حدث في الحادي والعشرين من جمادى الأولى

حدث في الحادي والعشرين من جمادى الأولى

الأستاذ محمد زاهد أبو غدة

في الحادي والعشرين من جمادى الأولى من سنة 35

 توفي في مصر، عن 65 عاماً، كافور الإخشيدي، أبو المسك كافور بن عبد الله الإخشيدي، الأمير المشهور الذي انتقل من العبودية إلى الملك فأحسن التدبير، وكان حاكم مصر الفعلي مدة تزيد على 23 عاماً.

ولد كافور سنة 292 في الحبشة وأُتي به رقيقاً وهو صغير إلى مصر، فاشتراه بعض أهلها، وحكي أنه كان في ابتداء أمره قبل اتصاله بالإخشيد لحقه جَرَبٌ حتى كان لا يقابل فطرده سيده، وكان يمشي في سوق بني حباسة بالفسطاط، وفيه طباخ يبيع الطبيخ، فطلب كافور منه أن يطعمه، فضربه بالمغرفة على يده، وهي حارة، فسقط مغشياً عليه، فأخذه رجل من المصريين وداواه حتى وجد العافية فأتى إلى سيده فقال سيده للرجل: خذ أجرة ما فعلت. فأبى؛ وقال: أجري على الله. وكان كافور كلما عزَّت نفسه يذكِّرها بضرب الطباخ بالمغرفة، وربما يركب ويأتي الخط وينزل ويسجد شكراً لله تعالى.

ثم اشتراه في سنة 312 أبو بكر محمد بن طُغج الإخشيد بثمانية عشر ديناراً، فنُسب إليه، وكان محمد بن طغج قائداً من قواد الدولة العباسية مقداماً جريئاً تولى مصر بحيلة، وذلك أن التقليد من دار الخلافة ببغداد خرج باسم محمد بن تكين، وكان بن طغج بالساحل فقبض على الرسول الواصل من دار الخلافة وأخذ منه التقليد وكشط تكين وكتب طغج، وأنفذ الأمر إلى مصر، فلم يقبل ذلك وكلاء الدولة وكبارها فهاجم مصر من الشام براً وبحراً وجرت له معهم حروب انتهت بانتصاره واستتباب الأمر له، وأن عيَّنه الخليفة الراضي بالله في سنة 323 والياً على مصر، ثم ضُمت إليه بلاد الشام وجزيرة ابن عمر والحرمين، وكان ملكاً مطاعاً شجاعاً حازماً حسن التدبير مكرماً للجند، بلغت عدّة عساكره بمصر والشام أربعمئة ألف جندي، وترك الإخشيد سبعة بيوت مال، في كل بيت منها ألف ألف دينار من سكة واحدة.

والإخشيد لقب ملوك فرغانة في بلاد ما وراء النهر، وذلك لأن أصل أسرة أبي بكر من ملوك فرغانة، في أوزبكستان، جاءوا إلى بغداد قبل مئة عام في أيام الخليفة المعتصم بن هارون الرشيد، وقد أطلق عليه هذا اللقب الخليفة الراضي بالله في سنة 328 بطلب منه.

وأعتق الإخشيد كافور واعتمد عليه في كثير من المهام ، ففي سنة 330 انتزع سيف الدولة الحمداني مدينة حلب من يد أحمد بن سعيد الكلابّي صاحب الإخشيد، ولما بلغ الإخشيد ذلك أنفذ عسكره مع كافور، فهزمهم سيف الدولة، ودخل حمص فملكها، وسار إلى دمشق ودخلها، فكاتبه الإخشيد، وبذل له الموادعة بعد أن بذل له أن يحمل إليه من المال نظير ما كان يحمل لابن رائق، فلم يجب إلى ذلك، وقال: جوابك إذا دخلت مصر إن شاء الله. ثم جرت بينهما أمور، واتَّفقا على أن يكون لسيف الدولة حمص وحلب وما بينهما، وانسحب من دمشق، وتمتيناً لهذا الاتفاق تزوج سيف الدولة بابنة أخي الإخشيد.

