الشيخ الداعية المفكر أبو العرفان خان الندوي

gfgff10421.jpg

(1341 - 1409 ه‍ـ / 1923 - 1988 م)

من علماء الهند البارزين.

جمع بين الدراسة الواسعة للكتاب والسنة وعلومهما ولا سيما التفسير، وبين التاريخ، والفلسفة والمنطق وعلوم المعاني والبيان، والأدب والشعر والعلوم الاجتماعية، مع الانفتاح على الأوضاع الحاضرة والمتطلبات المعاصرة، بالإضافة إلى الأهلية الإدارية والذكاء العجيب، والذاكرة القوية.

المولد والنشأة:

ولد الشيخ العلامة أبو العرفان الندوي في جونفور الواقعة ضمن ولاية أتر برديش في الهند 1341هـ/1923م.

ونشأ في أسرة مسلمة ملتزمة تحب العلم، وتحترم العلماء، فقد كان أبواه عالمين، فتلقى عنهما، وظهر عليه علائم النبوغ منذ صغره.

الدراسة، والتكوين:

   التحق بدار العلوم بديوبند، وبها تعلم العربية، والفارسية.. وغيرها، ولم يحصل على شهادتها.

بل رجع إلى بلده، فدرس على أبيه العلوم الشرعية، ثم التحق بدار العلوم لندوة العلماء بالهند، فتعلم بها ثلاث سنوات.

   وسافر إلى بنارس ودربنكه، فاستكمل ما نقصه من العلوم العقلية، وقصد دار المصنفين لسليمان الندوي، فدرس تحت إشرافه الفلسفة والمنطق والكلام.

الوظائف، والمسؤوليات:

وبعد أن تضلع بالعلوم والمنطق عين مدرساً بندوة العلماء، فرئيساً لكلية الشريعة وأصول الدين فيها، ووقف حياته على التدريس والبحث، وأتقن العربية والفارسية والأردية.

وكان مرجعاً لأهل العلم في العلوم الإسلامية والتاريخ والمذاهب.

وقد شغل في دار العلوم ندوة العلماء أستاذاً وعميداً، عبر ٣٥ عاماً، سوى فترة قصيرة قضاها في كشمير.

   وقد خلّف تلاميذ كثيرين أثر فيهم بعلمه الغزير، وأثار فيهم ذوق الدراسة، وزودهم بالشعور الثقافي.

وكان له شغف بدراسة تراث ابن تيمية، وأحمد بن عبد الرحيم المعروف بالشاه ولي الله الدهلوي، وتاريخ الإسلام في الهند، والتاريخ الإسلامي العام.

وكان ممن قد جمع بين علوم الدين والدنيا.

gfgff10422.jpg

مؤلفاته:

   وله مؤلفات في علم الكلام والمنطق والتاريخ والسيرة، منها:

1- الأئمة الأربعة.

2- علم الكلام.

3- الثقافة الإسلامية في الهند: عبد الحي الحسني الرائي (ترجمة من الأوردية).

وفاته:

   توفي الشيخ العالم المفكر أبو العرفان الندوي في عام 1409ه‍ـ/ الموافق 1988م.

رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.

أصداء الرحيل:

العالم الموسوعي الشيخ أبو العرفان الجونفوري الندوي

(١٣٤١ ھ - ١٩٢٣م)/ (١٤٠٩ھ - ١٩٨٨م)

وكتب الشيخ العالم د. محمد نعمان الدين الندوي (لكناؤ، الهند) يقول عن شيخه أبي العرفان الندوي رحمه الله:

   أحد أبناء الندوة الأعلام، صاحب الذاكرة العبقرية، متوقد الفهم، ثاقب الفكر، واسع الاطلاع على المصادر والمراجع، مدرس ناجح قدير، إذا درّس أي كتاب من أي مادة، أشبع وأقنع، وإذا تحدث في أي موضوع أو فن، برّز فيه، وكأنه ابن بجدته، وصاحب القدح المعلى فيه.

   صحب العلامة السيد سليمان الندوي رحمه الله، ونهل من منهله، وقبس من علمه وفضله، وقرأ على الإمام الندوي رحمه الله، وحظي منه بالشفقة والثقة والاعتزاز .. اعتزاز الأستاذ بنبوغ تلميذه، أما الثقة بسعة ثقافته، فناهيك منها أن الأستاذ نفسه .. كان قد يراجع تلميذه في التثبت من أمور تتعلق بالتاريخ، أو الشعر، أو بعض المباحث العلمية ( كما أفادني بذلك بعض كبار المشايخ ممن كانت لهم صلة قريبة بكليهما ) .

