الشاعر الإسلامي المعاصر ياسين قطب إبراهيم الفيل

gfgfgf1046.jpg

(1927م - 2014م)

   هو الشاعر الإسلامي المصري المعاصر.

ولد عام 1927م في دست الأشراف بمحافظة البحيرة بمصر.

حصل على شهادة صلاحية التدريس 1956م.

عمل كاتباً بمنطقة دمنهور التعليمية، وأحيل إلى المعاش 1987م وكيلاً للعلاقات العامة.

شارك في معظم مؤتمرات أدباء مصر في الأقاليم.

وهو أحد مؤسسي جمعية الأدباء بدمنهور، وعضو رابطة الأدب الحديث بالقاهرة، وجمعية المؤلفين والملحنين، كما أنه عضو اتحاد كتاب مصر، والأمانة العامة لمؤتمر أدباء الأقاليم بمصر.

دواوينه الشعرية:

  • الميلاد وحكايات الخريف، 1988م
  • توقيعات حادة على الناي القديم، 1990م
  • من فرسان الشعر العربي، (بالاشتراك) 1991م
  • أغنية بلا وطن، 1993م
  • أحزان الكمان، 1999م.

أعماله الإبداعية الأخرى:

   تنوعت بين كتابة القصة والمسرحية والأغنية والنشيد والأوبريت والمقال، ومنها: أنا القاتل (مجموعة قصصية) 1956 - مدرسة الحياة (قصة قصيرة) ويواصل نشر إنتاجه في المجلات السعودية.

   حصل على ست وثلاثين جائزة في الشعر، والأغنية، والنشيد، منها جائزة أحسن قصيدة لمسابقة مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للابداع الشعري 1991م، وجائزة نادي أبها الأدبي 1995م.

وفاته:

توفي الشاعر الإسلامي يسن قطب الفيل في يوم الأربعاء 30 أبريل 2014م عن عمر 87 عامًا.

رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.

أصداء الرحيل:

ياسين الفيل شاعر من منازلهم!:

   كتب د. حلمي القاعود يقول في نعيه:

   في خبر من سطرين نشرت صحيفة مسائية أوائل مايو 2014م نبأ رحيل ياسين الفيل. قالت الصحيفة: "توفي الشاعر الكبير ياسين الفيل بعد رحلة معاناة مع المرض، يعد الفيل من أهم شعراء جيل الستينيات". لم تزد الصحيفة على ذلك حرفا واحدا!

ولم أقرأ الخبر في صحيفة أخرى أو موقع إلكتروني، فالرجل هناك يعيش بعيدا في قريته التي تقع في أعماق الريف بمحافظة البحيرة، وأجهزة الإعلام والصحافة تمارس نشاطها من العاصمة وتفضل أن يلاحقها من يعنيهم الأمر، وخاصة ممن يتصدرون المشهد الثقافي وتجمعهم علاقة العمل المشترك لصالح جماعة دون غيرها من الناس، ولو كان غيرها هذا أكثر كفاءة وأفضل موهبة، وأكثر ثقافة.

   أردت أن أعزّي أسرته فاكتشفت أن رقم هاتفه لا يستجيب.

اتصلت بمن أعرف بالقرب من قريته ليزوّدني برقم آخر، أو برقم أحد أقاربه.. فأملى رقما لابنه الكبير "وحيد"؛ وللأسف فقد استمعت إلى أغنية شبابية في أثناء الاتصال، وانتهت الأغنية، ولم أتلق رداً.

انتظرت أن يكلمني وحيد في وقت لاحق، ولكنه لم يفعل.

العادة المتفشية الآن أن من يحمل هاتفاً محمولاً أو جوالاً كما يسمى في بعض البلدان لا يرد إلا على من يسجل رقما لديه، أما الهاتف الغريب فلا يرد عليه مهما كانت الظروف.

لملمت إحباطي، وتذكرت أن كثيراً من الأبناء الشباب يتعاملون مع الأمور بمنطق "كبّر دماغك".. أي لا تهتم، في المقابل كان ياسين الفيل حساساً، واستجابته سريعة في السؤال عن أصدقائه والاهتمام بمعارفه، ومجاملتهم في الأفراح والمسرات والأحزان والآلام، وكان مثالاً للخلق السمح، والسلوك الراقي. وهو على كل حال من جيل مختلف!.

   كنت على تواصل مع الرجل حتى العام الماضي، وجاءت الأحداث التي مرت بمصر مؤخرا فشغلتني عنه. قبل ذلك أحسست بمعاناته مع المتاعب الصحية والواقع الثقافي في آن واحد. كنا نتبادل الرسائل وأحيانا نتهاتف، فضلا عن تلاقينا في مناسبات شتى. كان يعيش في قريته "دست الأشراف" بمركز كوم حمادة بعد إحالته على التقاعد قبل نحو ربع قرن، وزرته هناك وقضيت معه بعض الوقت.

   كان إحساسه بالمظلومية والتجاهل من جانب القائمين على أمر الثقافة حاداً، وخاصة في المحافظة التي ينتمي إليها كل منا وهي محافظة البحيرة.

تعقد المؤتمرات والندوات المحلية المتعلقة بأدباء المحافظة أو قضايا أخرى؛ فلا يدعى ولا يذكر، وهو الذي كان في زمان بعيد يُذكر دائما مع أدباء القاهرة، ويُدعى معهم إلى المؤتمرات الداخلية والخارجية، ولكن قومنا الذي نعيش بين ظهرانيهم يصرون أن يكون النشاط الأدبي قاصرا على جماعتهم أو فريقهم الذي لا يتسامح مع غيره ولا يعترف به.

   أسرّ إليّ بكثير من معاناته، ولكنه كان مترفّعا ومتعفّفا. لم يقف على باب مسؤول ثقافي، ولم يرج من إعلامي شيئا لنفسه.

ولكنه كان قانعاً راضياً أن قصائده وموضوعاته ترحب بها المجلات والصحف العربية من المحيط إلى الخليج؛ لأنها كانت صادرة عن صاحب قلم حقيقي وشاعر موهوب.

الجوائز التي حصل عليها:

   وقد حصل على ست وثلاثين جائزة في الشعر، والأغنية، والنشيد، منها: جائزة أحسن قصيدة لمسابقة مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري 1991م, وجائزة نادي أبها الأدبي 1995م.

   لقد شاركت معه في عديد من المؤتمرات التي كانت تقيمها الجامعات وبعض الجهات الرسمية، فكان ودوداً في معاملته رقيقاً في مشاعره طيباً في سلوكه، ولذا حظي بمحبة جميع من عرفوه. وكنت أناديه وأكتب إليه: العم ياسين! فيشعر أنه قريب مني.

   وكان يعيش بين أهله في دست الأشراف بسيطاً وديعاً، فهو واحد منهم، وكان يمازحني: الأفيال كثيرون، ولكنهم طيبون! في إشارة إلى أن عائلة الفيل تملأ القرية، ولكنهم لا يغترون بعددهم كما يحدث في بعض القرى. وهم بالفعل كذلك سواء منهم من يعيش داخل القرية أو استوطن القاهرة أو عاش خارج مصر.

   ويلاحظ أنه لم ينشر دواوين شعرية إلا بعد إحالته على التقاعد، ولعل ذلك يعود إلى بعده عن مركز النشر في العاصمة.

   والرجل يفهم الشعر بمنطق العرب قديماً، ولعله أقرب إلى مفهوم محمود سامي البارودي، حين يرى الشعر لحظة يصنعها الشعور، ووحياً خاصاً يصدر عن الوجدان في لحظة من لحظات التفاعل بين الواقع والنفس البشرية، ويوضح ذلك في إجابة على سؤال من مجلة اليمامة – الرياض 27- 4 – 2010 بقوله: "القصيدة هتاف روحي يتصاعد نحو السماء، بكل ثورة الوجدان واتقاد العاطفة وبكل ما يمور في أعماق الشاعر، وبكل ما يختزنه الوعي في السراديب اللا مرئية في النفس الإنسانية.

   قد ينطلق هذا الهتاف استجابة لهزة نفسية تحدثها نظرة عابرة، أو تفجرها ذكريات غائرة.. أو مشهد يستدعي مشاهد مختزنة في قلب الشاعر.. وقد ينطلق هذا الهتاف دون موعد سابق، أو سبب واضح.. وهو في كل انطلاقاته لا يعترف بالقيود ولا يخضع للإرادة، وإنما هو يهبط من علٍ كالوحي تماماً.. فتعجز إرادتنا عن قهره أو إبعاده عنا.. قد يغزونا خاطر الشعر نياما، فلا نستطيع سوى الاستجابة له، ومن ثم تتضاعف معاناتنا سهداً وإرهاقاً.. سواء تدفق هذا الخاطر على الورق صوراً هلامية، أم انسكب أنغاماً واضحة الملامح، لتكملة المعالم نرددها مفاخرين..

وقد يتلبسنا ونحن بين الناس، فلا نستطيع له دفعاً.. وهو في كل حالاته يظل يرسل تياره الصاعق في قنوات التوصيل المهيأة لحمل الشحنة الكهربية، وتوجيه القدرة الإبداعية، حتى يتجسد على الورق كلمات، فيها من النحت دقته ومن الموسيقى قوالبها، ومن الرسم صوره وألوانه، ومن الرقص حركاته وإيقاعه.. وهكذا تجيء القصيدة ممزوجة بطبع الشاعر، مقرونة بمزاجه من خلال نظرته الخاصة التى تشمل كل ما يحيط به وما يتفاعل معه من كائنات في لغة موحية، بعيدة كل البعد عن نثر الحياة اليومية.

   هذه هي القصيدة كما تجيء، وكما يكتبها الشاعر.. وحسبي أن أكون من هذه الكتيبة، التي أنا محسوبٌ عليها منسوب إليها".

   ومن هذا المنطلق نجد شعر ياسين الفيل استجابة داخلية لمشاعره وعواطفه، وهي مشاعر وعواطف مشبعة بروح الثقافة الإسلامية ومعطياتها في نظرتها، وتصوراتها للذات والمجتمع والسياق العام للأمة، والتعامل مع العالم الخارجي.