ثم جعل الإخشيدُ كافورَ أتابك ولديه، أي مربيهما، وأوكل إليه مهمة الوصاية علىهما إن تسنما الملك، وفي سنة 331 كان الخليفة العباسي المتقي بالله في بغداد يعاني من تسلط القادة الأتراك في جيشه، فخرج الإخشيد إلى الشام واجتمع بالخليفة المتقي بالله في الرقة، وأظهر له الولاء التام، ودعاه ليسير معه إلى مصر وخوفه من توزون التركي، فلم يقبل منه، فضم إليه الإخشيد عسكراً وقائداً من قواده، ورجع الإخشيد إلى الشام، ثم إلى مصر، وولاه المتقي مصر والشام والحرمين، وعقد لولديه من بعده، أنوجور وعلي، على أن يكفلهما كافور، وبناءً على ذلك قام الإخشيد بأخذ البيعة على الناس لولده أبي القاسم أنوجور، وكتب الإخشيد بأخبار هذه السفرة إلى كافور في مصر، ومما يدل على متانة العلاقة بين الإخشيد وكافور أنه تباسط مع معتوقه وأظهر له سروره بأن الخليفة كنّاه، والخليفة عادة لا يكني أحداً، فقد كتب الإخشيد: ومما يجب أن تقف عليه، أطال الله بقاءك، أني لقيت أمير المؤمنين بشاطىء الفرات، فأكرمني وحَبَاني، وقال: كيف أنت يا أبا بكر أعزك الله.

وتوفي الإخشيد في دمشق، عن 66 عاماً، في آخر سنة 334، فقام كافور في دمشق بضبط الأمور وترتيب الولاية لابنه الأكبر أبي القاسم أنوجور، ومعناه بالعربي محمود، وكانت سنه 12 عاماً، وقام الوزير الكبير القدير أبو بكر محمد بن علي المادرائيّ، الذي كان مَلِكاً في صورة وزير، بترتيب الأمور في مصر، ثم جاءت الولاية لأنوجور من الخليفة العباسي الراضي بالله في بغداد، وطمع سيف الدولة الحمداني في مُلك الشام لما توفي الإخشيد، فسار إلى دمشق وملكها، ثم سار إلى فلسطين حتى وصل إلى الرملة وخرج كافور بعسكر من مصر إلى الشام رئيسه أبو المظفر بن طُغج، أخو الإخشيد، وفيه أنوجور ابنه، فالتقوا في الرملة وكانت الهزيمة على سيف الدولة، وتبعوه إلى حلب، فخافهم سيف الدولة فعبر إلى الجزيرة، وأقام أنوجور على حلب، ثم استقر الصلح بينهما، وعاد أنوجور إلى مصر وعاد سيف الدولة إلى حلب، وأقام كافور بدمشق يسيراً ثم عاد إلى مصر.

وكان كافور يدير الدولة وهو في دمشق، وقام في سنة 335 بعزل أبي نصر غلبون بن سعيد المغربي، وكان يتولى عمل أسيوط وأخميم من صعيد مصر، فامتنع وطمع لخلو البلاد من الأستاذ كافور، واستطاع هزيمة القوات التي أرسلت مرة تلو الأخرى لقمعه، واقترب من العاصمة مصر، وانضم إليه الوزير الكبير أبو بكر محمد بن علي المادرائيّ، فرحل عنها أبو القاسم أنوجور وأخوه وأهلهما، وأخليت دار الإمارة، فدخل غلبون مصر وسير عسكراً وراء أبي القاسم ليمسكه.

وبلغت أخبار التمرد إلى كافور في الشام فأرسل جماعة من الأمراء في قوة عسكرية فالتقت مع أبي القاسم في الطريق، فعاد أبو القاسم إلى مصر بالعسكر فوجدوا غلبون قد تفرق عنه أصحابه في البلد، فحاربهم في نفر يسير، فانهزم، واعتقلوا الوزير المادرائي ودخلوا دار الإمارة، وعادت الدولة إلى الإخشيدين.

