جلال معـوض.. رائد الإذاعة المصرية والعربية

جلال معـوض..

رائد الإذاعة المصرية والعربية

مصطفى محمود علي

باحث فى التاريخ الحديث والمعاصر – عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية

كان اسمه لامعاً في عالم الإذاعة، بل غطت شهرته أنحاء الوطن العربي، وارتبط اسمه بثورة 23 يوليو 1952م، والأحداث المهمة التي مرت بها البلاد، وفى الخمسينيات والستينيات؛ سجل بصوته كل البيانات التاريخية، وكان صاحب فكرة حفلات "ليالي أضواء المدينة".

كان واضحاً في تعاملاته، متمسكا بمبادئه، بالرغم من قسوة الظروف، وهو أعظم الأصوات الإذاعية على الإطلاق، وإذا كنا نقول: إن "عبد الوهاب" و"أم كلثوم" و"عبد الحليم" أعظم الأصوات الغنائية فهو أعظم الأصوات الإذاعية، بلا منازع.

جلال محمود معوض، وشهرته (جلال معوض)! أراد أن يكون مذيعا، وبالفعل تقدم للاختبار مرة واثنتين وثلاث، بعد حصوله على ليسانس الآداب في جامعة القاهرة عام 1950م، لكنه لم يُوفق إلى أن جاءت الفرصة في يوليو 1951م وتشكلت لجنة الاختبار من "عبد الوهاب يوسف"، والدكتور "على الراعي" و"أنور المشري"، واجتاز الاختبار وبعد فترة بسيطة، صدح بصوته على الهواء يوم 3 يوليو 1951م، وكان سبب تعيينه؛ الوزير الوفدي "حامد زكى"، وكان من زملائه، عباس أحمد، صلاح زكي، طاهر أبو زيد، عواطف الكيلاني، همت مصطفى، وسميرة الكيلاني، ولكنه امتاز بين زملائه المذيعين بحسن الإلقاء وقوة نبرات صوته، وتمكنه من اللغة العربية واختياره للألفاظ والمعاني التي تتفق مع أي مناسبة، سواء كانت وطنية أو اجتماعية أو قومية.

لهذه الاعتبارات؛ اخُتير من المذيعين ليلقى بيان ثورة 23 يوليو 1952م، وفى ذلك اليوم كان مكلفاً بإذاعة النشرات خلال السهرة، فجاء إليه مجموعة من الضباط الأحرار، وقالوا له: "أنت بالتحديد الذي يجب أن يذيع بيانات الثورة". وبالفعل تم تسجيل البيانات الأربعة الأولى بصوته.

وقد شارك في الحياة السياسية من خلال عضويته بحزب الوفد، وعاش معركة الكفاح ضد الاستعمار، وفساد الحكم حتى اعتقل وهو لا يزال طالب بكلية الآداب، ووضحت وطنيته عندما أذاع مرسوم إقالة حكومة مصطفى النحاس (بصوت متهدج) فى 27 يناير عام 1952م، فصدر قرار بنقله إلى وزارة التموين، ثم عاد إلى الإذاعة مرة أخرى؛ ليذيع نبأ حريق القاهرة في 26 يناير 1952م، لكن الحكومة اعتبرت إذاعة هذا الخبر هجوماً عليها، فتم نقله بعد يومين مع عدد من زملائه إلى وزارة التموين مرة أخرى. ولحسن حظه أن شقيق أحد زملائه بالإذاعة، كان يتولى الإشراف على عملهم بالوزارة، فأمرهم بالجلوس في منازلهم، إلى أن جاء وزير وفدى جديد للتموين في يونيو 1952م وأمر بعودتهم إلى الإذاعة.

البيان التاريخي لطرد الملك:

"جلال معوض" أول من قرأ البيان التاريخي بطرد الملك فاروق بعد ثورة يوليو، وتحديداً في 26 يوليو 1952م، وقد قدم العديد من البرامج الإذاعية منها (شخصية الأسبوع) للتعريف بأعضاء مجلس الثورة، وبرنامج (من أسبوع لأسبوع) و(ركن القوات المسلحة)، وقرأ بصوته المميز أخبار قيام أهم الثورات والأحداث التي اجتاحت العالم العربي، لذا أطلق عليه "مذيع الثورة". 