   ولاشك أن الشاعر ياسين الفيل يملك الأدوات والموهبة التي تمكنه من الاستجابة للتعبير الحي المجنح القوي، فهو يستوعب اللغة، ويقدر على تطويعها وصياغتها من خلال التصوير والتشخيص القريب السهل الذي ينقل ما يريده بدقة ووضوح وتأثير عميق.

شعر ياسين قطب الفيل: دراسة موضوعية، وفنية:

   كتب الشاعر الإسلامي الكبير ياسين قطب إبراهيم الفيل الأغراض المختلفة، ولاسيما الشعر الإسلامي والسياسي، وهذه وقفة عجلى مع شعره المتألق الجميل..

الله أكبر:

   وهو شاعر إسلامي التوجه، دعنا نقرأ مقطعاً من قصيدته "الله أكبر" على سبيل المثال لنرى فيها موهبة الشاعر تتجلى في التعبير عن إيمانه القوي بربه، وقدرته على تحقيق رجائه وإنصافه وإنقاذه ومساعدته عندما يطلب العون والنصرة:

الله أكبر.. أطلقها .. لمن صالوا   تيهاً وكِبْراً.. وعن ركْب الهدى مالُوا

الله أكبر.. عند الكرب.. ما سكنت أرض, أبت أن يسود الأرض محتال

الله أكبر.. أعلنها.. يُجبْك بها          شعب, على الظلم لم يهدأ له بال

وإنما هو مدّ الخطو.. في زمن       سطا على الابن فيه العم والخال

الله أكبر.. شاء الله.. فاعتدلت         دنيا.. وطاب لها في الأفق ترحال

ياأمة الحب صوت الحب يوقظكم في اليوم خمساً، وصوت الحب فعال

فاستمْرِئوهُ خلاصاً، يستقم أمل         في أرضكم لم يزل ترويه أجيال

إن التمسك بالإيمان يحفظكم          على الطريق.. وإن تمتد أهوال

كم باطل جار, واختلت قوادمه     زالت خطاه وأهل الأرض ما زالوا

فاستنفروا لنداءات الهدى غدكم     إن الغد الحق.. بالإيمان.. يختال

   والقصيدة طويلة، وتتعدد مقاطعها، ويبدو فيها الشاعر مسيطراً على قافيته، ممسكاً بالميزان الموسيقي دون خلل أو جنوح إلى النثرية.

   إنه ينشد شعراً يبدو سهلاً بسيطاً، ولكنه عميق محكم.

   صحيح أن الجملة الشعرية تبدو قريبة ومألوفة، ولكن الإمساك بها لا يتأتى إلا لشاعر موهوب.

تأمل مثلاً: "الله أكبر أعلنها يجبك بها شعب..."، فهي جملة بسيطة في جزئها: "الأول الله أكبر أعلنها"، وفعل الأمر هنا معتاد يقوله كثيرون، ولكن جواب الأمر هو جوهر الجملة وتميزها "يجبك بها شعب" من صفاته أنه ثائر على الظلم والطغيان والاحتلال.

   وستجد بالإضافة إلى ذلك أن التكرار قد يتوهمه بعض القراء حشواً لا أهمية له، ولكن المتأمل في جملة الله أكبر يراها تضيف دلالة جديدة في كل مرة يستخدمها الشاعر.

وإذا عرفنا أن جملة "الله أكبر" تمثل في الوجدان الإسلامي شعاراً وعقيدة ورمزاً وهتافاً روحياً وعبادياً يتكرر في حياة المسلم اليومية، فقد نجح الشاعر في توظيفه ضمن السياق العقدي والفكري ليكون طريق النجاة على المستويات كافة: الشخصية والاجتماعية والإنسانية؛ فهو اعتدال الميزان، وتصحيح الأوضاع، والإغاثة عند الكرب، وإنقاذ المظلومين، وصوت الحب الفعال، واستقامة الأمل، وحفظ الطريق، وإزالة الباطل... إلخ.

   لا ريب أن ياسين الفيل حول شعار معركة العبور في رمضان 1393هـ/أكتوبر 1973م، إلى جملة شعرية فاعلة في قصيدته الطويلة، وصارت جملة "الله أكبر" تعبيرا عن ضمير الأمة الإسلامية الجمعي، وهي تواجه عدوا مدججا بأقوى الأسلحة وأشد عناصر الدمار فتكا وقتلا، فاستطاعت بمضمونها الإيماني أن تعوض القصور في السلاح، وتواجه العدو باستبسال فريد ونادر أسقط غرور الغزاة، وأبهج الأحرار في كل مكان، وفجّر عيون موسى ليفطر المقاتلون الصائمون، وأيقظ الضمائر الميتة، وأثبت أن مواجهة الظالمين تُنهي امتهان العدل وتُرسّخ حقوق المظلومين.

- 3-

   لقد كان ياسين الفيل على وعي بأهمية الشعر وطبيعته في الواقع الاجتماعي والإنساني، ولذا لم ينجرف وراء الموجات العبثية أو الضبابية التي اجتاحت الشعر العربي منذ نصف قرن مضى باسم الحداثة والتجديد، وتجاوز ما هو قائم من مستويات شعرية، وكان متنبها لأعراض الأزمة الشعرية التي وقع فيها الشعر العربي المعاصر بسبب مراهقات بعضهم، وسوء نوايا بعضهم الآخر.

   وقد استطاع تشخيص الأزمة التي يمر بها الشعر العربي المعاصر تشخيصاً واضحاً في حديثه إلى مجلة اليمامة المشار إليه آنفا، فهذه الأزمة حصاد خلل في معمار الفن الشعري وفي مضامينه بدعوى التجديد، بدأت منذ أكثر من نصف قرن، بغزو مقنع، لم يتدبر الأصلاءُ عواقبه، مما حدا بهذا الغزو إلى التوحش، فأطاح بكل الموروثات التي لا بد منها لإبداع شعري لا تذروه رياح الحداثة، التي لبست قناع التجديد بينما هي غزو لهذا الأمل الذي تلتف حوله الأمة منذ قرنين من الزمان... لقد نجح هذا الغزو في إغلاق الدائرة حولنا.

   لقد نجح هذا «الغزو» بترويج الأفكار المبتذلة عن الضياع والوحدة وانهيار الحلم الإنساني، مما أعطى المشروعية للخلاص.. إمّا بالخروج من العالم هرباً... وإمّا بالشبق الحسي تجاه الصورة الموحدة للحبيبة النمطية.

   إن هذا الجموح قد علّب الأخيلة، وحنط الإبداع، حتى لتبدو قصائد الحداثيين ممن انخدعوا بالحداثة، وكأنها محصلة جهد في التلخيص والتنسيق لقراءات سبقت، مما يؤكد الافتقار إلى التجارب الذاتية التي يقدم لنا الشاعر من خلالها العالم ودلالاته ومذاقه، بل يحدد مصير الإنسان فيه.

   ويضاف إلى ما تقدم - كما يرى ياسين الفيل - تهميش دور الشعر، واستهانتنا بما يؤصله فينا من قيم وأخلاقيات، وعدم حرصنا على أن يحتل الشاعر مكانه، أو يحقق نجاحاً... مهما أجاد وأفاد وعانى.

   ولعل هذا كان من وراء تركيز ياسين الفيل في معظم شعره على القضايا القومية والإسلامية وفي مقدمتها قضية فلسطين والقدس، فما أكثر ما غنى للمقاومة الفلسطينية وأبطالها المجهولين والمعلومين! وما أكثر ما بكى القدس! وما أكثر ما رفض الحلول الانهزامية! وما أكثر إشادته بالشهداء والصابرين! ويصوغ كل هذا في فن جميل يغزو القلوب والأفئدة بل يكون هتافا مخلصا لقضية المسلمين الأولى أعني القدس. لنقرأ مثلا قصيدته القصيرة التي كتبها على لسان الطفل الشهيد «محمد الدرة» بعنوان «مقتول يشكر قاتله». ونصها:

أيها القاتلُ:

شكرًا...

من قتيل

أنت لم تقهر عنادهْ...

أو تدري كيف...

يا رمز البلادة؟

حينما استهدفتني صيدًا

به تختالُ

في حرب الإبادة

أنت لم تقْتلْ

- وإن أسرفتَ -

بعضًا من إرادة..

إنما أنتَ

بهذا الغدرِ

قد ألبستني

ثوب الشهادة.

     إن الجملة الإخبارية التي يختم بها القصيدة تؤكد على الموروث العقدي والجهادي لدى أمتنا، وهي تواجه عدوها، وتصبر، وتصابر حتى تحقق النصر الموعود بمشيئة الله. ثم إن هذه الجملة تنهي حوارا من جانب واحد يجريه الشهيد مع قاتله، يفحمه ويؤكد له أنه لم يقهر إرادته، وأنه حين قتله لم ينتزع إرادته.

   ويبدو أن الشهيد كان رقيقاً حين وصف القاتل بالبلادة، فالقاتل الصهيوني ليس بليدا بقدر ما هو متوحش ودموي وفاشي، وهو على وعي حاد بمهمته الإجرامية، ولكنه تجرد من الإنسانية والأخلاق والإحساس البشري!.

ـ4ـ

 وإذا كان ياسين الفيل يركز على القضايا العامة ويبذل لها معظم قريضه، وقد يضطره ذلك إلى أن تكون نبرته عالية في بعض الأحيان تصل إلى حد الصراخ؛ كما نرى في بعض قصائده من أجل فلسطين مثلا، فإنه يتجاوز ذلك في عديد من الأحيان إلى البناء الرمزي الهادئ العميق الذي يجوس في أعماق النفس الإنسانية ويحتاج تفسيره إلى شيء من الصبر والتأمل.