وقدم كافور من الشام في سنة 336 فأطلق سراح الوزير المادرائي الذي اعتزل الأعمال وبقي معززاً مكرماً إلى حين وفاته سنة 345، واستوزر كافور أبا الفضل جعفر بن الفرات المعروف بابن حنزابة، ولم تكن هذه آخر الاضطرابات ففي سنة 348 خرج شبيب العقيلي والي الرملة والساحل، وسار إلى دمشق واستولى عليها، ولما دخلها من باب الجابية وقع عن فرسه ميتاً، واختلف في موته، فقيل إن امرأة أرخت عليه حجر طاحون، وقيل بل مات حتف أنفه، واتصل الخبر بالأستاذ كافور فسكن بعد قلق عظيم.

وعظم أمر كافور وخاطبه القُوّاد بالأستاذ، وصاروا يجتمعون عنده في دار فيخلع عليهم ويحملهم ويعطيهم، وانبسطت يده في الدولة، فعزل وولى وأعطى وحرم، وصار يجلس للمظالم في كل سبت، ويحضر مجلسه القضاة والوزراء والشهود ووجوه البلد، ووقعت بينه وبين الأمير أونوجور في سنة 343 وحشة، وسببها أن سعاة كلموا أنوجور وقالوا له: قد احتوى كافور على الأموال وانفرد بتدبير الجيوش وأخذ أملاك أبيك وأنت معه مقهور. وحملوه على التنكر له، فلزم أنوجور الصيد والتباعد فيه إلى المحلة وغيرها، وانهمك في اللهو، ثم قرر المسير إلى الرملة، وكانت والدته عاقلة أدركت عواقب فعل ابنها، فأعلمت كافورا بما عزم عليه ولدها خوفا عليه، فلما علم كافور بذلك راسله، ثم بعثت أمه إليه تخوفه الفتنة فاصطلحا قبل أن تتفاقم الأمور، فخلا الجو لكافور دون منافس، وفي ذلك قال أبو الطيب المتنبي يمدح حلمه وأناته وبعده عن سفك الدماء:

حسم الصلحُ ما اشتهته الأعادي ... وأذاعته ألسن الحسادِ

وأرادته أنفس حال تدبيرُك ما بينها وبين المرادِ

إنما تنجح المقالة في المرء إذا وافقت هوى في الفؤادِ

ولعمري لقد هُزِزتَ بما قيل فأُلفيتَ أوثق الأطوادِ

نلت ما لا ينال بالبيض والسمرِ وصنت الأرواح في الأجسادِ

ما دروا إذ رأوا فؤادك فيهم ... ساكنا أن رأيه في الطرادِ

ففدى رأيك الذي لم تفده ... كل رأيٍ معلمٍ مستفادِ

وإذا الحلم لم يكن في طباعٍ ... لم يحلم تقدمُ الميلادِ

فبهذا ومثله سدت يا كافور واقتدت كل صعبِ القيادِ

وقام كافور بتدبير دولة أبي القاسم أنوجور أحسن قيام، وكان كافور هو الحاكم في دولته، وليس لأبي القاسم إلا مجرد الاسم، وتوفي أنوجور في أواخر سنة 349 وهو في السابعة والعشرين، فسرت الشائعات أن كافور دسَّ له السُّم فقتله.

وأقام كافور في الملك بعده، أخاه أبا الحسين عليّا، وجرى كافور معه على قاعدته مع أخيه، واستبدّ بالأمر دونه، وأطلق له في كل سنة أربعمئة ألف دينار، واستقل بسائر أحوال مصر والشام، ففسد ما بينه وبين الأمير أبي الحسن عليّ، فضيّق عليه كافور ومنع أن يدخل عليه أحد، ومنعه من الظهور إلى الناس إلا معه، ثم توفي علي أوّل سنة 355 وله 31 سنة، وخلف ولداً واحداً هو أبو الفوارس أحمد.

وكانت الشيعة بمصر يخرجون في يوم عاشوراء، وحدثت في سنة 350 في يوم عاشوراء منازعة بين الجند وبين جماعة من الشيعة عند قبر كلثوم العلوية بسبب ذكر السلف والنوح، قتل فيها جماعة من الفريقين، قام على إثرها كافور بمنع الشيعة من ذلك ووكل بالصحراء من يردهم عن التجمع فيها، وفي سنة 356 قام بعض الناس فكتب على المساجد ذُكِرُ الصحابة وأفضيلتهم على ما يراه أهل السنة، فأمر الأستاذ كافور الإخشيديّ بإزالته، فراجعه جماعة في إعادة ذكر الصحابة على المساجد فقال: ما كان أُحدِث في أيام غيري فلا أزيله، وما كتب في أيامي أزيله، ثم أمر من طاف وأزاله من المساجد كلها.

