الشيخ طاهر الجزائري

محمد فاروق الإمام

رجالات سورية

رائد النهضة الفكرية

محمد فاروق الإمام

[email protected]

الشيخ طاهر الجزائري إحدى الشَّخصيات البارزة التي شاركت مشاركة فعَّالة في المرحلة التَّاريخية التي اصطُلح على تسميتها (عصر النَّهضة أو اليقظة) في البلاد العربية في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، ولم تنلْ حظَّها الكافي من الدِّراسة العلمية، مع أنَّ الشيخ يعد نموذجاً يعبِّر تعبيرًا واضحًا عن التيَّار الذي تبنَّى التَّواصلَ الفكري والرُّوحي مع التُّراث العربي الإسلامي، مع الانفتاح على الغرب وثقافته، والانتفاع بثمرات علومه الحديثة، ذلك التَّيار الذي مثَّله في بلاد الشَّام عددٌ من العلماء المجددِّين أمثال الشَّيخ حسين الجسر، والشيخ جمال الدين القاسمي.

فمَنِ هو الشيخُ طاهر الجزائري؟ وماذا كان أثره في النَّهضة؟ وماذا عن آثاره ومؤلفاته؟

ولد الشيخ طاهر في دمشق سنة 1825.

أما نسبه، فهو طاهر بن صالح بن أحمد بن حسين بن موسى بن أبي القاسم الجزائري الدِّمشقي الحسَني.

وقد نُسب إلى دمشق موطن ولادته ونشأته ووفاته، ونُسب إلى الجزائر لأنه البلد الذي جاءت منه أسرتُه مهاجرةً إلى دمشق بعد الاحتلال الفرنسي.

نشأ الشيخ طاهر في حجر والده الشيخ صالح الجزائري، والشيخ صالح كان ممن هاجر إلى دمشق في الهجرة الجزائرية الأولى سنة 1846، وبعد أن استقرَّ به المقام فيها بدأ يتردَّد على مجالس علمائها، حتى ذاع علمه، وعُرف فضله، فأُسند إليه منصب إفتاء المالكية في دمشق، وأصبح يعيد درس صحيح البخاري للشيخ أحمد مسلم الكزبري تحت قبَّة النَّسر في الجامع الأموي، وفي ذلك ما لا يخفى من احتفاء علماء دمشق به واعترافهم بقيمته العلمية.

أخذ الشيخ طاهر على يدي والده مبادئَ علوم الشَّريعة واللُّغة العربية، ثم أدخله والدُه مدرسةَ رشدية الابتدائية، بعد ذلك التحق بالمدرسة الجقمقية الإعدادية، فتابع دراستَه هناك، وتخرَّج على الأستاذ الشيخ عبد الرحمن البوسنوي، وقد تلقَّى على يديه اللغة العربية، والفارسية، والتُّركية، وتوسَّع في دراسة العلوم الشَّرعية.

ثم اتصل بعد تخرجه بعالم عصره الشيخ عبد الغني الغنيمي الميداني، وكان هذا العلَم على جانبٍ عظيمٍ من التَّقوى والورع، حتى وُصف بأنه يمثل صورة السلف الصالح، وكان له أكبرُ الأثر وأعمقه في تكوين الشيخ طاهر العلمي وفي توجيهه نحو الإصلاح والقيام بأعبائه، فقد طبعه بطابعه، وأنشأه على أصحَّ الأصول العلمية الدِّينية.

استوعب الشيخ الجزائري جملة معارف عصره القديمة والحديثة، فإلى جانب تعمُّقه في دراسة علوم الشَّريعة واللُّغة من فقهٍ وأصولٍ وتفسيرٍ وحديثٍ وعقيدةٍ ونحوٍ وصرفٍ وبلاغة.. نال حظاً وافراً من علوم الطِّبيعة والتَّاريخ والجغرافية والآثار، وتعلَّم شيئاً من الرِّياضيات والفيزياء، وعكف على دراسة اللُّغات الشَّرقية فأتقن منها التُّركية والفارسية، وكان ينظم بهما كنظمه بالعربية، وتعلَّم السُّريانية، والعبرية، والحبشية، والبربرية، والفرنسية وتكلَّم بها، فكانت هي التي أعانته على الاتِّصال بالثَّقافة الغربية.

وتعلَّم كثيراً من الخطوط القديمة ليتمكَّن من دراسة الآثار وقراءة المخطوطات.

وكان يعرف السِّياسة، وما ينبغي لها، وحالة الغرب واجتماعه، والشَّرق وأممه وأمراضه معرفة إخصائي خبير.

