمضي بنا الأعوام يطوي بعضها    بعضا ويطوي طيُّها الإنسانا

مر الزمان كأنما هو لحظة        جمعت ثوانيها لنا الأزمانا

وكأنما هو طيف حلم عابر             لما تعلقنا به جافانا

هل تلتقي الأرواح، ذلك علمه      عند المهيمن خالقا منانا

لم تتوطد علاقتي به رحمه الله تعالى إلا في أعوامي الدراسية الأولى في كلية الشريعة والقانون بدمنهور، عندما تم تعيينه مدرسا مساعدا في بداية حياته الأكاديمية الجامعية بجامعة الأزهر، وفي الفرقة الثالثة تقريبا عام 1984 كان يدرسني قاعة البحث في القانون التجاري، وفي قاعة الدرس عرفني، ولأنه كان كريما قال لي على الفور: هل اشتريت كتاب القانون التجاري، فقلت له: لا . قال: سأحضره لك المحاضرة القادمة . وأحضره بالفعل، وكانت هدية ثمينة بالنسبة لي، أذكر أني سعدت بها سعادة لا توصف، إذ إن ثمن هذا الكتاب الضخم كان يمثل لي ثقلا وعبئا أحيانا فوق طاقتي.  اسأل الله أن يسعده في آخرته لقاء إسعاده لي في الدنيا.

وقد يرى البعض هذا العمل صغيرا لا يستحق الذكر، لكنه في الحقيقة كان عملا كبيرا وعظيما على الأقل في مثل حالتي، ويؤكد ذلك قول النبي  صلى الله عليه، وسلم: " أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، و أحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا، و لأنْ أَمْشِي مع أَخٍ لي في حاجَةٍ أحبُّ إِلَيَّ من أنْ اعْتَكِفَ في هذا المسجدِ ـ  يعني مسجدَ المدينةِ ـ شهرًا" . ومن ذكرياته الطيبة ومواقفه الغالية التي لا تنسى في نصحه وإرشاده، وكان لها أكبر الأثر في حياتي، عندما تم تعييني معيدا في ذات الكلية، وجاءتني بعدها فرصة التعيين في مجلس الدولة " القضاء الإداري في مصر "، وكان لمجلس الدولة بريق لا يوصف، وخصوصا عندما كنت أقارن راتب مجلس الدولة براتب المعيد في الجامعة، كان الفرق بعيدا، والبون شاسعا، وفي مجلس الدولة يأخذ الإنسان مكانته في المجتمع من أول يوم يتم تعيينه فيه، أما وظيفة المعيد فكانت تتطلب بعدها جهادا مريرا من الحصول على الدراسات العليا ثم الماجستير ثم الدكتوراه حتى تبدأ في استقرار حياتك، ويومها قابلني في مكتبة الكلية في الطابق الثاني، وقال لي: إن طريق الجامعة طويل لكن له ما بعده، وستعيش في ظلال العلم بعيدا عن خطورة القضاء، وإن مثل هاتين الوظيفتين كمثل رجل يبني بيتا، فإن أراده طابقا أو طابقين يكفيه أساس بسيط، أما لو أراده برجا كبيرا وبناء ضخما فلابد أن يضع من الأساس ما يناسب هذا البناء الضخم ، والعمل في الجامعة كالبناء الضخم الذي يحتاج إلى هذا الأساس المتين، أما العمل في مجلس الدولة فهو بناء متواضع بالنسبة للجامعة لا يحتاج إلى هذا الأساس الضخم، لقد أقنعني رحمه الله بمسيرتي الجامعية التي أسعد بها اليوم، وأحمد الله تعالى أن ابتعدت بها عن منصب القضاء وقد ورد في خطورته أنه ذبح بغير سكين . استاذنا الكريم المرحوم بإذن الله تعالى د. يسري ، لقد قدمت لي النصائح والمواعظ وأنت في دار الفناء، والآن تقدم أيضا أعظم المواعظ وأنت في دار البقاء، ومن مواعظك اليوم وأنت بين يدي الله عز وجل، أن الدنيا لا تساوي شيئا، وأنها مهما طالت فهي إلى فناء، ولن يبقى للإنسان إلا عمله الصالح وذكراه العطرة، ويصدق في ذلك قول أبي العتاهية: طوتك خطوب دهرك بعد نشر        كذاك خطوبه نشرا وطيَّا وكانت في حياتك لي عظات       وأنت اليوم أعظم  منك حيَّا رحم الله أستاذنا العزيز، وأسكنه فسيح جناته، وأنزله الفردوس الأعلى، وألحقنا به على خير حال. كما اسأل الله تعالى أن يبارك في ذريته وأن يعلي شأنهم، ويرفع قدرهم، وأن يلهم كل ذويه الصلاح والرشاد.

وسوم: العدد 860