وكان من المتوقع أن يعين كافور ابن المتوفى ولكنه لم يفعل، وأبرز تقليداً بالسلطنة من الخليفة العباسي المطيع لله في بغداد، ولم يغير لقبه بالأستاذ، واستوزر أبا الفضل جعفر بن حنزابة، وصارت الخطبة له بعد الخليفة وأسقط منها الإخشيدين، وكعادة الملوك صارت الطبول تضرب على بابه خمس مرّات في اليوم والليلة، وعدّتها مائة طبلة من نحاس.

ولم تطل أيام كافور في انفراده بالولاية، فقد توفي بعد سنتين وأربعة أشهر، ولكن مدّة تدبيره أمر مصر والشام والحرمين كانت 21 سنة، ودفن في القرافة الصغرى وكتب على قبره:

ما بالُ قبرك يا كافورُ منفرداً... بصائحِ الموتِ بعدَ العسكرِ اللجبِ

يداسُ قبرُكَ من أدنى الرجال وقد... كانت أسُود الشرى تخشاك في الكثبِ

وكتب على القبر من الطرف الآخر:

انظر إلى غِيَرِ الأيام ما صنعت... أفنت أُناساً بها كانوا وما فنيتْ

دنياهم ضحكت أيامَ دولتهم... حتى إذا فنيتْ ناحت لهم وبكتْ

ذكرنا أن كافور قد استوزر أبا الفضل ابن الفرات، جعفر بن الفضل بن جعفر، المعروف بابن حنزابة وهي أمه، كانت جارية، وكان وزيراً فاضلاً بارعاً كاملاً، قام بالوزارة في أيام أنوجور ثم أخيه أبي الحسن علي، ثم كافور إلى أن انقضت الدولة الإخشيدية، وتوفي سنة 391 عن 83 عاماً، وكان يحب العلم والعلماء وهو معدود في المحدثين، وإليه رحل أبو الحسن الدارَقطني لما سمع أنه يريد أن يصنف مسنداً، فأقام عنده مدة في مصر وساعده في تصنيف المسند وروى عنه الدارقطني أحاديث.

وممن استوزره كافور أبا الفرج يعقوب بن كِلِّس، وكان يهودياً من أهل بغداد، ثم جاء إلى الشام ثم مصر، وكان صائناً لنفسه محافظاً على دينه، جميل المعاملة مع التجار فيما تولاه، فرأى كافور من نجابته وشهامته وصيانته ونزاهته وحسن إدراكه ما أعجبه، فاستحضره وأجلسه في ديوانه الخاص، وكان يقف بين يديه ويخدم ويستوفي الأعمال والحسابات، وعَلِمَ أحوالَ ديار مصر ومستخرجاتها الضريبية، وقال كافور عنه: لو كان هذا مسلماً لصلح أن يكون وزيراً. فبلغه ذلك، فأسلم على يد كافور في سنة 356، ولزم الصلاة ودراسة القرآن الكريم، ورتب لنفسه رجلاً من أهل العلم شيخاً عارفاً بالقرآن المجيد والنحو حافظاً لكتاب السيرافي، فكان يبيت عنده ويصلي به ويقرأ عليه، وجعله كافور بمثابة وزير المالية له، وكان أبو الفضل جعفر بن الفرات وزير كافور يحسده ويعاديه، فلما مات كافور قبض ابن الفرات على جميع الكتاب وأصحاب الدواوين، وقبض على يعقوب بن كلّس في جملتهم، فلم يزل يتوصل ويبذل الأموال حتى أفرج عنه، فلما خرج من الاعتقال اقترض من أخيه ومن غيره مالاً وتجمل به وسار مستخفياً قاصداً بلاد المغرب والتحق بالعبيديين الفاطميين، وصار وزيراً في دولتهم إلى أن توفى سنة 380، عن 62 عاماً، ولما مرض ركب العزيز إليه، وعاده، وقال له: وددت أنك تباع فأبتاعك بمالي وولدي.