لقد أعاد الشيخ إلى الأذهان بالفعل نماذجَ كبار علماء الإسلام ممن استوعبوا ثقافات عصرهم، أمثال ابن خلدون وغيره.

كان الشيخ طاهر الجزائري حسن الطلعة، معتدل القامة والجسم، حنطي اللَّون، واسع الجبهة، أسود الشَّعر والعينين، ذا لحيةٍ كثيفة، عصبي المزاج، سريع الحركة، واسع الخطوة.

وكان معتصماً بدينه، متمسِّكاً بأحكامه، لم يُعهد عليه منكر، ولم تُؤثر عنه فاحشة، ولم يُعرف عنه تساهل في تنفيذ أحكام الإسلام وشرائعه.

وكان مع فقره وضيق ذات يده، يؤثر الفقراء والمساكين على نفسه.

أما حبُّه للعلم، فقد أُثر عنه أخبارٌ كثيرةٌ سارت بها الركبان، وكان لا يترك مزاولته في أي وقت من أوقاته، ما بين قراءةٍ وتنقيحٍ، وتنقيبٍ وتأليفٍ، وكانت فرشه محاطةً بسور من الكتب والأوراق والمحابر والأقلام.

وكان من عادته في الأربعين سنة الأخيرة من حياته ألا ينام حتى يصلِّي الصُّبح، يسهر مع أصحابه في أوَّل الليل، ثم يعود إلى حجرته في مدرسة عبد الله باشا العظم ليقرأ ويؤلِّف حتى يطلع الفجر.

أما زهده؛ فقد كان الشيخ لا يعرف الرَّفاهية والنَّعيم، ولا يبالي بطيب المطعم، ولين المضجع، وفاخر الأثاث، وكان يرتدي ثياباً باليةً من غير تأنُّق ولا زينة.

وكان على درجةٍ رفيعةٍ من الإحساس بالآخرين، يأرق لجاره وصاحبه إن علم أنَّ مصيبةً نزلت بأهله أو ماله، ويهرع لمواساته بكل ما تملكه يداه، ولما أراد له أحد أصحابه في القاهرة خلال الحرب العالمية الأولى أن يغيِّر جبَّته وقد بليت أطرافها، أجابه: يا فلان! تريد مني اقتناء جبة جديدة، وأهل الشَّام يموتون من الجوع؟!.

بدأ الشيخ طاهر حياته العلمية معلِّماً في المدرسة الظَّاهرية الابتدائية، سنة 1878، وانطلاقاً من هذه المدرسة بدأ الشيخ يبثُّ أفكارَه الإصلاحية.

وفي العام نفسه اتَّفق الشيخ طاهر مع كلٍّ من الشيخ علاء الدِّين عابدين وبهاء بك أمين سر الوالي على تأسيس جمعيةٍ علميةٍ اجتماعية، تكون في موقع الاستجابة لتحدِّي النَّشاط التَّعليمي للإرساليات التَّبشيرية الأجنبية. وأُسست الجمعية بالفعل وأُطلق عليها اسم (الجمعية الخيرية الإسلامية)، وانتظم في عداد أعضائها نخبةٌ من علماء وأعيان دمشق، وتولَّى رئاستها الشيخ علاء الدين عابدين.

وقد حظيت الجمعية بتشجيع ودعم الوالي مدحت باشا، وتمكَّنت من افتتاح ثماني مدارس للذكور ومدرستين للإناث.

في نهاية عام 1879 تحولت الجمعية إلى ديوان المعارف، وعُيِّن الشيخ طاهر مفتِّشاً عاماً على المدارس الابتدائية، وظهرت حيويَّة الشيخ البنَّاءة، إذ بدأ في تأليف عددٍ من كتب مناهج الصفوف الابتدائية في العلوم الدِّينية والرِّياضية والطَّبيعية.

أما نشاطه الأهمُّ في هذا الوقت فكان إقناعه الآباء بوجوب إرسال أولادهم إلى المدارس ليتعلَّموا، وكان لهذا الأمر أثرٌ كبيرٌ في تنشيط الحركة التَّعليمية في سورية.

وقد سعى الشيخ في هذا الوقت أيضاً إلى إنشاء مطبعةٍ حكوميةٍ قامت بطبع المؤلفات العامة والكتب المدرسية.

في سنة 1880 تمكَّن الشيخ بمعاونة بعض أصدقائه وبدعمٍ من والي دمشق، من جمع الكتب المخطوطة والنَّادرة في مكانٍ واحد، اختاره الشيخ ليكون أول مكتبةٍ عامةٍ في تاريخ دمشق الحديث، وهو المدرسة الظاهرية، التي تحولت فيما بعد إلى المكتبة الظاهرية.