   وله قصيدة رمزية خالصة من أرقى الشعر فكرًا وتصويرًا وتعبيرًا، لأنها ذات ملامح جديدة رائعة، وعنوان القصيدة «اختراق» وأبياتها تقول:

ما أيسر أن

أمشي بجنازةِ قبَّرةٍ

لا أرثيها

أبكيها.. أو لا أبكيها

لكني.. حين أناجيها

وأقضّ مضاجع قاتلها

فأنا بالهمة أحْييها

وأعيد إلى العش المقرور

بقايا دفء

مال به صمت الأكفان

ثرثرتي عنها،

دمدمتي،

توقظها،

منى تدْنيها

تتحرك بين الأغصان

وتعود لمن ألِفَ النجوى

طيرًا.. أبديًا

فوق العش يحلق

مخترقا

صمت الجدران

ليغني..

أغنية ثكْلى

تجتاز فَنَاء الإنسان.

   إن القصيدة تحمل نبضاً إنسانياً يناغي وتراً حساساً في مشاهد الحياة التي يحلم بها الإنسان في كل زمان ومكان، وهو التعاطف والألفة والتناغم والدفء، وتجاوز الوحشة والوحشية.

   ومن خلال البناء الفني لقصة هذا الطائر الذي قتله مخلوق متوحش نجد الشاعر بمرثيته له فيقض مضاجع القاتل، ويعيد الدفء إلى العش البارد، ويحيي الطائر القتيل، ويحوله إلى طائر أسطوري لا يموت! وكأنه يقول للقاتل: لن تستطيع أن تنال بوحشيتك من تغريد الطائر، أو الإنسان الذي لن يفقد إنسانيته أمام الوحشية حتى لو قتلته وواريته التراب.

   شعر ياسين الفيل في مجموعه شعر إنساني، يفيض إنسانية نابعة من الإيمان والقيم العليا التي رسختها الثقافة الإسلامية، وأكدتها حضارة عربية عريقة تغني للإنسان في كل مكان، وتمنحه دفء الحياة الفطرية الجميلة التي فطر الله الناس عليها.

إذا قاومتُ ضعفي وانتصرتُ

بما تيسر لي...

أقمتُ عماد بنياني

على ثقتي وإيماني

وحسبي أن أعيش العمرَ

يا ألله...

منتصرًا... بإيماني.

الــلـه أكــبر:

الله أكبر .. أطلقها .. لمن صالوا

تيها وكِبْرا .. وعن ركْب الهدى مالُوا

الله أكبر .. عند الكرب .. ما سكنت

أرض, أبت أن يسود الأرض محتال

الله أكبر .. أعلنها .. يُجبْك بها

شعب, على الظلم لم يهدأ له بال

وإنما هو مدّ الخطو .. في زمن

سطا على الابن فيه العم والخال

الله أكبر .. شاء الله .. فاعتدلت

دنيا .. وطاب لها في الأفق ترحال

يا أمة الحب .. صوت الحب .. يوقظكم

في اليوم خمسا.. وصوت الحب فعال

فاستمْرِئوهُ خلاصاً يستقم أمل

في أرضكم لم يزل ترويه أجيال

إن التمسك بالإيمان يحفظكم _

على الطريق .. وإن تمتد أهوال

كم باطل جار, واختلت قوادمه

زالت خطاه .. وأهل الأرض .. ما زالوا

فاستنفروا لنداءات الهدى غدكم

إن الغد الحق .. بالإيمان .. يختال

الله أكبر .. أطلقها على شفة

يمتد منها لركب الغدر زلزال

ذَكِّر بها أمة سادت .. وساد بها

عزم, وساد بهذا العزم أبطال

في يوم (بدر) وفي (الأحزاب) كم دفعت

بالمؤمنين .. وسيف الشرك .. صوال

وفي العبور ضحى .. والمستحيل مدًى

يرتد للصدر, والنابالم سيال

الله أكبر .. دوت .. فانتشت مهج

وخرَّ - حين علت - في الأرض تمثال

هذى عيونك يا موسى .. قد انبجست

يا صوم أفطر, فإن الماء سلسال

الله أكبر .. أطلقها .. فإن لها

عند الشدائد, في الوديان .. إجلال

تِهْ يا بلال لها فخراً, أعد نغما

من ألف عام, ونصف الألف ينهال

أيقظ ضمائر من ماتت ضمائرهم

فربما التحمت للشرق أوصال

هذا زمان امتهان العدل .. يا ملأ

لم ينتصر فيه - رغم الكر - خيّال

الله أكبر .. قد لا يستقيم لنا

حالً .. وفي الأرض لا تخضر آمال

وقد يطول بنا ليل, وتلفحنا

ريح, وتجثم فوق الخطو أثقال

وقد يَصب علينا حقده .. صلفا

في رحلة الذوْد .. معتوه ودجّال

لكن قدرة ربي في ضمائرنا

تحيا . تؤكدها في البذل أفعال

والله أكبر .. لا نخشى سوى يده

حتى وإن عصفت بالأرض أهوال

ويقول من قصيدة: يقولون .. والنبع لا ينضب:

ما قيلَ عنكِ وعني .. كُلهُ خطأُ

إن الأنام على غيظ الهوى نشأوا ..

جريمة الحب .. لا الأيام تغفرها

ولا المحبون منها لحظة برِئوا

يا حسن يوسف , كم أحرقت أفئدة

لم تدر, كيف أوار النار ينطفئ

إن يُرجفوا .. أو يكن قد لجّ باطلهم

في الأرض من حولنا, واستفحل النبأ

فلم نزل .. والأفاعي لا تزال .. هنا

عن العيون, بقلب الجحر تختبئ

لا مريم سلمت في ليل عزلتها

من كيدهم .. وجلال الحق يبتدئ

ولا القلوب أمام المعجزات صحت

على الحقيقة, أو منها استحى ملأ

مشاعر الحقد .. لا تدري .. إذا حملت

على النقاء .. متى .. أو كيف .. تجترئ

أنقتل الحب إبراء لذمتنا ?!

وفوق جثمانه .. في غلظة نطأ?!

ما أبشع القتل .. حتى لو به ارتفعت

أعلامنا .. عن مدى بالإفك يمتلئ

فخلّ عنك .. فمن تسمو عواطفه

ويتقي الله .. لا يعنيه من صبأوا

ما قيل عنك وعني .. فِرية عبرت ..

أحبابنا .. بالغوا فيها .. وما فتئوا

أكل من آمنوا بالحب .. في زمن

لا يعرف الحب .. ضلوا ?! أم به خسئوا?

يا ويلنا من تجنٍّ كاد يسلمنا

إلى جنون, بنا في الأرض ينكفئ

أما كفانا أسًى في البعد نحمله

بين القُلوب لهيباً ? ليس ينطفئ

سهمان .. واخترقانا .. من لنا بيد

تردُّ من أسرفوا .. في اللوم .. واجترؤوا

يا حيرة القلب - والبهتان يحرقنا

من نشتكي ? ولمنْ ? والمبتدا خطأ

الشعر أنضر الثمار .. أبطؤها نضجا

هي المواهبُ في الأعماقِ تلتهبُ

قبضاً على الجمر تحيا.. أَمرُها عجبُ

آناً.. تُثيركَ منها رغبةٌ جمحتْ

وألف آنٍ.. عن الإدراكِ تحتجبُ

فاصبر على النار.. إن مسّتكَ مبدعةً

لا يُنضِجُ الشعرَ.. إلاّ ذلك اللهبُ

ولا تودع رياض الشدو.. إن بخلَت

عليكَ.. أو هيَ لم تدفع بما يجبُ

إنّ السطوحَ مرايا.. لا قرارَ لها

تُغري، وتخدعُ، من للسطح ينجذبُ

صمود الجراح:

ويقول في قصيدة صمود الجراح:

سكن الجرحُ.. فاستبيحي حياتي يا رياحاً تئنّ في الظلماتِ

لستُ أخشاكِ ما حييتُ.. وإني سوف أحيا - كما بدأتُ - حياتي

حين أطبقتِ، واستبحتِ حياتي وانتزعتِ الغطاءَ عن هفواتي

لم أكن أستبينُ أنكِ حولي غابةُ الحزن تقتفي خطواتي

لم أكن أتّقي عواصفَ حقدٍ أبعدتْها يداكِ عن نَظَراتي

لم أكن أتّقي، ولم أكُ أدري أن قَتْلي يجيئني من ذاتي

يا رياحَ المدى عدِمْتُك إن لم تستبيحي الهدوءَ في سَبَحاتي

سكن الجرحُ واستراحت حياتي وبدأتُ الخطى لما هو آتِ

فات ما فات.. فاهدئي، أو تمادَيْ فجراحي، ما أصبحتْ عارياتِ

صدى .. للنجم .. غادرنا:

وله قصائد رائعة أخرى منها هذه التحفة الفريدة:

سِيّانَ.. أو راقَ في أيامنا عَطَبُ   أم أنتشى.. بعد يأس طالَ.. مكتئِبُ

أم ازدهتنا فتوحات.. بنا دفعتْ       على الطريق.. أم ارتدّتْ بنا كُرَبُ

سِيّان تفترش الآمال سرحتَنا         أم يزدرينا.. بليل المحنة.. الدأب

فنحن من حفروا في أرضهم نفقاً بين المعابر.. فيه استوطن الجَرَب

ونحن.. من هادنوا.. والليل مُفترِسٌ   يستلّ أجمل ما نُعطي وما نَهَب

يا ضيعةَ العمر.. والأيام تطرحنا   بين المتاهات.. والأقدام تصطخب

إنّا ألفنا التخلّي عن ثوابتنا                 لكل غدر على آمالنا يثب

الطفل يُوأَد في أحضان والدهِ       ونحن غرقى سلام، فرّ يَنتحب

   ديوان "همسات الصدى":

   هو الديوان السادس للشاعر يس الفيل الذي يمتد عطاؤه لأكثر من أربعة عقود حافلة بالعطاء والإبداع المتطور. تجاوز فيه الشاعر المسافات، وشقَّ طريقه بثبات ووضوح. ورسَّخ أقدامه بوعي واقتدار. لم تأخذه المهاترات، ولم تشغله ايديولجيا الأدب. وكان نتيجة هذا جوائز تقديرية وتشجيعية من مصر وخارجها.