كتب أنيس منصور عن جلال معوض يقول: "كان علي أيامنا وفي زمن فاروق وعبد الناصر‏ قارئ النشرة جلال معوض، وكان صوته قويا متميزا‏، وكان يقدم خطابات الرئيس وأغنيات أم كلثوم‏، وكان يحتفظ بتسجيل لصوته ‏..‏ وكان يسعدنا عندما يسمعنا صوته المجلجل‏. ولا يزال قُرّاء النشرة في الإذاعة أفضل من قراء النشرة في التليفزيون، ولذلك فالإذاعة هي معمل تفريخ الأصوات الجميلة، وكثير من الأصوات الإذاعية يجب أن يكونوا في التليفزيون".

*       *       *

ارتبط معوض بشخص الزعيم عبد الناصر، وقد تأثر كثيراً بشخصيته، وكان أول لقاء بينهما عند توقيع عقود الإصلاح الزراعي، وبعد ذلك أصبح ملازماً له في كل زياراته الخارجية، وكانت لذلك أول حلقة من برنامجه (شخصية الأسبوع) مع الرئيس ناصر. 

وإثر وفاة الزعيم؛ كان جلال ضمن الوفد الإعلامي الذي توجه لمبايعة السادات على الرئاسة، وهناك صافحه السادات، وخصه بالعزاء لرحيل عبد الناصر وقال له: "شد حيلك يا جلال".

كما ارتبط اسمه بالعديد من الشخصيات الفنية، أمثال أم كلثوم الذي توطدت علاقته بها أثناء الثورة وسنوات ازدهارها، حتى أصبح رفيقاً لها في جميع رحلاتها الفنية في الخارج، وقدم أغلب حفلاتها للجمهور ومعظم أغانيها مثل: أنت عمري، سيرة الحب، وكذلك العديد من التسجيلات النادرة لها بصوتها وبعض حفلاتها خارج مصر.

ذكرياتــه:

من ذكرياته مع أم كلثوم؛ أنه في يوم ما كان وصديقه سمير البندارى - الصحفي بأخبار اليوم - في منزله يستمعون إلى قصيدتها الشهيرة "أراك عصى الدمع" فوجد الهاتف ليفاجأ أن (سومة) كانت المتصل، ثم سألته عما يسمع؟ فأخبرها بأنه يستمع لأغنيتها، وعندما أغلقت السماعة وجدها أمامه في منزله، حيث جاءت مسرعة لتستمع معه لأغنيتها، وقد وصف جلال معوض بصوته الرخيم أحداث جنازة كوكب الشرق. 

أمَّا عبد الحليم حافظ؛ فقد تقابل معه لأول مرة عام 1950م بعد أن عَرَّفهُ كمال الطويل عليه، واستمرت العلاقة الوثيقة بينهما حتى وفاة "العندليب"، وقد توطدت بينهما الصداقة حتى إن حليم وكمال الطويل كانا شاهدان على عقد قرانه. 

ومن أصدقائه "محمد عبد الوهاب" الذي التقاه لأول مرة عام 1951م عندما زار الموسيقار؛ مبنـى الإذاعة (بشارع الشريفين)، وبعد أن صافحه، بادره معوض بسؤال لطيف: هل تحب أن أناديك عبد الوهاب أمْ الموسيقار؟ فقال: عبد الوهاب، ومن بعدها توطدت العلاقة بينهما وصارا أصدقاء.

ومن أصدقاء جلال من داخل الوسط الإذاعي – الفني - المذيعة اللامعة "سامية صادق" التي شاركته في دور الراوية بمسلسل (الطبري). ومن ضمن أصدقاؤه زميله الصعيدي "فهمي عمر" حيث اشتهرا كثنائي بتشجيع فريق نادي الزمالك لكرة القدم. 

رفيقــة حياتــه:

تزوج من الفنانة "ليلى فوزي" مساء يوم 23 يناير عام 1960م، وهو ثالث أزواجها بعد عزيز عثمان، وأنور وجدي، ورافقته طول رحلة حياته، وهى التي كانت وراء كل النجاحات التي حققها بعد الزواج، وتحملت الكثير معه، خاصة بعد أن ترك الإذاعة، وسافر إلى ليبيا عام 1971م، بعدما طلبه "معمر القذافي" للعمل مستشاراً للإذاعة الليبية بمرتب كبير .. ولكن جلال رفض، ولم يوافق إلاَّ بعد أن اتصل به مكتب الرئيس السادات ينقل إليه موافقة الرئيس، بعد إلحاح ألقذافي .. وهكذا سافر .. ولما حدث الخلاف بين السادات والقذافي، رفض جلال أن يذيع أية أخبار أو تعليقات من راديو ليبيا بصوته؛ ولزم بيته في طرابلس .. إلى أن قرر طواعية العودة إلي مصر .. رغم علمه أنه لن يعمل في بلده، وليس له مورد رزق، سوى مدخراته ومعاشه الضئيل.

