الشاعر الماجن المشهور ديك الجن

محمد فاروق الإمام

الشاعر الماجن المشهور

ديك الجن

محمد فاروق الإمام

[email protected]

ديك الجنِ اسم عرف به الشاعر السوري عبد السلام بن رغبان، سمي بديك الجن لأن عينيه كانتا خضراوين، وهو مولود عام 161 هـ/778م في مدينة حمص في سورية، وقتل فيها في جمادى الأولى عام 235هـ/ 29 تشرين الأول عام 850م.

ديك الجن الحمصي ، وصل شعره مفرّقاً في كتب الأدب والنقد والتراجم، يدلّ سياقها على أنها منتزعة من القصائد الأمّ ومن ديوان ديك الجن، لتكون شواهد على موضوعات الكتاب التي أوردها. في مدينة حمص على نهر العاصي بسورية، وفي واحد من أحيائها القديمة ( باب الدُريب) ، ولد عبد السلام بن رغبان أو ديك الجن وعاش في هذه المدينة حياته الحافلة التي امتدت قرابة خمسة وسبعين عاماً.

عاش ديك الجن في طفولته حياة عادية، لم يأبه بها أحد، وليس هناك ما يميزه من أترابه، كما أن كتب التراث لا تذكر شيئاً عن طفولته. لقد أصاب هذه الطفولة من النسيان والتجاهل ما يصيب طفولة معظم المبدعين الذين لا يُلتفت إليهم إلا بعد ظهور مواهبهم وتأكُّدها. وما نستطيع الجزم به أن ديك الجن دُفع في طفولته إلى المساجد حيث المعلمون والعلماء، وحيث حلقات الدرس والبحث. ولقد انسحبت هذه الفترة على طفولته ومراهقته وصدر شبابه، لأن آراءه وشعره ينطقان بتحصيل كم وافر من مختلف علوم عصره. ولقد سارت حياة عبد السلام، في مرحلة شبابه، على صورة واحدة لا تتخطاها ولا تحيد عنها، وكانت اللذة المادية في شتى أشكالها وألوانها هي المكوّن الأساسي لهذه الصورة. لقد انكب على اللذات انكباباً مطلقاً فأدمن معاقرة الخمر ومطاردة الفتيات والنساء والغلمان، جرياً وراء اللذة المادية الجسدية، ولم يعرف الحب الإنساني الذي ينهض على أساس من العواطف النبيلة والمشاعر الرقيقة. كان لقاء ديك الجن بورد حادثة معترضة في مسيرة حياته اللاهية العابثة، ولكن هذه الحادثة لم تـنقض بسلام، بل مرت في حياته مرور العاصفة العنيفة التي انقشعت بعد حين مخلّفة وراءها خراباً لا يُعَمَّر، وكسراً لم تجبره يد الأُساة. لقد أحدثت شرخاً عميقاً في قلب ديك الجن، واستمر هذا الشرخ المتفجّع ينـزف مرارة وفجيعة، صابغاً أيامه بلون الدم المُراق، فكان لا يرى إلا الحُمرة، وكان لا يحسّ إلا بالوجع المرّ، ولا ندري كم امتدّت آثار هذه العاصفة في حياة الشاعر، وإلى أيّ مدى بقيت طريّة مُعْوِلَةً في ذاكرته، ولكن من المؤكّد أنه لم ينسها بقية أيامه, وأرجح الظن أن ورداً واحدةٌ من جاراته النصرانيات أحبها ديك الجن، وأحبته، فأسلمت على يديه، وتزوجها. ولا غرابة في ذلك، ومثل هذه الحادثة يقع كثيراً في مجتمعاتنا المتسامحة، ولكن الغرابة تنبع من النهاية المأساوية الفاجعة لهذا الزواج. لقد انتهى بمصرع ( ورد ) بسيف زوجها، العاشق الغيور، فكان هذا الزواج وما رافقه من قصة حب فوّارة بالعواطف الإنسانية، ثم ما استتبعه من قتل مأساويّ، حدثاً فريداً في تاريخنا الأدبي.

عاش ديك الجن في أوساط أسرة متعلمة معروفة، تقلّب بعض رجالها في أعمال الدولة، فكان من الطبيعي أن يُدفع الصبي إلى المسجد، حيث حلقاتُ الدرس ومجالسُ العلماء. وفي المسجد تَلَقَّى علوم عصره، فوعى علوم اللغة والأدب والدين والتاريخ، وحصّل كَمّاً جيّداً من المعارف، كان موضع فخره، فهو يقول :