   يس الفيل شاعر فطري بأسلوبه ومضامينه. يمد جسور النقاء والحب إليك.. تعايشه في قصائده وكأن عالم الطفولة البريئة بينكما. يوطد التواصل مع المتلقي، ولا يتجاهله أو يتهمه بالقصور..إذا عرفنا أن الديوان ضمَّ ثلاثاً وأربعين قصيدة مؤرخة بين عام سبعة وستين وتسعمئة وألف وعام سبعة وتسعين وتسعمئة وألف. وقد صدر عام ألف وتسعمئة وتسعة وتسعين ندرك مدى تجربته الطويلة، وندرك مدى حرصه في الحكم على تجربته. فحرص على وضعها في مجموعة واحدة..وقد غلب الشكل العمودي على هذه القصائد، ولكنه شكل مشع بوهج الأصالة. وعابقٌ بعبير المضامين السامية، وقد أتت لتزيح عن أعيننا غشاوات من اليأس والرضوخ للواقع.. وقال "أحمد محمود مبارك" على غلافه: "نحن بصدد ديوان شعري، يدلل به الشاعر على أن الشعر العمودي الأصيل قادر على التعبير الفني السامق عن شتى التجارب الشعورية ومختلف الانفعالات..ما دمنا بصدد شاعر مبدع صادق الموهبة.."

   عناوين القصائد تبعث فينا الأمل، وتدعونا للتدبر والتأمل. فأنت في آخر القرن العشرين، والسباق مستمر وبوتيرة عالية تجاه العولمة والحداثة والتحديث، والمقالات المستوردة الجاهزة..

   في عصر تبدو الشبكات الإعلامية عملاقاً يلتهم كلَّ مَنْ حوله. لدرجة يخشى الإنسان على اسمه ولغته وموروثه. في هذا العصر الحافل بالمقولات والحوارات يطل علينا ديوان مشحون بعبق الروح، ومكتنز بالنقاء والتفاؤل. ترصع قصائده عناوين مشعة وموحية منها:

(إيمان- ضراعة- أمنية- ابتهال- إلهي- إبحار إلى الله- حصاد الإيمان- يا بيت الله- عطاياك يا خالقي أعجزتني- يا رب أنت ملاذي..).

ولم تأت بشكل مجاني. وليست استهلاكية بل تقول الكثير، وتبعث في الإنسان حالات من الصفاء والنقاء..

تصحبه في رحلة ناصعة لا تشوبها شائبة.

قصائد تمدنا بالحب والصدق والثبات.

وتحيي فينا الإيمان، وتوقظ العزيمة والأمل.. وراء مضامينها إيمان عميق تسلح به الشاعر.

وهو مؤمن برسالة الشاعر ودور الشعر والكلمة.

هذه الرسالة يحرص عليها الشاعر "يس الفيل" أشد الحرص.

وهو أمر جدير بالبحث والإعجاب لأن المُطَّلِعَ على الشعر، وما تقدمه دور النشر يصطدم بالكثير من الشعر الذي لا علاقة له بالروح والنفس والواقع الحافل بالهموم والقضايا المصيرية..

   يجد شعراً غارقاً بالألغاز والانزياحات غير المنطقية التي لا يفهمها أصحابها. ناهيك عن إهمال ثوابت الشعر وأصوله. فهو القائل عن أهمية الشعر ورسالته: (ص5)

الشعرُ إن تجدب الأيام يكفيني   وإن أمت.. رغم هذا الموت..يحييني

الشعرُ من يصطفيه الشعر طاب الهوى

                                   واستمرأ العزم رغم الضعف واللين

وطاول النجم.. حتى لو به انفردت في رحلة الخلق، آلا ف البراكين

وما قيمة الحرف..إن يهبط بصاحبه يا ضيعة الشعر..من بالله يبنيني؟

أنا الذي رقَّ إحساساً وعاطفة       في دورة أدمنت قلب الموازين

هذه مهمة الشاعر ورسالة الشعر ودوره من بعد صاحبه، إنه يخلد ذكر صاحبه بعد الموت: (ص6)

يا أيها الشعر.. حسبي..أن لي أجلاً   وأنَّكَ الذكر بعد الموت تحييني

   وهذا دافع لتقديم المضامين السامية التي يحرص عليها الشاعر، ويتمسك بها، ويمضي إليها كما تمضي النحلة وتتنقل بين الأزهار والحقول: (ص9)

هذا نداء وفائي..هل تُبلِّغُهُ           إليك دنيا أبت إلا معاداتي؟

فهل يكون جزائي أن يراق دمي على الموائد في ليل الخيانات؟

   شاعرنا يدرك صعوبة المهمة وهو يسعى لنبل المواقف، ويعي قسوة الأعداء الذين لا يروق لهم الخير والصفاء. ومع هذا يمشي واثقاً بالله. لا تهزه نائبة ولا تقلقه المصائب طالما أنه يرضي الله..: (ص11)

نصبت الشباك وما كنت أدري سوى أن عينيك أحدقن بي

ونازلتاني زماناً..ولكن               لأني مع الله..لم أغلب

نقائي..نقاء..لغير الشموخ         لغير الترفع، لم يَطْلُبِ

   هذه غايته..وهذا ما يبغيه الشاعر.ونعم المبتغى..تقرأ كل لفظة فتكشف ما وراءها من عمق في المعاني، تجعلك ألصق بالشاعر. وكيف لا يكون هذا ؟ وأنت تعي ما تقرأه. وتتفاعل مع مقولاته ومشاعره الفياضة. وتصل إلى المبتغى بعيداً عن التضليل والتهويم والتضخيم..فهناك معجم لغوي مليء بألفاظ الروح والإيمان والتقوى والثواب والتسامح..إنه معجم ثرٌّ ينثر ثماره في صدورنا لتلقطها عقولنا. كما يلتقط الطير الحب، وكما تحضن الأرض الغيث: (ص14)

يا طائر الشوق! إن كان الهوى  عبرت أيامه لزمان ما به خلق

فلنمض نحن على درب الهوى أملاً   فيه الوفاء مع الإيمان يتسق

ولنرفع الصدق أعلاماً..لعلّ غداً للكره والحقد والإنكار يخترق

   هذه الأبيات وأمثالها تدعو للتساؤل التالي: ماذا يبقى من الشعر إذا لم يخاطب أرواحنا؟ وماذا يبقى منه إذا لم يهذب نفوسنا؟. ولن أستطيع التزام الحياد والصمت أقام مقولات تسلخ الشاعر عن بيئته وأبناء جلدته وعن نفسه بحجة الفن للفن أو بموت الكاتب بعد نصِّهِ".

   وديوان "همسات الصدى" ينضح بالقيم والمعاني السامية، والمضامين الإنسانية التي توطد العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان. وبين الإنسان وربِّه. في قصيدة "إيمان" يخاطب ذاك الإنسان الذي يحاول إغراءَهُ. وإبعادَهُ عن الله بزرع الشكِّ وانتزاع اليقين.(ص19)

فلست أنت الذي بالشك يحملني       إلى رباً لستُ أهواها وتهواني

ولست أنت الذي إن شاء يصرفني عن الهدى..في مدى يهفو لخذلاني

فاصرف هواك ودعني..إنني ملأ       من اليقين..وهذا صوت إيماني

   هذه النفحات العذبة تذكرنا بشعراء الفترة الإسلامية الأولى الذين تحلوا بالإيمان، واعتزوا به. وجالدوا أنفسهم، وخرجوا منتصرين على ذاتهم قبل انتصارهم على غيرهم وهذه المعركة الأصعب والأجدى.. وهكذا يبقى الشعر سلاحاً فعًالاً يشحذ الهمم، ويشدُّ الأواصر، ويحيي الميت من النفوس. ويتحقق هذا إذا ملك الشاعر حساسية مرهفة، واستحوذ قلباً واعياً، وذهنا صافياً متوقداً، يجعلنا نتعاطف معه ونتأثر به. ونلوذ بآرائه في زمنٍ صعبٍ، يعتري الإنسان فيه الكثير من الأخطاء والملوثات..: (ص21)

ثقة المحب على الطريق يقودني   والشوق بي..أبداً إليك يميل

ورجعت منكفئ الخطى، متسائلاً           حتام نحيا..قاتل وقتيل؟

أوَ تلك منزلتي؟ وتلك أخوتي       ماذا تقول؟! وما عساي أقول؟

قابيل أنت قتلت نفسك عندما       أضمرت قتل أخيك..يا قابيل

   إنها رؤية جميلة. عندما حمَّل الشاعر المجرم مسؤولية قتل روحه..وفي بعض المواقف تعلو نبرة الشاعر، ويقسو على الآخرين. وهو الذي يترك خيطاً رفيعاً بينه وبين الآخرين. ولا يريد قطعه، ولكنه يقدم صفحة عذابه ومعاناته وخيبته أمام أخيه الإنسان: (ص25)

إن الذي ظلم الصديق أخوته       ورغم ظلمهمو عادوا ليفتاتوا

يا أخوة الجب ما قتلي بمنقصة     فربَّ قتل به تزجى التحيات

القتل أشرف من دنيا ملوثة           ومن حياة بها أنتم نفايات

لكنه الحقد أعماكم وأخرسكم     أين الحقيقة؟ ردي يا خيانات..

   وظف الشاعر قصة سيدنا يوسف على واقع الحال، وما فيه من غدر، ومن قبل ذلك تعرض لقصة قابيل.. وفي الأبيات السابقة أبعاد قريبة وإلماحات بعيدة لا يصعب فكُّها على قارئ.