قال ابن خلكان في وفيات الأعيان في ترجمته ليعقوب بن كلس: وقيل إنه مات على دينه وكان يظهر الإسلام، والصحيح أنه أسلم وحسن إسلامه، وقال يوماً - وقد ذُكر اليهود في مجلسه - كلاماً يسوء اليهود سماعه، ثم بيَّن عوراتهم وفساد مذهبهم، وأنهم على غير شيء، وأن اسم النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة وهم يجحدونه.

وكان من كتاب كافور الإخشيدي أبو إسحاق النجيرمي، إبراهيم بن عبد الله بن محمد النجيرمي، المتوفى نحو سنة 355، وهو أديب من الكتاب، كان من أصحاب الزَّجاج النحوي المتوفى سنة 311 ببغداد، وانتقل إلى مصر، فولي الكتابة لكافور الاخشيدي. وكان كافور يدني الشعراء ويجيزهم، وكانت تقرأ عنده في كل ليلة السير وأخبار الدولتين الأموية والعباسية.

وكان لكافور من الغلمان الأتراك ألف وسبعون غلاماً يغلق عليهم باب داره، وتمام الألف غلام رومي، وسوى المولدين والسودان، يكون عدة غلمانه أربعة آلاف غلام. وكان راتبه في مطبخه في كل يوم 1

00 رطل لحماً سوى الدجاج والفراريج، والخراف المشوية والحلوى وغير ذلك، وكانت الجراية التي يطلقها 13000 وجبة في كل يوم، وكانت له خزانة شراب يفرق منها في كل يوم خمسون قربة من سائر الأشربة في الحاشية، ولما مات كافور خلف في خزائنه من العين سبعمئة ألف دينار، ومن الورِق والحلي والجوهر والعنبر والطيب والثياب والآلات والفرش والخيام والعبيد والجواري والدواب ما قُوّم بستمائة ألف ألف دينار.

وهذه الأموال لا تستغرب فقد كانت مصر أغنى دول الخلافة العباسية، قال المقريزي في المواعظ والاعتبار: وبلغ خراج مصر في أيام الأمير أبي بكر محمد بن طغج الإخشيد ألفي ألف دينار سوى ضياعه التي كانت ملكاً له، والإخشيد أوّل من عمر الرواتب بمصر، وبلغت الرواتب في أيام كافور خمسمئة ألف دينار في السنة لأرباب النعم والمستورين وأجناس الناس ليس فيهم أحد من الجيش، ولا من الحاشية، ولا من المتصرّفين في الأعمال.

وترك كافور آثاراً عمرانية منها مستشفى عرف بمارستان كافور، بناه في سنة 346، وبنى كافور مسجد الفقاعيّ، وهو مسجد كبير كان في وسطه محراب مبني بطوب يقال أنه من بناء حاطب بن أبي بلتعة رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس، ويُقال أنه أول محراب اختط في مصر، ومنها خليج الجيزة، وذلك أنه في سنة 336 جف النيل عن بر مصر حتى احتاج الناس أن يستقوا من بحر الجيزة الذي هو فيما بين جزيرة الروضة وبين الجيزة، وصار الناس يمشون هم والدواب إلى الجزيرة، فحفر كافور الإخشيدي خليجاً حتى دخل الماء إلى ساحل مصر، ومنها المسجد الجامع بالجيزة، وكان قد هدمه النيل وسقط في سنة 340، فأمر الأمير علي بن الإخشيد بإعادة بنائه في سنة 350 وبإشراف كافور الذي رتب له الأوقاف كذلك، ومنها دارٌ على بركة قارون أنفق عليها مئة ألف دينار، وسكنها في سنة 346، وانتقل منها بعد أيام لوباء وقع في غلمانه من بخار البركة، ومنها البستان الكافوري المطل على خليج النيل، وهو موجود من أيام الإخشيد، وكان كافور كثيراً ما يتنزه به، ويواصل الركوب إلى الميدان الذي كان فيه وكانت خيوله بهذا الميدان.