وقد أولى الشيخ طاهر هذه المكتبة بعد إنشائها كلَّ عنايته، فكان يبتاع لها كلَّ ما تقع يده عليه من نفائس الكتب والمخطوطات، ويدفع أهل الخير إلى شراء الكتب وإهدائها إلى المكتبة.

وامتد نشاط الشيخ في هذا المجال إلى المدن السُّورية الأخرى، فكان يحضُّ أهل كلِّ بلدٍ يغشاها في جولاته الدَّعوية على تأسيس المكتبات والمدارس.

وفي هذا العام نفسه عهدت إليه الحكومة العثمانية بوظيفة التَّفتيش على خزائن الكتب في ولاية سورية ومتصرِّفية القدس، فأعان الشيخ راغب الخالدي في إنشاء المكتبة الخالدية في القدس، وأعد لهذه المكتبة فهرساً خاصاً.

وفي عام 1886 أقالت الحكومة العثمانية الشيخ طاهرًا من وظيفة التَّفتيش بالمدارس الابتدائية تخوُّفاً من شدَّته في بث أفكاره بين التَّلاميذ والأساتذة، فزاد نشاط الشيخ، وغدا يعمل علناً، وترك التَّدريس في المدرسة الإعدادية في دمشق، وأبى بعدها أن يقبل أيَّ وظيفةٍ حكومية، وظلَّ حتى سفره إلى مصر يدرِّس، ويصنِّف، ويجوب المدن السُّورية داعياً إلى نشر العلم.

اعتمد الشيخ طاهر أسلوباً جديداً في نشر العلم والدَّعوة إلى الإصلاح، وهو ما يمكن أن يسمى الحلقة أو النَّدوة الفكرية، فكان يجتمع بكبار علماء عصره وأبرز مثقفيه، من الشَّباب الطَّامحين إلى الإصلاح والمتطلِّعين إلى العلم، يتدارسون التَّاريخ والتُّراث الفكري الإسلامي، واللُّغة العربية وآدابها، والقيم والأخلاق الإسلامية، وما يمكن أن يساعد على نهضة الأمة من نتاج الغرب الثقافي والفكري.

وكان لهذه الحلقة اجتماعٌ دائمٌ بعد صلاة الجمعة من كلِّ أسبوع، واستمرَّت في الانعقاد بعد سفر الشيخ إلى مصر سنة 1907.

وقد عقد الشيخ علاقاتٍ عريضةً مع عددٍ من سياسيِّي وعلماء عصره، فقد كانت تربطه علاقاتٌ طيبةٌ مع ولاة سورية العثمانيين، كما ربطته علاقات صداقةٍ مع عددٍ من علماء دمشق، من أمثال: الشيخ عبد الرزاق البيطار، والشيخ جمال القاسمي، والشيخ سليم البخاري، والشيخ أبو الخير عابدين ،والشيخ عبد القادر بدران.

أما طلَّابه فقد ربطته بهم علاقة أبوَّة علمية روحية، وكان على رأسهم: محمد سعيد الباني، ومحمد كرد علي، ومحب الدين الخطيب، وقد أخذ بأيديهم وأحسن توجيههم، وكان له الأثر الأكبر في توجيههم إلى الدَّعوة والإصلاح الاجتماعي، والإقدام على التَّأليف والنَّشر، وتغذيتهم محبَّة الأجداد والكلف بآثارهم والحرص على تراثهم.

لقد توسَّعت دائرة علاقات الشيخ طاهر حتى ضمَّت بعض المستشرقين في زمانه، وكان بينه وبينهم مراسلات، يسألونه عن مسائل وقضايا تتعلَّق بأبحاثهم ودراساتهم عن العالم الإسلامي، لما عرفوا فيه من تبحُّر في دراسة التَّاريخ والحضارة الإسلامية، ومن هؤلاء: المجري غولدزيهر، والألماني هرتن، والإنكليزيان مرجليوث وبراون، والفرنسي كاير موناكو، والإيطالي أغناطيوس جويدي.

كان الشيخ طاهر الجزائري مولعاً بالأسفار، فجاب القرى والمدن السُّورية، وزار لبنان وفلسطين، ومصر، والحجاز، وتركية، وفرنسة، باحثاً عن الفائدة، مفتِّشاً عن الكتب، حريصاً على لقاء العلماء والمتعلِّمين، باذلاً في الوقت نفسه كلَّ ما تحصَّل لديه من علمٍ وخبرة، داعياً إلى كلِّ ما يؤمن به من قيمٍ وأفكار.

وقد سجَّل الشيخ طاهر معظم أخبار رحلاته وأسفاره في كناشاته التي ما زالت مخطوطةً حتَّى الآن، ومحفوظةً في مكتبة الأسد الوطنية في دمشق.