والشاعر كائن بشري له مالغيره..ويعتريه ما يعتري الآخرين. فتمر عليه حالات تقف في وجه إبداعه، وربما تقف عائقاً أمامه. فيسعى لتجاوزها بدافع الحب للحياة، والإيمان بالمقسوم. ووراء كل هذا عقل راجح يدرك طبيعة الأشياء ويُلِمُّ بناموس الكون: (ص 38)

تسائلني زوجتي في ألم:     لماذا تغني..برغم العدم؟

لماذا تغرد عبر الضياع   وحولك موتٌ يعاف النغم؟

أجبت: لأني أحب الحياة     ولو أن فيها يلوح السّأمْ

فللشمس أشدو..إذا لوحت     يداها..وللنور بين الظلم

وتسأل: هذا الغناء بماذا     علينا يعود؟! أيطعم فمْ..؟

أيمنحنا وجبة من غذاءٍ أفي السوق سوق لهذا اللممْ

   إن القصيدة بنيت على الحوار وعلى المفارقة وتجسيدها. ورسمت واقع الشاعر الذي يصارع على جبهة الحلم الجميل والمستقبل المنتظر جبهة الحياة الراهنة.. ويشتد الصراع الدائر بينه وبين الواقع. بين الجمال والقبح وبين ما يكون وما يجب أن يكون. وهذا الصراع الأبدي وقود الإبداع ومحركه: (ص40)

تريدين أن تصنعي شاعراً     يُغنْي لهذا الجمال القبيح؟

يصور غير الذي قد يراه     وأنى أردت، يطيل المديح؟

إذاً فاسمعي..يا أساي الوحيد فما أنا..والله..إلا الصريح

جمالك هذا بغير النقاء     بغير الذكاء جمال كسيح

   أرى أن الشاعر "يس الفيل" موفق في التقاط الحالات النفسية المثيرة للجدل، والتي تستدعي التوقف عندها رأياً وشرحاً.

   وقد يقول قائل: إنها موضوعات وحالات مطروقة ومتداولة. وهذا وارد وصحيح. ولكن تناولها من شاعر في عصر ما وفي مكان ما لا يعني حرمتها عن الآخرين. وهذا حاله وهو يتحدث عن مآسي الصداقة، وعن ذاك الرباط المقدس الذي يؤول للضياع: (ص46)

يا ضيعة الحب كيف اختل زورقه؟   وكيف يصمد؟! والغرقى به غدروا

إن الصداقة صدق والوفاء شذى         للأصدقاء بنهر الحب ينهمر

وأصدقائي بنصل الحب تذبحني   وهم بذبحي مدى الأيام ما شعروا

وكنت أعتصر الوجدان ترضية لمن على الشوك منهم بات يستعر

   يتغلغل الحزن في حنايا قصائده وهو حزن شفيف. وهذا الحزن أخذ يشكل ظاهرة تستدعي التوقف عندها ودراستها. فما أكثر الدواوين التي تبوح بالأسى والحزن والخيبة! فالخيبات ترمي ثقلها، وتصفعه ولا يستطيع الصمت. إنه تحَّملَ الكثير وواسى نفسه. فلا ملجأ له إلا التسلح بالإباء والعنفوان والشموخ كردَّة فعل مشروع على الواقع الذي يراه الشاعر أسود…في قصيدة"نقوش على حبة القلب" يقول: (ص50)

بمن أزدهي؟ ولمن اكتب؟   وأنت الذي بالهوى تلعب

عطاءٌ هو الحب..يا من تحب   فأين العطاء لمن يطلب؟

أنا أنت يا أيها العنفوان   وإن يكذبوا..نحن لا نكذب

وليتك تعلم أنك ذاتي         وإن لم تكن..فلمن أكتب؟

   هذا حال الشاعر مع الناس، ولكن حاله مع ربه فيه التضرع والضعف والرجاء. فالله طريقه إلى الخلود والجنة. والتضرع إلى الله هو سياج للنفس المنهكة المعذبة: (ص53)

أشكو إلى الله.. أنى كنت آلامي   وأستجير به من قهر أيامي

وأستعين به. إن زل لي قدم أو انحرفت بها عن درب إسلامي

وأستعيد به ذاتي إذا انكفأت على الطريق وضلت خلف أوهامي

     وبمن يلوذ الإنسان إذا أحيط بالأوهام، وسورته الهموم..وانفض من حوله الناس..؟ إن شاعرنا بإحساسه العميق وإيمانه الراسخ يجد أن الله قوي. ويجد الملك زائلاً وما يبقى غير وجه الله..وكأنه يعالج نفسه المتعبة ويذكر الآخرين المتربصين بالأرض: (ص57)

رحماك يا ربي إذا انحرفت يدي أو حال بي قدمي، وضَلَّ مسار

أنا مؤمن بك في البداية، مؤمن     بك في النهاية، أنك الغفار

لكنما ألمي يؤرّق مضجعي       لِمُضَلِّلين، على الحقيقة جاروا

من كان يصعد للذرا..حبطت به       قدمٌ وأوغل في حماه دمار

أتراه لو رفع الأساس على التقى       كان البناء بأرضه ينهار

والكل يفنى ما هناك مُخلِّدٌ               إلاّه ربي واحدٌ قهارُ

   إننا بصحبة إنسان متنور ومعتبر، يقرأ الواقع والحاضر، ويسكب إيمانه درساً وعظةً لمن يعتبر.

وهذه الحالات تكثر في القصائد، ويلتحم الشاعر بها التحاماً روحياً عميقاً نراه قريباً من أجواء الصوفية بنقائها وتعاملها مع الذات الإلهية. فالإيمان يطفح ويفيض سلسبيلاً من القصائد. ويطل علينا مشعاً متوهجاً في كل قصيدة وبيت: (ص60)

إلهي قد اتيتك مستجيراً       وهل مثلي بغيرك يستجير؟

دموعي في ظلام الليل تهمي   وأعماقي يمور بها سعير

فإن أغضيت وجهك عن مسيء فمن يا رب يرحم أو يجير؟

أتيتك تائباً، فاقبل متابي       وألهمني الهدى أنى أسير

   ما أحوجنا إلى هذه اللحظات .!وما أسعدنا لو توجهنا بقلبٍ صادق مفعم بالإيمان! فالحياة تبنى على الزرع والحب، والإيمان مدرسة عظيمة الأثر وأرض خصبةٌ تعطي خير المحاصيل وأطيبها: (ص61)

هو الحب للإسلام، لا حبَّ غيره     يعيد إلى الدنيا سلاماً تهددا

هو المرفأ المنشود يُخْضِرُ زرعنا ويطرح في شطيه عزماً وسؤددا

   إن الإيمان يزرع فينا بذرة الخير، فيعلمنا التسامح، ويعطينا الأمل، ويفتح قلوبنا للنقاء والبعد عن الحق والأذى: (ص63)

وعشت أغفر للجاني جنايته     وأطلب الصفح ممن ليس يزدجر

وكنت في كل ما يأتي به زمني      بالحب أحيا، وبالإيمان أنتصر

ألقيت حملي على الرحمن فانفرجت نفسي، لما قد يوافيني به القدر

فلينطلق في بحار النور زورقنا       فإنما المد فيها ليس ينحسر

   هذه معطيات ونتائج مدرسة الإيمان التي تلقن الشاعر دروسها، وأحسن صياغتها والعمل بها. فكان الزرع خيراً، وصار الحصاد حُبَّاً وثقةً..ومن الطبيعي أن يكون الحصاد ألماً وعذاباً وضياعاً لفردٍ أو أمةٍ خرجت عن مبادئ هذه المدرسة، وجرت وراء شهواتها فتحكم بها الشيطان: (ص67)

سبحانك الله. إنا أمة ورثت             ما لو أفاءت به للمنتهى تصلُ

ولو أقامت حدود الله، لا امتلكت   هذا المدى، وارتمت في حضنها دولُ

ولا عوى الذئب يوماً في مرابضها   وفي مشاتلها ما استنوق الجملُ

   إنها وصفة طبيب، ولقطة متابع، يتعايش مع اللحظة والحالة بكل مشاعره، فلا تُسيِّره وتهيمن عليه عواطفه فينسى الواقع. وهذه نقطة مضيئة في الديوان. وتعكس رؤية الشاعر المتسلح بزاد وافر من التجارب. ولذلك نراه يقر بفضل الله وإعجازه: (ص72)

أتحصى ثناء على من أفاء   عليك بما لا تعي من كمال

ومن أودع الرأس فيك ابتداء   عوالم.. تجتاز حد المحال

ومن قال للعين كوني فكانت   سراجاً يجسد معنى الجمال

   وقدم الشاعر "يس الفيل" حالات من التصوف.

فحفل ديوانه بعبارات الاستغفار وطلب العفو والخوف والسعي إلى إرضاء الله: (ص75)

واخاف إن لم أحظ منك بنظرة   أن لا أذوق سوى اللظى يتلهَّب

لك ما تريد.. وما لغيرك أن يرى   هذا الذي في القلب لا يتطبَّب

   وهل يجد المؤمن طريقاً سليماً مزهراً يوصله إلى مرضاة الله؟ بالتأكيد يدرك هذا الطريق ولذة المسير فيه وهو محاط بالإيمان الذي يشحنه ويدفعه للعمل فالعطاء: (ص81)

طريق الخلاص طريقٌ يطولُ   ويمتد بالحب فيه الحوار

وبالحب والصدق والالتجاء     لرب السماء يُقُّر القرار

طريق الخلاص، طريق الإله   فمدي به الخطو للانتصار

   الجولة في الديوان ممتعة ومنعشة للروح.

   والسباحة في أعماق القصائد غنية ومثمرة. وهي قصائد تشف عن نفس شاعرية نقية، تبتعد كثيراً عن التهويم، والسعي إلى القطيعة مع القارئ الذي أخذ يرتد عن الكتاب. شاعرنا مدّ جسوراً مع ثوابت اللغة والشعر باستثناء حالات نحوية وإعرابية لا تخفى عليه" حالات جزم المعتل الآخر مع الشرط الجازم" ومدَّ الشاعر جسوراً مع المتلقي. خاطبه بودٍ. ومسك يده بلطفٍ، ودلهُ ببراعةٍ. وأهمُّ من هذا مدُّ الجسور مع الله والإنسان أينما كان.

   هذا الشاعر المصري الذي رأت عيناه النور من ثلاثة أرباع قرن.    ينسف بشعره مقولة نقدية روّجها، وراجت عند كثير من النقاد السطحيين المسطِّحين، وهى أن الشعر «تذبل جذوته بتقدم سنّ الشاعر، ويهرم كما يهرم صاحبه».

   اعتقادًا منهم أن التطور ذبول، وأن الانفتاح على جديد التجارب، والمعارف والمنازع والطوابع الحية من قبيل التخلي عن اعتقاد سديد عميق، واعتناق قوى أصيل مجيد.

