الأستاذ الشيخ أبو عز الدين العرواني

المربي الكبير الذي فقدناه

د. عامر أبو سلامة

فقيدنا الراحل-  رحمه الله- نحسبه شاباً صالحاً، التحق بصفوف أبناء الحركة الإسلامية، بمدينته حيث ولد بحماة، ثم شب وترعرع، في أحضان هذه الحركة، حتى صار يحمل همها، على مستوى سورية، مرقباً عاماً لجماعة الإخوان المسلمين، في فترة من الفترات، وتحمل أمانة المسؤولية في الحركة، بمواقع متعددة، منها رئاسته لمجلس الشورى، عدة مرات.

كل هذا، ورغم طول الطريق ومشقته، وضراوة المحنة وقسوتها، وتبجح الباطل وسطوته، وانتفاش الطاغية وجرمه، لم تلن له قناة، وثبت ثبات الرواسي، ما هان ولا لان، ولا انكسر، وبقي على الطريق مستعلياً بإيمانه، محتسباً الأجر عند الله تعالى، ثابتاً ثبات الرواسي، على ما نذر نفسه له، وهو يدرك قصر الحياة، مهما طال البقاء بها، والسعيد من لقي الله، وهو في طاعة، ويحشر المرء على ما مات عليه.

وها هو أبو عز الدين، يلقى ربه مهاجراً في سبيله، صابراً في محنته، ما كل ولا ملّ، ما ضياً في مقارعته للباطل، الذي فعل بأهل سورية ما فعل، ويمد الله بعمره، حتى تكون هذه الثورة الشعبية، فيساند، وينافح، ويحث، رغم كبر السن، وثقل المرض، وما تركه المصاب، على جسده من وهن العظم، وشيب الرأس، وهكذا عودنا الكبار، أنهم عطاء مستمر، إلى آخر نفس يلفظ في هذه الحياة.

الكبار في إيمانهم، الكبار في عقولهم، الكبار في أخلاقهم، الكبار في هممهم، الكبار في صبرهم وثباتهم، الكبار في عطائهم وتفانيهم، الكبار في تاريخهم، الكبار في علمهم وعملهم، الكبار في ثباتهم وتضحيتهم، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلاً.

وإذا كانت النفوس كباراً         تعبت بمرادها الأجساد

              ********************************

كان الشيخ العرواني، مثال الأخ الألف المألوف، الذي يحب إخوانه ويحبه إخوانه (وخيركم من يألف ويؤلف) يعمل على جمع الشمل، ولم الصف، وتوحيد الكلمة، واجتناب الفرقة، وكسر جسور الخصام، ومد قناطر المحبة، وهو تعبير عن خلق رفيع، يؤشر على جملة من الأخلاقيات التي كان يتمتع بها، وجلسة مع أبي عز الدين، لها وزنها في نفوس من جالسه، ونادمه، واقترب منه، فلا تسمع منه إلاّ طيباً، ولا يدلك إلاّ على الخير، لا يعرف الغش إلى قلبه سبيلاً، ظاهري السيرة، فطري السلوك، مع ذكاء وفطنة، وثقافة وعلم، وقل أن تجتمع ثنائية كهذه في شخص، لكن أبا عز الدين، كانت له هذه محطة وقوف، وعلامة فارقة.

                                  ********************

كان – رحمه الله- نموذج الأخ المسلم، سليم العقيدة، عميق المعرفة بخصائص التصور الإسلامي، فلم يخلط، ولم يلفلف،  بفهم سليم، وإدراك واع، ومنهج قويم، فلا إفراط ولا تفريط، والوسطية منهج تربى عليه، ونشأ على مائدته، من خلال رسائل الإمام البنا، وكتابات العلامة السباعي، وسائر الأدبيات المكتوبات التي تربي الحركة أبناءها عليها، ومارس هذا في حياته سلوكاً وعملاً، يحكي من خلاله، مناهج ما تربى عليه، من مناهج الجماعة، التي ارتضت هذا المنهج الإسلامي، الذي من أبزر سماته، الربانية الواقعية، والتوازن المعتدل، والشمول الذي يعطي كل شيء حقه. وكان يلتزم مناهج صحة العبادة، على كتاب الله تعالى وسنة نبيه- صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- وما تواضع عليه أهل العلم من قواعد الاجتهاد، والالتزام بمدارسه، بلا تعصب، ولا مراء، ونعمل على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً، فيما اختلفنا فيه، ولا يجوز أن يكون خلاف الرأي، أو تباين الرؤى، أو تعارض الاجتهاد، سبباً في بغضاء، وإلا فإنها الحالقة التي لا تحلق الرأس، بل تحلق الدين.

قال الإمام البنا- رحمه الله- في مفردة الفهم الثامنة، من الأصول العشرين:

( والخلاف الفقهي في الفروع، لا يكون سبباً للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة، ولا بغضاء، ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه، في مسائل الخلاف، في ظل الحب في الله، والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب)

 وكان – رحمه الله- متين الخلق، مثقف الفكر، منظماً في أوقاته، نافعاً لغيره، قادراً على الكسب، مجاهداً لنفسه، حريصاً على وقته، وكان رحمه الله، يهتم بقوة جسمه، ومعروف أبو عز الدين  بدقته في الجوانب الصحية، واهتمامه بأناقة لبسه، وجمال مظهره، هذه جملة مراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق، في مجال إصلاح نفسه، كما ذكرها الإمام البنا، في تعاليمه.

ونحسب أبا عز الدين- رحمه الله- من هؤلاء الإخوة الصادقين، الذين كانوا عند حسن الظن، في التمثل بهذه الصفات.

اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينتقى الثوب الأبيض من الدنس، واكتبه في الشهداء، واحشره في زمرة المجاهدين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

اسطنبول/ الأربعاء/6/3/2013/