وفي سنة 1907 قرَّر الشيخ الهجرة إلى مصر، بعد أن أحسَّ بتعذُّر إقامته آمناً في دمشق، لما جرى من تفتيش السُّلطات العثمانية بيته، إذ كانت ترى في دعوته إلى إدخال الإصلاحات السِّياسية والإدارية على أجهزة الدَّولة، أمراً يتنافى مع أمنها واستقرارها.

وبعد أن استقرَّ المقام بالشيخ في مصر، استأنف سيرته الأولى في نشر العلم والدعوة إليه، وعكف على التأليف، فكتب عدداً من المؤلفات، كما شارك في كتابة المقالات في بعض الصُّحف، كجريدة (المؤيَّد) لصاحبها الشيخ علي يوسف.

وقد ارتبط بعلاقات وثيقة مع طلبة العلم من الشوام المهاجرين، أمثال محب الدين الخطيب، ومحمد كرد علي، ورفيق العظم، ومحمود الجزائري، وحقي العظم، ورشيد رضا، وغيرهم.

وقد عرف فضله ومكانته العلمية أركانُ النَّهضة الفكرية في مصر آنذاك من أمثال: الشيخ علي يوسف، وأحمد زكي باشا، وأحمد تيمور باشا.

إثر سماعه نبأ دخول الجيوش العربية بقيادة فيصل بن الحسين دمشق سنة 1918م، قررَّ الشيخ العودة إلى مسقط رأسه، ولكن المرض حال بينه وبين ذلك، ولم يستطع السفر إلى دمشق إلا في النصف الثاني من عام 1919م.

وقد عيَّنته الحكومة العربية، بعد عودته، مديراً عاماً لدار الكتب الظَّاهرية، كما قرَّر المجمع العلمي العربي الأول ضمَّ الشيخ إليه عضواً عاملاً.

أمضى الشيخ أيَّامه الأخيرة في دمشق عاكفاً على المطالعة، والبحث، والدَّعوة إلى العلم، في حين كانت وطأة المرض تشتدُّ عليه، حتى وافته المنية يوم الخامس من كانون الأول عام 1920م. ودفن في سفح جبل قاسيون حسب وصيَّته. رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.

يمكن تقسيم مؤلَّفات الشيخ إلى قسمين رئيسين:

الأول يعود إلى عهد فتوَّته وشبابه، وقد اعتنى في تلك المدة بتأليف كتبٍ مدرسيةٍ للمبتدئين، حاول فيها تقديم المعارف العلمية المتنوِّعة من دينيَّة وطبيعيَّة بأسلوبٍ سهلٍ ومبتكر، خالٍ من الحشو والتَّعقيد، ثمَّ أراد لها أن تكون كالأسس التي تُبنى عليها قواعدُ العلم وترتفع قوائمه، دون تلك التَّفرقة المصطنعة بين علوم الدِّين والدنيا.

أما القسم الثَّاني فهو مؤلَّفاته ومختصراته ونشراته العلمية وكنَّاشاته التي يعود معظمها إلى عهد كهولته وشيخوخته. وقد دوَّن في هذه التَّصانيف ما رأى أنه أحسن وأنفع ما في كتب الشَّريعة واللُّغة والأدب والتَّاريخ من المسائل والمباحث الهامَّة.

وأهمُّ آثار الشيخ طاهر الجزائري هي:

1-التِّبيان لبعض المباحث المتعلِّقة بالقرآن على طريق الإتقان.

2- توجيه النَّظر إلى أصول الأثر.

3-الجواهر الكلامية في إيضاح العقيدة الإسلامية.

4- العقود اللآلي من الأسانيد العوالي.

5- مبتدأ الخبر من مبادئ علم الأثر.

6-مُنيَة الأذكياء في قصص الأنبياء.

7-إتمام الأُنس في حدود الفرس.

8- إرشاد الألبَّاء إلى طريق الألف باء.

9-أشهر الأمثال.

10-بديع التَّلخيص وتلخيص البديع.

11- التَّسهيل المجاز إلى فنِّ المعمَّى والألغاز.

12- التَّقريب لأصول التَّعريب.

13- تمهيد العُروض في فنِّ العَروض.

14- حدائق الأفكار في رقائق الأشعار.

15-الحكم المنثورة.

16-رسائل في علم الخط.

17-دائرة في معرفة الأوقات والأيام.

18- الفوائد الجسام في الكلام على الأجسام.

19-مدُّ الرَّاحة لأخذ المساحة.

20-مدخل الطلاب إلى فنِّ الحساب.