   وما هكذا يكون النقد الحصيف، الذي يجب أن يبدأ بالنظر إلى «أصل شاعرية الشاعر نبعًا ومُستقى».. ويتساءل: هل بدأ هذا الأصل - أو هذا المعين - في النفاد، أو ضعف العطاء، أو تعكر المطروح الفني، وغثاثة جمالياته؟ ثم يتابع الناقد الإبداع في انطلاقه، ومسيرته، ومراحله - مواصلة وتوقعًا - وما يتميز به ويتفرد.

   وبالنظر المستبطن لشاعرنا «يس الفيل»، نقول - باطمئنان دون مجاملة -: إن مَعين شاعريته ما زال ريان غنيًا، وأن مسيرة شعره ما زالت قوية قويمة، حتى ليصعب على المتلقي نسبة كل عمل إبداعي إلى مرحلة إنشائه - شبابًا، وهرمًا، وشيخوخة - لولا ارتباطه بحدث، أو مناسبة، أو تذييله بتاريخ الإنشاء صريحًا.

   نقدم فيما يأتي قليلاً من القطوف التي تقودنا إلى صحة هذه الرؤية، وصدقية هذا الحكم.

   ففي قصيدته «الريح والمرفأ الجريح» - وقد نظمها من اثنين وأربعين عامًا على إثر توقيع اتفاق «غزة - أريحا» بين إسرائيل ومنظمة التحرير بنيويورك في 13/ 9/ 1963م، يقول في ختامها:

لا تفتحي نوافذ الكتابْ

فإنها تقودُ للصعاب

يا هذه الرحابْ

أنت التي أدركتِ

كيف قاومتْ «دليلة»

وأسلمت «شمشون» للحراب

لا ترجعي إلى الوراء... أبدًا...

لا تنبشي في ليلك القبورْ

لا تنكئي جراح من تخلفوا

لا تنسفي بقية الجسور

كتابُكِ الجديد لم يزل

مشاعرًا بيضاء

تشتاقُ للحروف

فلتبدئي... بألفٍ وباء

بمنطق لا يعرف الغباء

في رحلة:

إما إلى الوجود تنتمى

أو تنتمى.. لعالِم الفناء

   وبعد القصيدة السابقة بعشر سنين كانت قصيدته «العبور» سنة 1973م بمناسبة عبور الجيش المصري قناة السويس، والنصر الذي حققه على الصهاينة في سيناء، وفيها يقول:

عبرنا..

وكان العبورُ المثالا

وكان المحالا

إلى شاطئ المستحيل انطلقنا

بعزم - على الثأر - فاق الخيالا...

وكبرت الأرض

حين اخترقنا إليها السدود

وقالت: سلمتمْ...

سلمتم رجالاً

فلا تتركوا غدكم للظنون

وختم قصيدته بقوله:

فهبوا من النوم...

ضموا الصفوف

ومدوا خطاكم

ولا تتركوا للأماني مجالاً...

فكم من أمانٍ

وأنتم شتاتٌ

- مدى العمر -

جرّت عليكم وبالاً.

* * *

   وفى أواخر سنة 2000 ينظم الشاعر قصيدة قصيرة على لسان الطفل الشهيد «محمد الدرة» بعنوان «مقتول يشكر قاتله». وأنا أنقلها هنا كاملة:

أيها القاتلُ:

شكرًا...

من قتيل

أنت لم تقهر عنادهْ...

.. أو تدرى كيف...

يا رمز البلادة؟

حينما استهدفتني صيدًا

به تختالُ

فى حرب الإبادة

أنت لم تقْتلْ

- وإن أسرفتَ -

بعضًا من إرادة

إنما أنتَ

بهذا الغدرِ

قد ألبستنى

ثوب الشهادة

* * *

   إنها قصائد ثلاث نظمها الشاعر على مدى أربعين عامًا، وكلها ذات مستوى فني ناضج واحد، حتى ليصبح إحلال الواحدة محل الأخرى، دون شعور بفارق زمنى مهما كان بعيدًا.

وهذا يذكرني بنظرة عباس العقاد إلى شعر ابن الرومي، إذ كان يرى أنه كله من طبعة واحدة.

وذو مستوى فنى واحد، يستوى في ذلك قصائده التي نظمها في العشرين، وقصائده التي نظمها في الستين، ويعلل ذلك بأن ابن الرومي كان ينسج من غزل واحد، وبضاعة واحدة، وهى الشعور الجديد، أو شعور الطفولة الفنية التي لازمته في حياته من المبدأ إلى النهاية، فلم يتغير فيه إلا القليل بعدما درس نصيبه من اللغة والعلم. واستوفى مادته من الفن والصياغة. وكأنه الشجرة التي نضجت مبكرة، وبلغت تمامها، ورسخت في تربتها، فثمرتها اليوم كثمرتها بعد سنوات عشر، أو بعد عشرين وثلاثين (العقاد: ابن الرومي حياته من شعره ص 334 «ط. 1950م»).

   وفى شعرنا الحديث شاعر آخر على هذه الشاكلة، وهو محمود حسن إسماعيل، الذي كان د. مندور يلقبه «وحش الشعر»، بل إننا نرى أن بين الشاعرين محمود حسن ويس الفيل «ملامح شبهية» متعددة في غير قليل من الطوابع الفنية والفكرية، ومنهج التناول والمعالجة الشعرية، مما لا يتسع له المقام.

   تتعدد موضوعات يس الفيل في «فلسطينياته» ما بين شعر حرّ، وشعر خليلي (شعر الشطرين)، ومن شعره قصائده في المسجد الأقصى، وسيناء، والعبور، والأطفال والحجارة، ومحمد الدرة، والشيخ أحمد ياسين، ومذبحة المسجد الخليلي، وقصائد أخرى ذات عناوين قوية الإيحاء مثل «طرقات على الجليد»، و«عربى»، و«ثورة الأبرياء»، و«انتصار الإيمان»، و«خيوط العنكبوت»، و«فدائية»، و«اختراق»، و«البيت»، و«لأجلك دائمًا أصلى».

   وشاعرنا في كل فلسطينياته شاعر «جاد» لا يعرف العبثية أو اللين، وأدق من ذلك أن نقول: «إنه شاعر جاد وحاد»... يعالج موضوعاته بجدية من ناحية، وبحدة من ناحية أخرى، وحدته هي حدة السيف الحاسم الواثق، لا حدة العصابي الناقم، ومن ثم نراه لا يهتم بالتفصيلات التوصيفية التي تقدم للمتلقي لوحات شعرية جمالية متكاملة العناصر، إنما تأتى معالجاته الفنية منطلقة من قيم إنسانية ونفسية يحرص أن يذيبها عصارة حية في أوصال القصيدة وأعطافها:

   وأول هذه المنطلقات أو الركائز: الإيمان بالله والنفس والقيم الإنسانية العليا. ومن كلماته في قصيدته «انتصار الإيمان»:

ويا ألله

أنا أحتلّ في الميدان

أول خندق

قد يستعيد بقيتي

ويشدني من غفلتي

لأعودَ للإيمان

يزرعني صمودًا

يسترد المرفأ الحاني

ولكني...

إذا قاومتُ ضعفي وانتصرتُ

بما تيسر لي...

أقمتُ عماد بنياني

على ثقتي وإيماني

وحسبي أن أعيش العمرَ

يا ألله...

منتصرًا... بإيماني.

   والمنطلق الثاني هو إيمان الشاعر «بالعروبة».. العروبة التي توحد القلوب والصفوف والجموع... في الآلام والآمال... في واقع المرارة والانكسار... واستشراف التغلب والانتصار.. العروبة التي تنهلُ وتعلّ من مَعين الإسلام وهدى النبوة الخاتمة.

ومن روائع الشاعر التي تبين عن هذه المعاني قصيدة له بعنوان «عربي».

ومناسبة القصيدة كما ذكر الشاعر «أثناء مناقشة بيان 30 من مارس بنادي المعلمين بدمنهور يوم الأحد 14/ 4/ 1968م، وقف الزميل الفلسطيني عبد الرحمن خاطر يبدى رأيه في برنامج 30 من مارس بحدة، وهنا سأله محافظ البحيرة وجيه أباظة: من أنت؟ وكان رد الزميل «أنا عربي»، وهنا انطلقت هذه القصيدة»..ومنها نقتطف الأبيات الآتية:

من أنت؟ قلتُ: أنا يا إخوتي عربي نأيتُ عن كلِّ من أهوى بلا سبب

لا تعتبوا يا رفاقي إن لجأت إلى   دارى هنا؛ فكلانا في الأسى عربي

ألست منكم؟ ألسنا أمة سلكتْ           طريق طه، وطه للجميع نبي؟

ما كنت وحدى، ولا كنتم بمفردكم يومًا، وما كان مصري ولا حلبى

كانت عروبتنا حصنًا نلوذ به       ولم تزل بيننا أقوى من العصب

فجددوا عزمكم إن الحياة لنا     رغم التبجح، رغم الزيف والكذبِ

فما لصهيونَ حقٌّ يستبيح به     أرضى وأرضَك من عكا إلى النَّقَب

* * *

والمنطلق الثالث، أو الآلية النفسية الثالثة التي يواجه بها الشاعر الصهاينة المعتدين هي العزيمة الجادة المتوهجة التي لا يشوبها تردد، أو ضعف ووهن أو تفريط، ولا ينال منها غشم الأعداء وظلمهم ووحشيتهم، وتفوقهم في العدة والسلاح.

