الأستاذ محمد المبارك والجزائر

محمد المبارك

أ.د مولود عويمر*

"إن من لم يعرف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لا يعرف شيئا عن الجزائر في عصرها الحاضر، فهي تؤلف الجهاز الضخم في كيانها والفكرة المستقرة في ضميرها والمعبرة عن روحها التي ترجمت في أعمال بدأت من نشر العلم والدين والوعي السياسي وانتهت إلى ثورة مسلحة كانت الخاتمة والنتيجة الطبيعية لحركتها."

هذه المقولة ليست للشيخ محمد البشير الإبراهيمي أو لغيره من قادة جمعية العلماء ليسمعوا بها من به صمم، ولم يكتبها باحث جزائري منشغل بتراث هذه الجمعية، وإنما قالها المفكر السوري من أصول جزائرية الأستاذ محمد المبارك في مقاله النفيس الذي نشر في مجلة "حضارة الإسلام" الدمشقية في سنة 1965. فكيف تعرف على جمعية العلماء؟ وكيف تعامل مع حركتها الإصلاحية؟ وهل تواصل مع الجزائر بعد استعادة الاستقلال؟

مسار وأعمال

ولد محمد بن عبد القادر المبارك في دمشق في سنة 1912 ونشأ فيها. درس على والده الشيخ عبد القادر المبارك والشيخ محمد بدر الدين الحسني الملقب بالمحدث الأكبر. وتعلم كذلك في مدارس دمشق، وتحصل على شهادة في الحقوق والآداب من الجامعة السورية سنة 1934. وسافر بعد ذلك إلى فرنسا لمواصلة دراساته العليا في جامعة السوربون العريقة على كبار المستشرقين والعلماء الفرنسيين.

وبعد تخرجه في سنة 1938 بشهادة الدراسات المعمقة في الآداب عاد إلى الشام ليشتغل في حقل التعليم مدرسا للأدب العربي في الثانويات ودور المعلمين من 1939 إلى 1945. ثم عين مفتشا وعضوا في لجنة التربية والتعليم. وفي عام 1948 التحق بكلية الآداب في جامعة دمشق للتدريس فيها الدراسات القرآنية. وفي عام 1954 انتقل إلى كلية الشريعة الجديدة أستاذا للعقائد الإسلامية ثم عميدا للكلية بين 1958 و1963.

واشتغل بالسياسة إلى جانب الدكتور مصطفى السباعي والدكتور معروف الدوالبي والأستاذ عمر بهاء الدين الأميري أبرز قادة التيار الإسلامي السياسي في سوريا، وانتخب 3 مرات في البرلمان السوري بين 1947 و1958. كما تولى وزارة الأشغال العامة والمواصلات في عام 1950، ووزارة الزراعة في سنة 1951.

وله بحوث ودراسات في اللغة والأدب والعقيدة والفكر الإسلامي والعلوم الاجتماعية، أذكر هنا أهم كتبه: فقه اللغة وخصائص العربية، من منهل الأدب الخالد، فن القصص في كتاب البخلاء للجاحظ، العقيدة في القرآن، نحو إنسانية سعيدة، الأمة العربية في معركة تحقيق الذات، الأمة والعوامل المكونة لها، الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية، نظام الإسلام العقائدي في العصر الحديث، آراء ابن تيمية في الدولة، المجتمع الإسلامي المعاصر، بين الثقافتين الغربية والإسلامية، الإسلام والفكر العلمي، الإسلام والتيارات الفكرية العالمية ...الخ.

وساهم أيضا في الصحافة العربية والإسلامية، منها: الفتح، الرسالة، المسلمون، حضارة الإسلام، الشهاب، الفكر الإسلامي، المسلم المعاصر، الإيمان، دعوة الحق، النهار...الخ.

وتجاوزت شهرته بلاد الشام واستكتبته العديد من الجامعات العربية والإسلامية للتدريس فيها العلوم اللغوية والشرعية والإنسانية، فاستجاب لبعضها فعمل أستاذا زائرا لجامعات مكة المكرمة، المدينة المنورة وجدة بالمملكة العربية السعودية، عمان بالأردن، معهد الدراسات العربية العالية بالقاهرة، أم درمان بالسودان...الخ.

