الشيخ محمد نصيف (1884-1971) وصلته بالجزائر

الشيخ محمد نصيف (1884-1971)

وصلته بالجزائر

أ.د مولود عويمر

لمحات من حياته:

ولد محمد بن حسين بن عمر نصيف، بمدينة جدة في الثامن عشر من شهر رمضان 1302هـ، الموافق لعام 1884، في بيت علم وسيادة، فجده وأبوه كانا من أعيان جدة.

مات والده وهو صغير فتكفل جدّه بتربيته ورعايته وتعليمه، ومن كان أبرز الشيوخ الذين تتلمذ عليهم: الشيخ عبد القادر التلمساني، والشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى، والشيخ أحمد النجار، والشيخ محمد حامد ...الخ.

وكان الشيخ محمد نصيف شغوفا بالقراءة، و مولعًا بجمع الكتب والمخطوطات، وقد نجح في إنشاء مكتبة ثرية صنفت ضمن أشهر المكتبات الخاصة في العالم الإسلامي، حيث تحتوي على آلاف المخطوطات والكتب والمجلات في مختلف العلوم وفنون المعرفة.

وتشكل مخطوطاتها اليوم جناحا كبيرا في مكتبة جامعة الملك عبد العزيز بجدة بعد أن أهدتها لهذه الجامعة أسرة الفقيد رحمه الله.

كما اهتم بنشر كتب التراث الإسلامي في العقيدة والسنة النبوية وتوزيعها مجانا على الباحثين وطلبة العلم والمؤسسات الدينية عبر العالم.

توفي الشيخ محمد نصيف في يوم الخميس السادس من شهر جمادى الآخرة عام  1391هـ/1971 م بمدينة الطائف، ثم نقل جثمانه إلى جدة في موكب مهيب، ودفن في مقبرة الأسد في مدينة جدة، وكان عمره ناهز التسعين عامًا.

في رحاب جمعية العلماء الجزائريين:

وأهدى مجموعة كبيرة من كتب السنة والعقيدة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين وكتابها الباحثين مثل الشيخ مبارك الميلي. قد قال في هذا الشأن الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: "وجمعية العلماء نفسها مَدِينة له، فإن الكتب السلفية لم تصلنا إلا عن يده."[1]

وكان من أهم هذه الكتب المهداة، نذكر: كتاب «فتح المجيد بشرح كتاب التّوحيد» للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتاب «الصّراع بين الإسلام والوثنية» للشّيخ عبد الله القصيمي[2]، الكوثري وتعليقاته.[3]

وكان من قراء الشهاب والبصائر الأوفياء، والمدعمين لهما ماديا ومعنويا. ويسأل عن البصائر كلما تأخرت عنه ويستفسر عن أسباب التأخير أو الغياب.[4] 

وفي ديسمبر 1952، تصدرت صورة الشيخ محمد نصيف الصفحة الأولى من جريدة البصائر، وهو أمر نادر في هذه الجريدة عكس مجلة الشهاب التي نشرت صورا لعدد من علماء المشرق كمحمد عبده ومحمد رشيد رضا، محب الدين الخطيب، ...الخ. ونشر مع الصورة تعليق طويل نوه من خلاله لسان حال جمعية العلماء بالسجل الذهبي للشيخ نصيف في مجال الدعوة ونصرة الدين وخدمة الحركة الإصلاحية المعاصرة. وقد جاء فيه: «فضيلة العالم السّلفيّ الشّيخ محمّد نصيف أحد أعيان علماء الحجاز... وفضيلته شهيرٌ في الأوساط الإسلامية عامّة والإصلاحيّة خاصّة والجزائريّة أخصّ بما أنفقه من وقت ومال في سبيل نشر العقيدة السّلفية النّقيّة من الخرافات والبدع، وبما كان يقدّمه لعلمائنا مسيِّري الحركة الإصلاحية هنا مِن هدايا الكتب الّتي نشرها واشتراها من ماله الخاصّ...» [5]