ومن ثم لا يؤمن الشاعر بالوسطية في المعايشة، فالموت ولا حياة الذل والهوان على حد قول الشاعر العربي:

فإما حياة تملأ الأرض عزةً   وإما مماتٌ يترك الطير ناعيا

ويقول يسن الفيل:

قـد يحكمون قيودي   ويـطمسون وجودي

ويـرقـصون بحقد      عـلى رفات خلودي

قـد يحرقون شموعًا تذوب خلف السدود

لـكـنهم لن ينالوا..   بعزمهم من صمودي

ولو على النار ألقى     مـكـبلاً في قيودي

فسوف أحمل فجرى   عـلى رعود الرعود

وأسـتـعـيد وجودًا     يـلوح خلف الحدود

وإنـمـا أنـا أحيا         بـكـبـريـاء عنيد

أخطو برغم احتراقي   إلـى صـباح جديد

أخـطـو بألف تحدٍ           لـكـل قـيـد بليد

   إنها عزيمة ماضية في تحدّ عملي لا يتوقف، هادفة إلى تحرير الأقصى، وأرض فلسطين، وهى مهمة أصحاب هذه الأرض المغتصبة شيبًا وشبانًا... رجالاً ونساء، وقد رأينا - وما زلنا نرى - الدور البطولي الذى يؤديه الأطفال بانتفاضتهم الحجرية التي أذلوا بها الصهاينة، إنها عزيمة الإصرار، وإرادة الصمود. فلا عجب أن يخاطب شاعرنا هذا الطفل الفلسطيني المعجزة بقوله:

فيا ولدى

وهذى الأرضُ

رغم القهر

لم تجنح إلى الإذعانْ

حجارتك التي اندلعتْ

صمودك في مواجهة اللظى

إصرارك المسنون في درب الخلاص

غدًا سيكتب فوق هذى الأرض

أن إرادة الإنسان

- مهما كان عنف الليل -

فوق ضراوة الطوفان

وأن النصر

- مهما كان عنف الليل -

أن النصر للإنسان

* * *

   وانطلاقًا من هذه العزيمة القوية الحادة يوجه الشاعر سهامه إلى اليهود، ويشير إلى حقيقة تاريخية مؤسفة. وهى أنهم ضالعون في الإجرام والعدوان من قديم، فيقول عنهم:

عجبت يا رب من قوم أضلهمو

عن الهداية أحبارٌ وتلمودُ

توراة موسى عصوْها ظالمين. فلا

رب لديهم سوى الإيذاء معبود

لم يسلم البيض من إيذائهم أبدًا

في كل عصر كما لم يسلم السود

   ثم ينطلق الشاعر من هذا الماضي الإجرامي إلى إبراز جرائمهم العدوانية في الحاضر من قتْل وسلب وتخريب، وكل أولئك ما هو إلا انعكاس لطبيعتهم العدوانية التي اشتهروا بها من قديم الزمن.

   والشاعر يفضح اليهود - في بعض الأحيان بأسلوب ساخر مرّ كما نرى في قوله:

غدى ويومي وأمسى

ولـم تـلدني سفاحًا

مـا بـعتهم ليهودي

«راشيل» بين الجنود

* * *

   ونرى الشاعر يوجه سهام الإدانة والتجريم إلى اليهود غالبًا، وقلّ - بل ندر - أن يوجهها إلى القادة والكبار العرب كفعل أغلب الشعراء. وربما كان مسلكه هذا أملاً، أو طمعًا في أن يعدل هؤلاء مسارهم، ويثوبوا إلى ولائهم للوطن والقضية، أو حرصًا من الشاعر على التفرد، وإثبات الذات بمخالفة المعهود الدارج الذى لا تكاد تخلو منه قصيدة من قصائد الشعراء عن فلسطين.

* * *

ومخالفة للدارج المعهود كذلك - وهو مظهر من مظاهر «عزيمة التحدي» - نرى الشاعر - في مواجهة المآسي الدامية الفاجعة - لا يجنح إلى ذرف الدموع، واستثارة الأحزان، ولكنه يجد فيها شحذًا للهمم، وتجديدًا للعزائم، وتجذيرًا لإرادة الثبات، ومواصلة النضال.

   رأينا هذه المعاني في حديثه عن أبى الشهداء أحمد ياسين، والشهيد الطفل محمد الدرة، ومذبحة المسجد الخليلي على يد مجرم من تلاميذ الدموي العنصري «كاهانا»، فهو لم يبك ضحايا هذه المذبحة، ليستدر الدموع، ويثير الأحزان، كما نهج غيره من الشعراء في التعامل مع هذه المذبحة اللعينة الغادرة، ولكنه بنبر قوى صاخّ يثير في نفوس العرب قوة التحدي والتصدي والغضب والنقمة، فيقول من أبيات قصيدته:

أواه يا زمن الأوغاد كيفَ لنا

أن نستقيم، وفينا استحكم الصدأُ؟

وكيف تجرى دمانا في مساجدنا

وكيف يمتهنُ الإيمانَ من صبأُوا؟

وكيف يسخر منا من بلا وطن

في التيه عاشوا ضياعًا، منه ما برئوا؟

يا لعنة الغضب المكبوت لا تَدَعى

في الأرض منحًى؛ فإن العدل ينكفئ

ويا هوان المدى ما زال أبرهة

يغزو حمانا، وفى دعواه يجترئ

* * *

   ومن أهم السمات الموضوعية الفارقة التي لا يخطئها النظر في فلسطينيات الشاعر أنه لا يشغله مناسبة الإبداع والجوانب التاريخية، وتفصيلات الواقع، ولكن همه الأكبر في القصيدة موجه إلى أمرين:

الأول هو البعد النفسي للمعروض الموضوعي: شخصيةً، أو حدثًا، أو واقعًا تاريخيًا.

والثاني: الدلالات الإنسانية التي يعكسها هذا المعْطى المعروض.

* * *

   وشعر يس الفيل لا يعطيك مفتاحه بسهولة ومباشرية، إنما هو - كما جاء في موشح المرزباني في صفات الشعر الجيد القيم - يحتاج من القارئ إلى كدّ الذهن، وإعمال النظر بالتأمل»؛ لذلك يحيط بشعره نوع من العَبَق الغامض، مما يقربه في بعض الأحيان من الشعر الرمزي.

   وله قصيدة رمزية خالصة أعتبرها من أرقى ما قرأت من الشعر فكرًا، وتصويرًا وتعبيرًا، وهى ذات ملامح جديدة رائعة، وعنوان القصيدة «اختراق» أقدمها للقارئ بنصها؛ لأن الحذف منها يخل بها، ويسيء إلى جوها ودلالاتها:

ما أيسر أن

أمشى بجنازةِ قبَّرةٍ

لا أرثيها

أبكيها.. أو لا أبكيها

لكنى.. حين أناجيها

وأقضّ مضاجع قاتلها

فأنا بالهمة أحْييها

وأعيد إلى العش المقرور

بقايا دفء

مال به صمت الأكفان

ثرثرتي عنها،

دمدمتي،

توقظها،

منى تدْنيها

تتحرك بين الأغصان

وتعود لمن ألِفَ النجوى

طيرًا.. أبديًا

فوق العش يحلق

مخترقا

صمت الجدران

ليغنى...

أغنية ثكْلى

تجتاز فَنَاء الإنسان.

   ولا أريد أن أتدخل بالتفسير والتوضيح؛ فإن هذا قد يفسد على المتلقي الجو الذى عاشه، والأبعاد التي أدركها.

وخلُص إليها. ولكنى أشير إشارة مجملة إلى أن الرمز هنا أوسع بكثير من أن يطرح مُعطى واحدًا، فمعطياته متعددة منها التاريخي، ومنها السياسي، ومنها النفسي الخاص، وكل أولئك مغلف بطابع إنساني دفاق.

* * *

إن الشاعر يس الفيل واحد من عظماء الشعراء في عصرنا هذا. والمجال لا يتسع إلا لهذه الكليمات القليلة. وهنا أنبه القارئ إلى أمرين:

الأول: أن حديثي كان محصورًا في فلسطينياته.

والثاني: أن اهتمامي كالعادة كان موجهًا إلى الجوانب والامتدادات الموضوعية والفكرية؛ لأن الدراسة الفنية لا تتسع لها مثل هذه المساحة الضيقة.

وها هو الشاعر أحمد فضل شبلول يكتب يس الفيل (والزحف على حد المستحيل):

   "الزحف على حد المستحيل" هو أحد دواوين الشاعر الراحل يس الفيل، صدر عن مطبوعات الكلمة المعاصرة التي يصدرها إقليم غرب ووسط الدلتا الثقافي، واحتوى على إحدى وعشرين قصيدة (منها قصيدة "لماذا أنتِ في قلبي؟" ص 52 التي لم تثبت في فهرس الديوان) تنتمي كلها إلى شعر التفعيلة الذي يجيد الشاعر التعامل معه، مثلما يجيد تمامًا التعامل مع الشعر العمودي.

   جاءت أغلب القصائد من تفعيلة بحر الهزج مفاعيلن (8 قصائد) ثم تفعيلة بحر المتقارب فعولن (7 قصائد) ثم تفعيلة الخبب (3 قصائد) ثم تفعيلة الرمل فاعلاتن (قصيدتان) وأخيرا قصيدة واحدة من تفعيلة الرجز مستفعلن.

   وهكذا يغترف الشاعر من تفعيلات خمسة بحور شعرية صافية. وهو إلى جانب ذلك يحافظ على وجود التقفية المستمرة بين السطور الشعرية، ليخلق مناخًا موسيقيًا أو إيقاعيًا تسبح فيه الكلمات والصور الشعرية المتدفقة بين يدي الشاعر، فتطرب له الأذن عند الاستماع، وترتاح له العين عند القراءة البصرية، فللعين أيضًا إيقاعها.

   ولعل هذه الخصيصة تعد من أهم خصائص شعر الشعراء المخضرمين (أي الشعراء الذين يجمعون بين الكتابة العمودية والكتابة التفعيلية في أشعارهم، والذين عاصروا بزوغ فجر الحركة التفعيلية على أيدي روادها الأوائل، ولم يأخذوا منها موقفًا حادًا، مثل غيرهم، وإنما بدأوا يتحسسون الخطى نحوها، ويجربون الكتابة على منوالها، وحققوا نجاحًا يحسب لهم في هذا المضمار، ويعد الشاعر يس الفيل واحدًا من أهم أقطاب هؤلاء الشعراء المخضرمين في مصر).