ولم يكن أحد ليتصور أنها (كفنانة) تستطيع أن تعيش في تلك الظروف بعيداً عن الأضواء، ويقول جلال: إنها بقيت بجانبه حتى عادا إلى القاهرة، فلم تكن لها صلة بأحد في ليبيا سوى مجتمع سفارتنا، وكانوا يقضون معنا كل يوم جمعة، ولم يصبها الملل من تركها للشهرة والعمل أمام عدسات الكاميرات، والطريف أنه ذكر في أحد أحاديثه أنه لم يشاهد لها أيّ من أفلامها ومسلسلاتها التليفزيونية، ولم يتدخل في اختيار أدوارها، وأن الفيلم الوحيد الذي شاهده لها كان (الناصر صلاح الدين) عام 1963م، وكانا حديثي عهد بالزواج. وذكر أيضاً أنها تحملت معه الكثير، وأنه يدين لها بالفضل، فقد كانت زوجة مثالية حريصة على توفير كل وسائل الراحة في البيت، إلى جانب أنها طباخة ماهرة، وأنها كانت الزوجة الفخورة بكل إنجازاته الإذاعية.

كتب د‏.‏ عبد الفتاح فؤاد، أستاذ الفلسفة بجامعة الإسكندرية في جريدة الأهرام، يقول: "يطيب لي بمناسبة الاحتفال بمرور‏75 ‏ عاماً علي بدء إرسال الإذاعة المصرية، أن أتذكر حديثاً للمذيع اللامع جلال معوض - في الخمسينيات -‏ يُثبت لنا كم كان الإعلاميون يحرصون على الدقة المتناهية في العمل‏، إذْ حدث في ذلك العهد خلاف حول نطق اسم الأمين العام للأمم المتحدة، فمن ينطق اسمه "داج هامر شيد"،‏ ومن ينطق "همر شولد"،‏ فقرر جلال معوض‏؛‏ أن يلتقي بالرجل ويسأله عن النطق السليم لاسمه‏،‏ فأخبره بأنه "همر شيلد" علي وزن‏Shirt ، فهل يقتدي المشتغلون بالإعلام في أيامنا هذه بالإعلامي الكبير فيحرصون علي الدقة في التعبير‏،‏ سواء في الكلمة المكتوبة أو المسموعة، ويتجنبون الأخطاء اللغوية والنحوية الفاحشة؛ التي تدل على الاستهانة بلغتنا العربية؟".

المحطة الثالثة فى حياة جلال معوض: 

هي إحالته إلى المعاش وهو في الحادية والأربعين؛ وذلك في سبتمبر 1971م وقد قال: إنه لا يعرف السبب الرئيسي وراء إحالته للمعاش، وكل ما يعرفه هو أنه استدعى إلى مكتب المدعي العام الاشتراكي قبل الإحالة بيوم واحد؛ ووجه إليه السيد المحقق "رفعت خفاجي" تهمتين:

الأولى: أنه كان عضواً في التنظيم الطليعي بالاتحاد الاشتراكي، وبالطبع لم ينكر التهمة، وأن دوره في التنظيم ينحصر في تلقى نشرات دورية تحمل تحليلاً للموقف السياسي.

التهمة الثانية: أو التهمة الأهم - كما قيل له - وهى أنه منذ 28 سبتمبر 1970م لم يقدم لرئيس الجمهورية ولا مرة واحدة بحكم عمله ككبير المذيعين، وكانت إجابته ببساطة: أن حالته النفسية في أعقاب وفاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لم تكن تسمح له بأن يؤدى عمله كما ينبغي، وكان يكلف من زملائه من يراه أكثر صلاحية منه. وفى نهاية التحقيق طلب منه السيد "رفعت خفاجي" التوجه لمقابلة الرئيس السادات لتوضيح حقيقة الأمر، وأخبره أنه يفضل أن يكون هذا اللقاء في نفس اليوم، ولكن لاقتناعه الشخصي، بأن السادات متفهم حقيقة موقفة ومقدر لمشاعره تجاه عبد الناصر لم يتخيل ولو للحظة واحدة بأن الموضوع عاجل، ويستدعى ذهابه في نفس اليوم.

ونظراً لعمله وعلمه فقد حصل علي وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى عام 1956م.

لقد رحل مذيع الثورة في 5 مارس عام 1997م، لتنطفئ (أضواء المدينة) التي توهج نورها بمصاحبة جلال معوض، معلنة لحظة صمت، أن تنطق بالحزن على فراق ثائر الميكروفون ؛عاشق الوطن؛ مذيع الثورة الذي ذاب عشقا مع الميكروفون!