وتبادل الرسائل مع شيوخ جمعية العلماء، و لا بأس أن ننشر هنا إحدى الرسائل التي بعثها له الشيخ محمد البشير الإبراهيمي من القاهرة، وهي لم تنشر ضمن آثار الشيخ الإبراهيمي: "فضيلة الأخ الشيخ محمد نصيف أبقاه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أنا ذاكر لعهدكم في كل لحظة وشاكر لفضلكم وإن تراخى حبل المكاتبة بيننا وأنا مشتاق إليكم شوقًا ليس له حدّ ولو أنّ صحّتي تساعدني على السفر لما غابت زيارتكم كل هذا الغياب خصوصًا بعد أن أصبح السفر في النّفاثات في العقد كالتي سافرتم فيها سفرتكم الأخيرة من القاهرة إلى جدة، وبهذه المناسبة فأرجوكم أن تكتبوا لنا في وصف تلك الرحلة التي قطعتموها في ثمانين دقيقة وصفًا مفصلاً وعن أثرها في نفوسكم، لتكون لنا زيادة تنشيط على سفرة إليكم فأنا عازم عليها في رجب الآتي إن شاء الله، وأنا مصمم عليها من الآن إن تحسنت صحتي قليلاً أو دامت كما هي. ولدنا الشيخ العباس ما زال بتونس ولم يأتنا منه خبر إلا سلامًا مع المسافرين ونحن متشوقون من جانبه كثيرًا فقد أطال الغيبة في هذه المرة، وأظن أنه لم يكتب حتى لأهله ومكتبه بجدة كما هي عادته في البطء بالكتابة.بلغوا سلامنا إلى الأخ عمر وإلى العائلة كلها، وأخبرنا عن بنت حسين وهل شفاها الله؟ وعن إبراهيم زينل وهل رجع من أوروبا؟ وهل عوفي مرضاه؟ وقد كتبت لهم إلى كاراتشي ولم يرجع لي خبر. وتحياتي إلى الحاج قاسم وإلى الشيخ سعيد وإلى آل زينل وإلى الشيخ حسونة البسطي وإلى الأستاذ عبد القدوس الأنصاري وإلى كل من يغشى ناديكم ومجلسكم الموقر، وإلى الشاعر الشيخ درويش وجميع الأحباب. ودمتم سالمين محفوظين لأخيكم. محمد البشير الإبراهيمي.»[6]

 

استقبال علماء الجزائر في الحجاز

فتح الشيخ محمد نصيف داره ومكتبته العامرة للعلماء وطلبة العلم الذين يزورون الحجاز من كل أصقاع العالم الإسلامي، وكان من هؤلاء كوكبة من العلماء الجزائريين الذين يقصدون مكة والمدينة لأداء مناسك الحج أو مواصلة الدراسة أو الاستقرار في هذه الديار فرارا من بطش الاستعمار الفرنسي. ونذكر هنا اشهر هؤلاء العلماء وهم عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي، والطيب العقبي ومحمد الغسيري والشيخ العباس بن الحسين وسعيد البيباني...الخ.

وفي أكتوبر 1952 استقبل وفد جمعية العلماء الجزائريين برئاسة الشيخ الإبراهيمي وأقام على شرفهم مأدبة عشاء حضرها كوكبة من العلماء والوجهاء. وقد نشرت مجلة المنهل السعودية ملفا خاصا[7] عن هذه الرحلة الحجازية ساهم فيه رئيس تحريرها الأستاذ عبد القدوس الأنصاري[8] والشيخ نصيف[9] الذي وصف الإبراهيمي بزعيم الجزائر، وشيخ علمائها.وقد أعادت البصائر نشر المقالين في عدديها 204 و 209.

وألقى بهذه المناسبة كلمة شكر فيها الشيخ نصيف وعدد أفضاله الكثيرة على الدعوة الإسلامية، وذكر بواجب تقديره والاعتراف بجهوده.

"إذا لم يُنصف الحجاز شيخه ومخلد مجده ورافع رايته أستاذنا الشيخ نصيفا، فإن العالم الإسلامي كله ينصفه، فكلنا أَلْسِنة شاهدة بأنه مجموعة فضائل نعدّ منها ولا نعدّدها، وأنه مجمع يلتقي عنده علماء الإسلام وقادته وزعماؤه، فيردون ظماء، ويصدرون رواء، وإنني أقولها بصيحة صريحة، وأؤدّيها شهادة للحق والتاريخ بأنه محيي السنة في الحجاز من يوم كان علماؤه - ومنهم أشياخنا- متهورين في الضلالة، وأنه صنع للسلفية وإحياء آثارها ما تعجز عنه الجمعيات بل والحكومات، وأنه أنفق عمره وماله في نصرها ونشرها، في هدوء المخلصين وسكون الحكماء، وسيسجل التاريخ العادل آثاره في عقول المسلمين، وسيشكر له الله غزوه للبدع بجيوش السنن المتمثلة في كتبها وعلوم أئمتها....