ماالذّنْبُ إلاّ لجدّي حين وَرَّثني علماً وورَّثَهُ مِن قبلِ ذاكَ أبي

ولقد انصبّ اهتمام ديك الجن على اللغة والأدب والتاريخ، وكان له منها مكوّناتٌ ثقافية ممتازة، ظهرت بوضوح في شعره. فوعيه لعلوم اللغة جعله مالكاً لناصيتها، قادراً على التصرّف بها، واستيعاب مفرداتها، وتوظيف دلالاتها المعنوية لإبراز أفكاره ومعانيه، مع سلامة من اللحن، وقدرة على ترتيب المفردات في أنساق لغوية سليمة، تجري على سنن العرب. كما قرأ ما وصل إلى عصره من آداب العرب السالفين، ووقف طويلاً عند الشعر الجاهلي عامّة، وشعر الصعاليك خاصة. وقد أعجب بالصعاليك وفلسفتهم القائِمة على التمرّد والرفض، بل لقد فاق صعاليك الجاهلية في تمرّده ورفضه، فرأى فيهم أطفالاً رُضّعا إذا ما قيسوا به. فهو القائل يصف نفسه:

وَخَوْضُ ليلٍ تخافُ الجِنُّ لُجَّتَهُ ويَنْطوي جيشُها عن جيشه اللَّجِبِ

وكان على الشاعر أن يكون مثقفاً، مُلِمّاً بفنون عصره وعلومه، ليتمكن من السير في زحمة حركات الإبداع والتجديد، وقد استطاع أن يكون واحداً من شعراء عصره المثقّفين المبدعين والمجدّدين. ولا يخفى على العارفين التطوّرُ الكبير الذي وصل إليه فنّ الموسيقى في زمنه، وما استتبعه من تطور في فنّ الغناء، وانتشار المغنيّن والمغنيّات من كلّ لون وجنس. لقد خطّ هذا الفن لنفسه طرقاً واضحة المعالم، وكان له علماؤه ومجيدوه، وكان لـه عشاقه ومؤيدوه. وديك الجن واحد من عشاق الغناء والموسيقى، فالشعر والموسيقى فنّان متواشجان، وهما جناحا الغناء، وبهما ينهض، كما أنّ موسيقى الشعر عنصر هام من عناصر بنائه الفنيّ. أقبل ديك الجن على الغناء إقبال المشارِك المبدع، فتعلم العزف، وأتقن قواعد الغناء، ولقد غدا ما تعلمّه في هذا الباب، جزءاً من مكوّناته الثقافية والفنية. كان حسن الصوت، مجيداً للضرب ( بالطُّنْبُور ) ، وكان يتغنّى بشعره، لنفسه، أو لندمائه الذين كانوا يتحلّقون حوله في مجالس الشراب، فيلتذّ بشعره وغنائه، ويلتذّ بما يحدثه من إعجاب في نفوس سامعيه).

لم تكن لديك الجن علاقات واسعة برجالات عصره، فهو لم يبرح بلاد الشام قطّ، كما تقول معظم كتب التراث، وأغلب الظنّ أنه قضى معظم أيام حياته في مدينة حمص. وعلى الرغم من أن العراق كان قِبْلَة الشعراء في زمنه، إلاّ أنه لم يزره، ولم يَفِدْ على بلاطات خلفائه أو وزرائه وأمرائه، لأنه لم يكن شاعراً مدّاحاً متكسّباً بشعره) ربما لتوجهه السياسي و مزاجه النفسي و ظروفه. و رغم ذلك كان معروفا بالشعر و مشهورا بالمجون. و من شعره المقتطفات التالية:

بكاكَ أَخٌ لَمْ تَحْـوهِ بِقَرابَةٍ بَلَى إنَّ إِخْوانَ الصَّفَاءِ أَقَارِبُ

وأَظْلَمَتِ الدُّنْيا التي كُـنْتَ جَارَهَا كأنَّكَ للـدُّنْيا أَخٌ ومُنَاسِبُ

يُبَرِّدُ نِـيْرانَ المَصَائِبِ أَنَّني أَرَى زَمَناً لَمْ تَبْقَ فيهِ مَصَائِب

و أيضا:

أَمَالِيْ عَلى الشَّوْقِ اللَّجُوجِ مُعِينُ إذا نَزَحَتْ دَارٌ وَخَفَّ قَطِينُ

إذا ذَكَرُوا عَهْدَ الشَّآمِ اسْتَعَادَنِي إلى مَنْ بِأَكْنَافِ الشَّآمِ حَنِينُ

تَطَــاوَلَ هَذا اللَّيْلُ حَتَّى كأَنَّما على نَجْمِهِ أَلاَّ يَعُودَ يَمـِينُ

وأيضا:

طَلَبُ المَعَاشِ مُفــرِّقٌ بينَ الأَحِبَّةِ والوَطَنْ

ومُصَيِّـرٌ جَلْدَ الرِّجَالِ إلى الضَّراعَةِ والوَهَنْ

حتّى يُقَادَ كَما يُـقاد النِّضْوُ في ثِنْيِ الشَّطَنْ

ثــمَّ المَنِيَّةُ بعــدَهُ فكأنَّهُ مالَمْ يَكُـنْ

إذا شَجَرُ المودَّةِ لَمْ تَجُدْهُ سَماءُ البِرِّ أَسْرَعَ في الجَفَافِ