ذاكرته:

   وأما ذاكرته فحدث عن البحر ولا حرج، فقد كان وُهب من الذاكرة المغبوطة ما جعله شامة بين الكثير من أقرانه من العلماء بعامة، والندويين بخاصة، فكان يُعرف بها، وهي -ذاكرته- كانت تُعرف به، ويُضرَب بها المثلُ، ولعل ذاكرته أبرز ما رزقه الله من المواهب والكفاءات، وهي - التي- رفعت قدره بين الكثيرين من معاصريه، وكانت تُذَكٌر بذاكرة العلماء السابقين ..

لا تذكر أمامه موضوعاً تريد الكتابة فيه، إلا ويحشد أمامك مظانه من المصادر والمراجع، التي تيسر لك أمرك، وتسهل لك مهمتك .

فذاكرته تختزن مئات من الكتب، ومئات من الأبيات، وسِيَرًا لمئات الشخصيات ..

أما حِفظُه الأبياتِ من العربية والأردية والفارسية .. فقلما رأيت مثله من يدانيه في ذلك .. كان رحمه الله يُدَرِّسنا البلاغة الواضحة، فكان لا يمر منه بيت، إلا وينشد -على الفور- ما يماثله -معنًى- بيتٌ - بل أبيات في بعض الأحيان- من الأردية أو الفارسية ..

تدريسه:

   قرأنا عليه جملة من العلوم والفنون، قرأنا عليه المنطق والفلسفة، والبلاغة الواضحة، وتفسير البيضاوي .

فأما المنطق والفلسفة، فكان لا يدرس كتاباً بعينه منهما، بل كان يملي -من خزينة مطالعته الوافرة، ودراسته المتنوعة الغزيرة، التي يعتمد فيها على ذاكرته التي كانت وعاء مليئا بالعلم والمعرفة، والمعلومات والأخبار - دروسهما علينا، و يشرح موضوعاتهما ومسائلهما شرحاً يسهل للطلاب فهمَها وهضْمَها وقبولها في انشراح وارتياح، لا على مضض أو ضجر .. ومعلوم أن كلا الفنّين جاف خشيب، ومضامينهما معقدة أو شبه معقدة، أو يظنها الذهن الجديد هكذا .. ، ولكن الشيخ أبا العرفان - رحمه الله- كان يشرحها شرحا يَستسيغه الطلاب، و يُحَوِّل جفاف الفنين خصباً، وتَعَقُّدَهما وضوحاً، وصعوبتهما يسراً بتدريسه البارع، وأسلوبه الماتع، وتَمَكُّنِه منهما كل التمكن .

مشاركته في المؤتمرات:

   كان كثيراً ما يدعى إلى الندوات والمؤتمرات، وكان حضوره فيها يشرّف القائمين عليها والمشاركين فيها معا ، سمعت أنه -عادة- كان يرتجل الكلام فيها، وإذا كتب لها مقالاً أو بحثاً، كتبه - أو أملاه - من ذاكرته، وهو في الطريق إلى المؤتمر، أو بعد أن يصل إلى المدينة التي يعقد فيها المؤتمر. أي لا يحتاج في كتابة البحث إلى المطالعة أو مراجعة الكتب، بل يثق بمطالعته السابقة وذاكرته النادرة.

   والمشاركون - إلى كونهم يسعدون بحضوره- كان منهم من يخاف حضوره؛ لأنه كان -بدراسته الواسعة- ينتبه إلى ما يعتري بعض البحوث والمداخلات من ملاحظات ومآخذ، فكان ينبه إلى الملاحظات، ويرد على المآخذ، ويصحح ما يحتاج إلى التصحيح، دون أي مراعاة لمكانة صاحب المقال أو منصبه، لأن شرف العلم فوق كل شرف، و حرمة الأمانة العلمية لأحرى وأولى بالرعاية والحفظ من مراعاة قدر المناصب والمراتب، ولا مداهنة أو محاباة في العلم.

مطالعته:

   وكان – رحمه الله- عالماً موسوعياً، آخذاً من جميع العلوم بنصيب، متبحراً في بعضها، مرجعاً لأهل العلم في العلوم الإسلامية والتاريخ والمذاهب، وإذا لقبناه بـ :" جامع المعقولات و المنقولات " ، أو وصفناه بـ :" المكتبة المتجولة"، لم نَعْدُ الصواب، ولم نُرمَ بالإطراء، أو المبالغة في وصفه .