كما شارك في ملقيات كثيرة في دول عربية وإسلامية، وسافر إلى بلدان أوروبية والولايات المتحدة الأمريكية للدعوة بين الجاليات الإسلامية والتعريف بثقافتها وقيمها العالية بين الغربيين.

ذكريات عن جمعية العلماء

لا شك أن الاتصال الأول بالجزائر كان عن طريق أسرته التي هاجرت الجزائر في عام 1847. وكان والده الشيخ عبد القادر المبارك يحرص على ربطه دائما ببلده الأصلي في تقاليده وعاداته ويحثه على الاتصال بالمهاجرين الجزائريين الذين يشكلون جالية كبيرة في دمشق للتعرف على أخبار أرض أجداده من مخالطتهم ومن الاطلاع على المنشورات والإصدارات القليلة القادمة من الجزائر.

وكانت من أهم ما وقعت في يديه مجلة الشهاب لصاحبها الشيخ عبد الحميد بن باديس وجريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين فواظب على قراءتهما بـ "لهفة شديدة". وتشكلت من قراءاته صورة الجزائر المستعمرة في أبشع مشاهد الاستعباد والاستبداد واستئصال وجرد شعب كامل من أرضه ودينه ولغته وثقافته. وكانت منشورات جمعية العلماء تمثل في نظره مقاومة حقيقية للاستعمار بزرع الوعي العميق والعمل الجاد لتنوير العقول وتحرير النفوس.

وتأكدت قناعته وترسخت علاقته بالجزائر عن طريق جمعية العلماء عندما اتصل بنواديها الإصلاحية خلال سنوات دراسته في جامعة السوربون بباريس. كان لا يتردد على المساهمة في نشاطات نوادي التهذيب في التنظيم والتعليم وإلقاء المحاضرات. وقال في الشأن بكل وضوح: " حضرت الكثير من اجتماعاتها في باريس حينما كنت طالبا في جامعتها ما بين 1935 و1938. وكان عدد هذه النوادي التي يتسع كل منها لآلاف المستمعين ثمانية. وكان الخطباء يتمتعون بحرية الكلام ومهاجمة الاستعمار وبث روح الاستقلال لا يتمتعون بمثلها في الجزائر. وكان من قادة هذه الحركة في باريس يومئذ المجاهدان الشيخ الفضيل الورتلاني رحمه الله والشيخ سعيد الصالحي... وبلغت قوة الحركة أن البائعين المتجولين في باريس من الجزائريين والعمال الأميين كانوا يحدثوننا بحماسة عن حركة الإصلاح هذه."

كما وجدنا أثاره في جريدة البصائر التي أشادت بتعاونه المثمر مع جمعية العلماء من خلال المشاركة في دعم نشاطات نواديها الباريسية مع زمرة من علماء الشرق كالشيخ محمد عبد الله دراز من مصر وعمر بهاء الدين الأميري من سوريا.

علاقته بمالك بن نبي

تعرف الأستاذ محمد المبارك بمالك بن نبي في باريس خلال فترة دراسته في جامعة السوربون في الثلاثينات. وتوطدت العلاقة بين الرجلين فيما بعد. وقد استضاف المبارك بن نبي في دمشق عندما نزل محاضرا في جامعتها التي كان يعمل عميدا لكليتها للدراسات الشرعية. كما استضافه في السودان في فبراير 1969 لإلقاء مجموعة محاضرات وهو حينئذ يعمل أستاذا الدراسات الإسلامية بجامعة أم درمان.

وتجسدت هذه العلاقة أكثر في اختيار مالك بن نبي محمد المبارك لكتابة تقديم للطبعة العربية لكتاب " وجهة العالم الإسلامي". فإذا كان بن نبي غير راض كثيرا عن العلماء الذين قدموا كتبه لأسباب مختلفة فإنه رحب بمقدمة المبارك التي قال فيها عن مالك بن نبي ما يرفع معنوياته ويحفزه لمواصلة إنتاج الأفكار الحية وبناء إنسان جديد يؤمن برسالته ودوره في الثلث الأخير من القرن العشرين وما بعده. ولعل أجمل ما في هذا التقديم الذي كتبه في عام 1959 هذه العبارات المدوية والمؤثرة التي حفظها جيل من الطلبة في كل أنحاء العالم الإسلامي: " أنا لا أقول إنه ابن نبي، ولكني أقول إنه ينهل من نفحات النبوة، وينابيع الحقيقة الخالدة."