وسيسجل أنه مفخرة من مفاخر الإسلام، وأنه كفّارة عن تقصير العلماء، وأنه زهرة فوّاحة في أرض الحجاز، وأنه جماله الذي يغطي كل شين.»[10]

في مهب الثورة الجزائرية:

قامت الثورة الجزائرية في عام 1954 لتحرير الإنسان من عبودية الإنسان، وكشفت منذ بدايتها عن توجهاتها العربية الإسلامية وإستراتيجيتها الشاملة لتحقيق أهدافها العادلة. وقد تفاعل معها الرجال الأحرار من كل أنحاء العالم ، وكان منهم الشيخ نصيف الذي ساندها بماله، وناصر المجاهدين وساعد إخوانه اللاجئين.

واعترفت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بجهوده، وهذا ما نلمسه في الرسالة التي بعثها الشيخ العباس بن الحسين رئيس البعثة الجزائرية بالمملكة العربية السعودية، والتي جاء فيها على الخصوص: « فبيد الامتنان والتقدير تلقينا إعانتكم الكريمة لإخوانكم الجزائريين. ونحن إذ نقدر لكم هذه العاطفة الأخوية النبيلة ونكبر فيكم مسارعتكم لنجدة إخوان لكم في الدم والعقيدة رمت بهم يد الكفر والطغيان –بعيدا- عن بلادهم حيث القفر والفقر إلا ما تجود به أيدي المحسنين البررة من أمثالكم.»[11]  

ولم تنس الجزائر المستقلة فضله وكرمه ودعمه للشعب الجزائري في ساعات العسر وسنوات الكفاح الوطني، فقدم له القائم بأعمال السفارة الجزائرية بجدة الشيخ سعيد البيباني دعوة  باسم الدولة الجزائرية[12]  للمشاركة في احتفالات  العيد الوطني الجزائري المصادف للذكرى التاسعة للثورة التحريرية.

فهل حان الوقت – ونحن نحتفل هذا العام بمرور خمسين سنة على استرجاع الاستقلال- لإحياء ذكرى هذا الرجل وغيره من رجال العلم والثقافة والسياسة العرب والمسلمين الذين نصروا بوسائل مختلفة كفاح الجزائريين الوطني في صوره المتعددة؟

               

[1]محمد البشير الإبراهيمي. آثار الإبراهيمي. دار الغرب الإسلامي، بيروت،    ج 4، ص 125.

[2]البصائر، العدد 159، 9 صفر 1358 هـ/ 31 مارس 1939م، ص 2.

[3]البصائر، العدد 143، 17 شوال 1357 هـ/ 9 ديسمبر 1938م، ص 8.

[4]البصائر، العدد 158، 2 صفر 1358 هـ/ 24 مارس 1939م، ص 2.

[5]البصائر، العدد 209، 15 ديسمبر 1952، ص1.

[6]محمد بن أحمد سيد أحمد، عبده بن أحمد العلوي. محمد نصيف حياته وآثاره. المكتب الإسلامي، بيروت، 1994، ص 

[7]المنهل، صفر 1372 هـ/ نوفمبر 1952م.

[8]عبد القدوس الأنصاري. سماحة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في ربوع المملكة السعودية. البصائر، العدد 209، 15 ديسمبر 1952، ص 2و3.

[9]محمد نصيف. الزعيم الجزائري. البصائر، العدد 204، 20 أكتوبر 1952، ص 8.

[10]محمد البشير الإبراهيمي. آثار الإبراهيمي. دار الغرب الإسلامي، بيروت،    ج 4، ص 125.

[11]محمد بن أحمد سيد أحمد، عبده بن أحمد العلوي. محمد نصيف حياته وآثاره. المكتب الإسلامي، بيروت، 1994، ص  272.

[12]محمد بن أحمد سيد أحمد، عبده بن أحمد العلوي. محمد نصيف حياته وآثاره. المكتب الإسلامي، بيروت، 1994، ص 603.