   لقد ظل يس الفيل يجاهد من أجل تحقيق شعريته الخاصة، فكتب في كل الموضوعات الإنسانية تقريبًا، وعاصر أحداث وطنه العربي الكبير، وتفاعل مع قضايا الأمة. ولعل وجوده في قريته الصغيرة "دست الأشراف" بمحافظة البحيرة، ورفضه ـ منذ وقت مبكر ـ الإقامة بالعاصمة، جعلاه يعكف على إنتاجه الشعري، يجوده وينقحه ويؤصله، ويجد الوقت المتاح ليراسل أغلب الصحف والمجلات المصرية والعربية، التي تستقبل أعماله دائمًا بما يليق بها.

   وقد تأخر يس الفيل كثيرًا في نشر أعماله الكثيرة والمتنوعة ـ سواء الشعرية أو القصصية أو المسرحية المكتوبة للكبار أو المكتوبة للأطفال ـ بين دفتي كتاب مطبوع. وعندما أحس أن العمر بدأ يتسرب من بين يديه، أدرك أهمية جمع أعماله المكتوبة والمنشورة في دوريات مختلفة، لتصبح في كتب تحفظها من التشتت والضياع، لذا نراه هذه الأيام دءوبا في جمع أعماله المتناثرة ونشرها، سواء من خلال مؤسسات النشر الرسمية، أو على نفقته الخاصة.

   ويجيء ديوان "الزحف على حد المستحيل" تحقيقًا لهذه المهمة التي يضطلع بها الشاعر، وهي جمع أعماله في مصنفات شعرية. وتعكس قصائد هذا الديوان رؤية الشاعر للناس والحياة والحب والجمال والأمل والوطن. يقول في قصيدة "ينابيع الجمال":

لماذا أنتِ ؟

تنتزعين إعجابي

وترتسمين قنديلا

على بابي

وترتفعين سنبلةً

على ربواتنا تعلو

وتعلو فوق ظفر الأرض

والناب

لماذا أنت ؟

لا أدري

واللا أدرية هنا تختلف تمامًا عن لا أدرية إيليا أبو ماضي ـ ومن سار على دربه ـ فأبو ماضي ينطلق من موقف الشك الوجودي، أما لا أدرية الفيل، فتنطلق من الإحساس المبهم بالجمال، الذي لا يستطيع أن يرجعه إلى مصدر معين سوى الإلهام الرباني، أو الإيمان القلبي الذي يخلع على الوجود جمالاً وطهرًا وصفاء وحياء، لا يشعر به سوى أصحاب القلوب المؤمنة الشاعرة:

أيا ترنيمةً للحبِّ

ترسل عطرها الفواح

إيمانا

وتنثر

أينما تسري

عبير الصفو ألوانا

وتعرف أن قدر جمالها

يخضرُّ بين مشاتل الطهر

لماذا أنت ؟

لا أدري

   وعلى الرغم من رمزية الموضوع الذي تتحدث عنه "ينابيع الجمال"، وتحليقه إلى آفاق وسماوات علا، فإن الشاعر استطاع أن يجسده وينقله إلى عالم البشر في سموهم وبعدهم عند الدنايا والصغائر والغواية. يقول الشاعر:

لا أدري

سوى أني رأيتك

في مساراتي

وبين المؤمنات هناك

من أهلي وجاراتي

حياء ليس يخدعه

سفورٌ ضلَّ

أزمانا

وأغوانا ..

وعن درب الهوى

في رحلة الأشواق

أعمانا.

   هنا ننتقل إلى عالم مادي أرضي، ولكن لم يزل محافظًا على نقائه وطهر سريرته، وقد تجسد هذا العالم في: القنديل المعلق على الباب، والسنبلة، والربوة، والأردية، وتلك المؤمنة التي شاهدها (هناك)، وهناك هذه تحيلنا إلى المكان أو إلى المسارات التي سلكها الشاعر في درب الطهر والنقاء.

   وما من شك في أن تلك المسارات أو الدروب تدل بطريقة غير مباشرة على أماكن الحج أو العمرة، والسعي بين الصفا والمروة، حيث يقف الإنسان بين يدي الله في بيت الله الحرام، أو تدل بطريقة نفسيه إلى دروب النفس الطاهرة المبرَّأة من كل ذنب وغواية، أو أنها تدل في قراءة ثالثة على دروب الحلم البشري ومساراته المختلفة نحو التخلص من التراب والطين الذي يعلو هام الإنسان، ويتحكم في تصرفاته وسلوكياته، ويوجهه نحو دروب الشيطان:

وأدرجنا مع الشيطان

أخوانا

فبتنا

نستطيب الحرث

في البحر.

   إنه توق الإنسان إلى التخلص من طينته، فتخف موازينه فيصفو ويعلو، ويصير روحًا دائرة في فلك الجمال والصفاء والنقاء والمحبة.

ولنا أن نتأمل تعبيرين أو صورتين متشابهتين وردتا في القصيدة، هما:

1 ـ وترتسمين قنديلا / على بابي / وترتفعين / سنبلةً على ربواتنا تعلو

2 ـ وترتفعين سنبلةً / على بابي / يحيط بك الإباء

   فبعد أن كان ارتفاع السنبلة على الربوات، أصبح قرب نهاية القصيدة على الباب، وكأن باب الشاعر الذي تكرر ذكره مرتين، هو المدخل إلى عالم الصفاء والنقاء والجمال، فعلى الباب الآن يوجد القنديل رمز الشبع الروحي الذي يضيء عالم الشاعر، والسنبلة رمز الشبع المادي حيث لا يشعر الداخل إلى عالم الشاعر بأي جوع أو إحساس مادي تجاه الحياة.

   ويأتي رد فعل الشاعر عنيفًا إزاء ما حدث في مكة المكرمة أثناء موسم حج 1409 هـ / يوليه 1989 حيث وقع انفجاران في هذا البلد الحرام. لقد أحس الشاعر أن هذا الجمال والصفاء والأمن والنقاء الذي تحدث عنه في قصيدته السابقة "ينابيع الجمال" معرض للتدمير على يدي بعض العابثين والحاقدين والموتورين. يقول في قصيدة "البيت":

تمرد

تمرد

وأخرج سهامك

من جعبة الحقد

لا تبق شيئًا

وكن عبقريًا

ـ إذا ما تفجرت

أو كن غبيًا

سهامك ليست بداياتِ غدرٍ

تروِّع بعضا من الآمنين

وليست سهامك آخرَ بغيٍ

على الأرض

ليست نهاياتِ هذا الغباء اللعين

   فليست هذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها كيان الطهر والنقاء والصفاء والجمال إلى محاولات التخريب والتدمير، ولن تكون الأخيرة. وعلى الرغم من معرفة الشاعر لذلك الأمر، ومعرفته أن هناك محاولات كثيرة مرت على مدى التاريخ وأشهرها محاولة أبرهة الأشرم هدم الكعبة في العام نفسه الذي ولد الهدى فيه. وعلى الرغم من يقين الشاعر أن للبيت ربًا يحميه، وهي مقولة عبد المطلب الشهيرة عندما طلب من المعتدين رد الإبل التي أخذوها بدون وجه حق. فإن الأمر عندما يجري في زماننا ونكون شاهد عيان عليه، يكون ذا تأثير أكبر على المشاعر والأحاسيس المؤمنة، ندرك بعدها أن الحقد والجهل مازالا موجودين، يطلان كل فترة برأسيهما على الطهر والعلم والنقاء، فربما يجدان ثغرة ينفذان منها، ولكن هيهات أن يحدث ذلك:

على صخرة البيت كل السهام توالت

فأين البقاء ؟

على صخرة البيت

مالت وحطت وزالت نوايا

فأين البقاء ؟

هو البيت .. حبل الرجاء المتين

هو البيت .. منتجع الآمنين

   وهكذا تتوزع قصائد الديوان بين النقاء أو الصفاء المطلق الذي تمثل في البيت المعمور وفي شخص رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد خصه الشاعر بقصيدة "تأهبي يا أرض للميلاد"، وبين من يريد تقويض هذا الصفاء والنقاء لتمتلئ الأرض بالشرور والآثام والغواية.

   والشاعر في كل هذه الأحوال يقف موقفًا صلدًا مدافعًا عن نقاء الإنسان وسريرته وأشواقه نحو عالم اليوتوبيا، وأعتقد أن إنسان هذا العصر في أشد الحاجة إلى من يرشده أو يدله على طريق النقاء والجمال والصفاء، ولن يجد هذا الإنسان أجمل من الشعر طريقًا إلى هذا العالم النقي، وبالتحديد شعر يس الفيل الذي ينزع إلى عالم الخير والحب والجمال. ولأن إنسان العصر ما زال يعاني من طينته البشرية وتكالبه على المادة، فإن الشاعر يرى نفسه زاحفًا على حد المستحيل، ولكنه المستحيل الذي من الممكن أن يتحقق، ففي عالم الشعر لا يوجد شيء اسمه المستحيل، والشاعر يس الفيل يعرف ذلك مؤكدًا، فهو القائل:

يا قلوبًا من حجارة

يا عيونًا أنكرتني

ورأتني فوق حد المستحيل

ليتكم تدرون أني لغد آتٍ .. دليل

   وما دام الشاعر جسَّد المستحيل بأن صنع له حدًا، فإنه يدرك تمامًا، إمكانية عبور المستحيل ولو على حده القاطع، فالأمر ليس بالهين، ولكي نصل إلى الكمال والصفاء أو الجمال المطلق، لا بد من المعاناة ولا بد من الألم.

   وفاته:

   توفي الشاعر الإسلامي المعاصر "يس قطب إبراهيم الفيل"، ظهر يوم الأربعاء 30 إبريل 2014م، عن عمر يناهز 87 عامًا، بعد رحلة عطاء طويلة في مجال الشعر، والأغنية والنشيد.

رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.

مصادر الدراسة:

  • الموسوعة التاريخية الحرة.
  • موقع إخوان أونلاين.
  • معجم البابطين.
  • صفحة ياسين الفيل.
  • جريدة الدستور.
  • رابطة أدباء الشام.
  • بوابة الأهرام: بقلم أحمد فضل شبلول.
  • مواقع إلكترونية أخرى.

وسوم: العدد 1046