مشاركاته في ملتقيات الفكر الإسلامي

لقد أشرنا سابقا إلى رحلات الأستاذ المبارك في نشر الثقافة الإسلامية والمشاركة في الندوات والمؤتمرات الفكرية والعلمية. وكان من أهمها الملتقى الدولي للفكر الإسلامي الذي كانت تنظمه سنويا في الجزائر وزارة الشؤون الدينية. وكانت أول مشاركة له –في حدود علمنا- في عام 1971 حيث قدم محاضرة عنوانها: "الإسلام والتنمية في العلم الحديث". وساهم بعد انقطاع دام سبع سنوات بمحاضرة عنوانها: "أثر وضع الأسرة الحقوقي والأخلاقي في حياة الطفل".

وفي عام 1980 قدم مداخلة عن "آفاق الدعوة الإسلامية في القرن الخامس عشر". وكانت آخر محاضرته قدمها في سنة 1981 عن "القرآن مصدر للثقافة والفكر ومنطلق للعلوم الإنسانية". وهكذا، لم يفصل بينه وبين الملتقى السنوي للفكر الإسلامي من جهة والجزائر من جهة أخرى إلا الموت.

وكان يقدم أيضا على هامش الملتقيات محاضرات في المؤسسات التعليمية والثقافية، فقد ألقى على سبيل المثال محاضرة في المركز الثقافي الإسلامي عنوانها: " الثوابت والمتغيرات في المجتمع الإسلامي". وقد تحصلت على نسخة من هذه المحاضرة المخطوطة المكونة من 33 صفحة، وسأحرص على نشرها في المستقبل القريب بحول الله.

محمد المبارك في اهتمامات الجزائريين

لقد أصبح تراث الأستاذ محمد المبارك محل اهتمام الباحثين الجزائريين. فقدم الباحث عبد الرحمان تركي رسالة دكتوراه في العقيدة في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية في عام 2004 عنوانها: " الخطاب العقدي المعاصر بين مالك بن نبي ومحمد المبارك". وبيّن من خلالها دعوة الأستاذ محمد المبارك إلى " تآليف جديدة تشتمل على عرض كامل للتصور الإسلامي للوجود وصياغة جديدة للعقيدة الإسلامية من حيث طريقة عرضها وأسلوبها في التعبير لتقف موقف التحدي والغلبة أمام العقائد المستحدثة... وعرض العقيدة على أنها نظرة شاملة مترابطة الأجزاء ترابطا منطقيا وسلك في عرضها أسلوب العصر الحديث من حيث التعبير ومناهج البحث والاستدلال بدلا من أن يسار فيها في أعقاب المتكلمين ووفقا لطرائقهم في البحث التي تأثروا بها بنظريات الفلسفة القديمة ومفاهيمها."

كما ناقشت طالبة رسالة ماجستير في كلية العلوم الإسلامية بالخروبة في جوان 2011 حول منهج الأستاذ المبارك في الدراسات القرآنية. وبمناسبة الملتقى الدولي عن "التكامل المعرفي" الذي انعقد في جامعة تلمسان أيام 14-16 أفريل 2010، قدمت الباحثة الدكتورة حجية شيدخ أستاذة العقيدة ومقارنة الأديان بجامعة باتنة محاضرة عنوانها: " جهود محمد المبارك في إصلاح التعليم الجامعي وفق فلسفة التكامل المعرفي". توقفت الباحثة عند تجاربه في وضع نظام التعليم العالي في كلية الشريعة بجامعة دمشق والأزهر والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وكلية الشريعة بمكة المكرمة وجامعة أم درمان الإسلامية في السودان. وقد أصابت الدكتورة شيدخ حين كتبت أن أفكار الأستاذ محمد المبارك " ليست أفكارا باردة ولدت بين الكتب والأوراق ولكنها أفكار عاش في أجوائها الحية لابست حياته وخامرت عقله وقلبه."

وهكذا، دأب الأستاذ محمد المبارك على التدريس والنشاط الفكري والتأليف في مجالات الأدب واللغة والاجتماع والتربية إلى أن لقي ربه في 6 ديسمبر 1981 في المدينة المنورة. فرحمه الله رحمة واسعة، ونفع الناس بعلمه والاقتداء بسيرته.

*أستاذ التعليم العالي بجامعة الجزائر 2