يقال إن صاحبنا-المتحدَث فيه- لم يكن يطالع الكتب، أو لم يكن كثير القراءة، ولكن هذا ليس بصحيح ولا معقول، فكيف يكون الرجل -أي رجل- ذا علم بدون حصيلة من القراءة ورصيد من الدراسة يا ترى ؟!.

ثم هذا لا يتصور من رجل مثل: " الشيخ أبي العرفان"، فلا جرم أنه كان رجل العلم، الذي كان من الذين حُبّب إليهم العلم، وممن يعيشون في العلم وللعلم، والعلمُ وأحاديثه ورجاله هويتهم وهوايتهم، فمن كان شأنه هكذا .. كيف لا يكون كثير القراءة ، بل مدمناً لها .

على أن البعض- ممن رزقوا قدراً غير عادي من الذكاء والفطنة والفهم والذاكرة -قد يستفيدون من القراءة القليلة ما لا يستفيد غيرهم من القراءة الكثيرة، فكل -أو جُل- ما يقرؤون، تختزنه ذاكرتهم، ويتثبت في ألواح قلوبهم، ثم هؤلاء -الذين يستحقون أن يوصفوا بـ :" النبغاء- لا يجمدون على هذا القدر المحفوظ من حصيلة المطالعة، أي لا يكتفون بحفظه كالببغاء، بل يعالجونه بالتدبر فيه، وغربلته، وسبر أغواره، والوصول إلى أعماقه، فهذا التدبر والنظر في المقروءات أو المحفوظات يثمر خصباً في الأذهان، ونتاجاً للعقول، وتنشيطا للمدارك، ويؤدي إلى فتح آفاق من العلم والتوسع فيه، و من ثَمَّ القراءة القليلة المصحوبة بالنظر والتدبر تفيد فوائد عظيمة ، لا تحصل للذين يقرؤون كثيرا، ولكن قراءتهم تكون قراءة سطحية عابرة غير واعية..

   ولعلي بعدت عن الموضوع، واستطردت، إن الصحيح المعقول الحاسم في باب: "مطالعة الشيخ عرفان" ما سمعته ممن أثق به من أفراد عائلته، أن موسم مطالعته - أو معظم مطالعته- كان في ليالي فصل الشتاء، فإذا حل الشتاء، شمر الشيخ أبو العرفان عن ساق الجد، وانتهز لياليه الطويلة لتغذية ذوقه العلمي وإشباع نهمه المعرفي، مضحياً براحة الفراش الناعم الدافىء، وكأنها -ليالي الشتاء- كانت له بمثابة خلوات علمية لمصاحبة خير جليس، فكان يقضى معظم آناء الليل -من ليالي الشتاء- في القراءة والدراسة والبحث، وربما يقرأ في ليلة واحدة من ليالي الشتاء أكثر من مئتي ( ٢٠٠) صفحة، وهكذا كان يطالع-في ليالي الشتاء- آلافا وآلافا من الصفحات من عشرات الكتب، وهذا لا يعني أن الشيخ كان لا يُعنى بالمطالعة في غير الشتاء، بل كان يتوفر عليها وينقطع إليها فيه، بصورة أكثر واهتمام أكبر، من غيره من أيام السنة، وإلا فمن أين كان يتدفق معينه العلمي دائما، فلا علم بدون الاستمرار والمواظبة على التزود المتصل من مصادره ومناهله، وإذا توقفت القراءة - فضلا عن أن تنقطع - أو ضعفت الرغبة في النهل والاقتباس، توقف النماء، والخِصب في العلم: { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج }.  

   وشجرة العلم - كما هو معلوم- تسقى بماء القراءة والمذاكرة ومجالسة أهل العلم، فلا تزال غضة نامية خضراء تؤتي أكلها وتثمر ثمارها، وتبقى على نضارة أغصانها وخضرة أوراقها ويَنْع ثمارها ما دامت تُسْقَى بماء" القراءة " الطهور (١)، وإلا فتتعرض للجفاف والذبول .

مؤلفاته:

   وكان جُلُّ اهتمامه منحصراً في التدريس والتعليم والتربية، والدعوة والإرشاد، ولو أقبل على التأليف والتصنيف، لأثرى المكتبة الإسلامية بالكثير والنفيس من نتاج قلمه، ولكانت الإفادة أعم وأشمل وأبقى، وأحفظ لذكره في التاريخ، ويا ليت، ولكن متى نفعت "يا ليت "، ويا ضيعة المُنَى!

   ومن مؤلفاته المطبوعة وغير المطبوعة، التي عثرنا على أسمائها:

١- مسلمانوں میں علوم فلسفيہ کی آمد، غير مطبوع، وهو مقال ألقي في ندوة تعليمية نظمتها جهة حكومية في لكناؤ، والمقال موجود في مكتبة ندوة العلماء، ولعله مكتوب بخط الشيخ نفسه.

٢- إسلامی علوم وفنون هندوستان ميں، وهو ترجمة لـ :" الثقافة الإسلامية في الهند" للشيخ عبد الحي الحسني، رئيس ندوة العلماء الأسبق.

٣- أخبرني بعض أقربائه أنه كان ألف كتاباً في المنطق، ولكن لم يُطبع.

٤- وسمعت - كذلك - أن الشيخ كان ألف كتاباً في شبابه، يسمى:" الأئمة الأربعة" وكان طُبع، ولكنه لا يوجد الآن .

أخلاقه، وصفاته:

   كان حَسَن المعاشرة، طلق الوجه، ذا حديث لبق شيق، ظريفا، حاضر البديهة، ضاحكا مضحكا، أليفا مألوفًا خفيف الظل، زينة النوادي والمجالس وبهاءَها وروحها، يمتع جلساءه بالطُرَف والملح والنوادر والروائع والبدائع من ذاكرته اللاقطة، معارفُه وأصدقاؤه يحنون إلى لقائه وجلسةٍ معه، لأن في التحادث معه، إمتاعا لفكرهم، وإثراء لأذهانهم، وتطييباً لخواطرهم، وتسلية لهمومهم، فالشيخ أبو العرفان -كما سبقت الإشارة إليه - ذو حديث لذيذ، وظل خفيف، ومزاج مؤنس، وروح مرحة، ومعلومات واسعة، فإن في مجالسته ومحادثته غذاء دسما لجميع الأصناف والأطياف من الناس.

   كان العالم ينهل من منهل علمه وثقافته، والطالب يتزود من توجيهاته التي تنير مستقبله، والمدرس يستفيد من خبراته في نطاق التعليم والتربية، ورجلُ المزاح والدعابة يستأنس بأحاديثه الشهية وطُرفِه الممتعة.

   فالشيخ كان شخصية ذات عدة جوانب .. يثري العالِمَ، ويمتع الأديب، ويزود الطالب، ويعلّم الجاهل، ويُسَرِّي عن المهموم، ويسر الحزين، فما يجالسه ذو هم إلا سُرّي عنه، كأنما يمسح قلبه؛ فيمحو أحزانه.

   يجمع بين جد العلم ووقار العالم، وعطف الأستاذ، ورزانة المُعلّم وصرامة المؤدب، وروح الرجل الظريف، روح الإمتاع والمؤانسة، يضفي على من حوله السرور والطرب، على أن دعابة الشيخ عرفان وهزله -أيضا- كان لا يخلو من الفائدة والجد، كما قال الجاحظ :

   فإن الكلام قد يكون في لفظ الجد ومعناه الهزل، كما يكون في لفظ الهزل ومعناه الجد (٢) .

من طُرَفه:

   هنا تذكرت بعض طرائف الشيخ أبي العرفان رحمه الله، لعل في سردها إمتاعا للقراء، وإلقاء ضوء على نوعية الروح الفكاهية، التي كانت من خصائص الشيخ، والقصة أننا حينما كنا في الصف الخامس - الذي يسمى الآن: العالية الأولى - أصدرنا مجلة مخطوطة، كانت تحتوي مقالات -لطلاب الصف- حول موضوعات مختلفة، وكان الطلاب بذلوا جهدهم في أن تكون المجلة جميلة المظهر، وقيّمة المخبر، فتأنقوا في كتابة عناوينها بألوان بهية مختلفة، وكل عنوان كان كتب بخط رائع مميز عن خط عنوان آخر، وكذلك كان زُيّن داخل المجلة بما يسر الناظر برسم البراعم والأزهار والخطوط الملونة على جوانب الصفحات، وما إلى ذلك، مما ينم عن البراعة الفنية للمشرفين على المجلة، والشاهد في هذه القصة أن غلاف المجلة كان أعد إعداداً خاصاً جاذباً للنظار، تتوسطه صورة شجرة ذات أغصان، وكان كُتِب على كل غصن منها اسم عضو من أعضاء هيئة التحرير، فلما تم إعداد المجلة، عُرِضت على الطلاب والأساتذة، لكي يعبروا عن رأيهم فيها، ويعلقوا عليها، فكل من رآها من الطلاب والأساتذة، أبدى بالغ سروره وإعجابه بالمجلة، وشهد بالكفاءة الصحفية والبراعة الفنية للطلاب الذين ساهموا في إصدار المجلة على هذا المستوى الراقي، وتشرف الزملاء -في أدب واحترام - بعرض المجلة على الشيخ أبي العرفان رحمه الله، لعلهم يظفرون منه - أيضا-بكلمة مشيدة أو تعليق مشجع، فأمسكها الشيخ بيده، وما إن وقع نظره على غلاف المجلة، و -خاصة- على الشجرة، التي كتبت على أغصانها أسماء أعضاء هيئة التحرير، أنشد على الفور -مبتسماً- شطراً من البيت الأردي المعروف:

ہر شاخ پہ الو بیٹھا ہے انجام گلستاں کیا ہوگا

وترجمته: إن على كل غصن بوماً، فماذا يكون مصير البستان يا ترى ؟!

   وهذا الذي يسمى حضور البديهة، والذكاء غير العادي، أو الارتجال الأدبي، الذي يُنْطق المرءَ بالكلام المطلوب عفوَ الخاطر فيض الساعة .. بدون روية أو إتعاب فكر، الكلام الذي يكسب به قائله القلوب، ويفرض هيبته العلمية أو الأدبية على الناس، ويجعلهم يؤمنون بعظمته وتبريزه في مجاله.

   و-طبعاً- لم يكن تمثل الشيخ بالبيت المذكور لدى رؤية المجلة تثبيطاً لعزائم تلاميذه، أو تقليلاً لأهمية إنجازهم الصحفي، بل كان ذلك من منطلق المزاح والدعابة والهزل الخفيف.

   ولا بد من الدعابة والهزل للترويح والمؤانسة، وهزلُ الفضلاء ودعابتهم لا تكون لمجرد الهزل، بل لتنشيط الذهن وإزالة التعب وإبعاد الملل:

   " ولما كان البيان لا يكون بيانا، والبلاغة لا تصير بلاغة إلا بأن يكون المتكلم آخذا في كل واد، قادحا بكل زناد، مستظهرا بكل عتاد، وجب أن يدخل الهزل في الجِدّ إمتاعا واستمتاعا، ويدخل الجد في الهزل اقتدارا واتساعا " (٣) .

   فيا لها من شخصية جامعة، نفتقدها في عصرنا هذا، وإن الزمان بمثلها لبخيل !

   آه صار الزمان عقيما عن إنجاب النوابغ والعباقرة ...

   فلم نعد نرى نظيراً لأساتذتنا الذين كانوا - بحق - أساتذة يندر نظيرهم حاضراً ..

   أين نجد أمثال الأساتذة: الشيخ الرابع، والشيخ عبد الستار، والشيخ أبو العرفان، والشيخ برهان الدين، والشيخ واضح، والشيخ ضياء الحسن، والشيخ ظهور، والشيخ ناصر، والشيخ حبيب الرحمان، والشيخ عارف، وغيرهم من المعلمين البارعين، والمدرسين النبغاء، الجامعين بين الرسوخ في العلم، والصلابة في الدين، والحسن في الأخلاق، والحرص على تربية الطلاب ونفعهم.

   سقياً لدهر كنا ندرس فيه -في الندوة- على أمثال هؤلاء الأساتذة والمشايخ البررة الكَمَلَة، الذين كانوا المثل الأعلى والنموذج المحتذى ..

تلك أحق الأيام بالذكرى ..

   رحمة الله على أساتذتنا الأعلام الكرام، وجزاهم عنا خير الجزاء، ورحم الزمانَ، فأرانا أمثالهم، وما ذلك على الله بعزيز .

المصادر:

1- إتمام الأعلام: نزار أباظة (ط. الأولى)، بيروت: دار صادر، ص. 148.

2- تتمة الأعلام للزركلي: محمد خير رمضان يوسف، ج 2 (ط. 2)، بيروت: دار ابن حزم، ص. 48.

3- رسالة من الشيخ العالم السيد محمد نعمان الدين الندوي: بتاريخ (الاثنين : ٧ من ذي الحجة ١٤٤٤ھ - ٢٦ من يونيو ٢٠٢٣م ).

وسوم: العدد 1042