كان كافور كثير الإحسان وكان يرسل إلى الحرمين في كل سنة مع الحاج مالاً وكسوة وطعاماً، ويبعث معهم صندوقين من كسوة بدنه تفرق على الأشراف، وكان يحب العلماء والفقهاء ويكرمهم، ويتعاهدهم بالنفقات، وله في ذلك قصص يضيق بها المقام، وله ألف الكندي كتاب فضائل مصر وهو من أوائل المصنفات العربية في وصف مصر، وكان يكثر الصدقات حتى استغنى الناس في أيامه، ولم يجد أرباب الأموال من يقبل منهم الزكاة فرفعوا أمر ذلك إليه فأمرهم أن يبتنوا بها المساجد ويتخذوا لها الأوقاف ففعلوا، ومن الصالحين في أيامه أبو بكر محمد بن أحمد بن سهل الرملي النابلسي، وكان عابدا صالحا زاهدا قوالا بالحق، قال: لو كان معي عشرة أسهم، رميت الروم بسهم ورميت بني عبيد بتسعة، فبلغت المقولة المعز الفاطمي فقتله في سنة 363، أرسل كافور الإخشيدي إليه بمال، فرده وقال: قال الله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فالاستعانة بالله تكفي! فرد كافور الرسول بالمال إليه، وقال: قل له: قال الله تعالى: ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾، فأين ذكر كافور هنا؟! فقال أبو بكر: صدق، المُلك والمال لله، كافور صوفي لا أنا! ثم قبل المال.

وكان كافور على ما بلغه من السلطان والقوة صالحاً متواضعاً، وكان الشريف عبد الله بن أحمد الحسيني، المولود سنة 286 والمتوفى سنة 348، رجلاً طاهراً كريماً فاضلاً صاحب رباع وضياع ونعمة ظاهرة وعبيد وحاشية، كثير التنعم، كان بدهليزه رجل يكسر اللوز كل يوم من أول النهار إلى آخره برسم الحلوى التي ينفذها لأهل مصر من الأستاذ كافور الإخشيدي إلى من دونه، وكان يرسل إلى كافور في كل يوم جامين حلوى، ورغيفاً في منديل مختوم، فقال بعض الحساد لكافور: الحلوى حسن، فما لهذا الرغيف؟ فأرسل إليه وقال: يجريني الشريف في الحلوى على العادة، ويعفيني من الرغيف، فركب الشريف إليه وقال: أيدك الله، أنا ما أنفذ الرغيف تطاولاً ولا تعاظماً، وإنما هي صبية حسنية تعجنه بيدها وتخبزه، فأرسله على سبيل التبرك، فإذا كرهته قطعناه، فقال: لا والله، ولا يكون قوتي سواه.

وقيل أنه ركب يوماً في موكبه والشريف أبو جعفر نقيب الطالبين يسايره، فوقعت مقرعته، فنزل الشريف فناوله إياها، فتذمم كافور من ذلك وتأوه وبلغ منه مبلغاً عظيماً، فلما نزل داره أرسل إلى الشريف جميع ما كان يملكه في موكبه من مماليك ودواب وآلة واعتذر منه، قال التنوخي في نشوار المحاضرة: وكان قيمة ما سيره إليه 15000 دينار.

أما قصة كافور مع أبي الطيب المتنبي فهي قصة تدل على استجداء المتنبي وفطنة كافور، وتدل كذلك على جناية الشعراء - مثلهم مثل وسائل الإعلام في عصرنا الراهن - على كثير من الشخصيات التي تناولوها بما لا تستحق من هجر القول والهجاء، لأنها لم تحقق لهم ما يطمعون فيه من المال أو الأغراض، وفي سنة 346 فارق أبو الطيب المتنبي سيف الدولة الحمداني في حلب مغاضباً له، وقصد كافور في مصر فأكرمه وخلع عليه، وأنزله بداره، وحمل إليه ألوفاً من المال، فقال أبو الطيب قصيدته التي أولها:

فراق ومن فارقت غير مذمم ... وأَمٌّ ومن يممت خير ميمَّم

ويقال إن أول قصيدة مدحه بها هي القصيدة التي مطلعها:

كفى بك داء أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا أن تكون أمانيا

تمنيتها لما تمنيت أن أرى ... صديقاً فأعيا، أو عدواً مداجيا

وجاء منها في مدح كافور:

قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقل السواقيا

فجاءت بنا إنسانَ عين زمانه ... وخلت بياضا خلفها ومآقيا

ثم أنشده في شوال سنة 34

 قصيدته البائية التي يقول فيها:

وأخلاق كافور إذا شئت مدحه ... وإن لم أشأ تملي عليَّ فأكتب

إذا ترك الإنسان أهلا وراءه ... ويمم كافورا فما يتغرب

ومنها:

يضاحك في ذا العيد كل حبيبه ... حذائي وأبكي من أحب وأندب

أحن إلى أهلي وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب

فإن لم يكن إلا أبو المسك أو هم ... فإنك أحلى في فؤادي وأعذب

وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب

وحكي عن المتنبي أنه قال: كنت إذا دخلت على كافور أنشده يضحك إلي ويبش في وجهي، إلى أن أنشدته:

ولما صار ود الناس خبا ... جزيت على ابتسام بابتسام

وصرت أشك فيمن أصطفيه ... لعلمي أنه بعض الأنام

قال: فما ضحك بعدها في وجهي إلى أن تفرقنا، فعجبت من فطنته وذكائه .

وكانت آخر قصيدة أنشدها المتنبي بحضرة كافور في شوال سنة 349، ولم يلقه بعدها، قصيدته البائية وشابها بطرف من العتب، ومنها:

أرى لي بقربي منك عينا قريرة ... وإن كان قربا بالبعاد يشاب

وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أملت منك حجاب

وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب

وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوى يبغي عليه ثواب

وما شئت إلا أن أدل عواذلي ... على أن رأيي في هواك صواب

وإن مديح الناس حق وباطل ... ومدحك حق ليس فيه كذاب

إذا نلت منك الود فالمال هين ... وكل الذي فوق التراب تراب

وما كنت لولا أنت إلا مهاجرا ... له كل يوم بلدة وصحاب

ولكنك الدنيا إلي حبيبة ... فما عنك لي إلا إليك ذهاب

وأقام المتنبي بعد إنشاده هذه القصيدة بمصر سنة لا يلقى كافورا غضبا عليه لكنه يركب في خدمته خوفا منه ولا يجتمع به، واستعد للرحيل في الباطن، وجهز جميع ما يحتاج إليه، ثم قال في يوم عرفة سنة 350 قبل مفارقته مصر بيوم واحد قصيدته الدالية التي هجا كافورا فيها، وفي آخر هذه القصيدة:

من علم الأسود المخصي مكرمة ... أقومه البيض أم آباؤه الصيد

أم أذنه في يد النحاس دامية ... أم قدره وهو بالفلسين مردود

وذاك أن الفحول البيض عاجزة ... عن الجميل فكيف الخصية السود

ورغم هذا الهجاء المقذع في هذه القصيدة وغيرها، فإن محمود سامي البارودي رحمه الله يقول:

لولا أبو الطيب المأثور منطقه ... ما سار في الدهر يوماً ذكر كافور

ولما توفي كافور سنة 35

 اجتمع القواد والغلمان الإخشيدية وتحالفوا ألا يختلفوا، وعقدوا الرئاسة لأبي الفوارس أحمد بن علي بن الإخشيد محمد بن طُغج، وهو ابن 11 سنة، وجعلوا الوصي عليه ابن عم أبيه الحسن بن عبيد الله بن طغج، وجعلوا تدبير العساكر إلى شَمول الإخشيدي، وتدبير الأموال إلى الوزير جعفر بن حنزابة؛ وذلك كله قبل دفن كافور.

وأقام الأمر على ذلك قرابة 4 أشهر، واشترك معه ابن عم أبيه الحسن بن عبيد الله بن طغج، وكان يخطب لهما جميعاً بمصر والشام والحرمين، يبدأ في الخطبة بأبي الفوارس ويثنى بأبي محمد الحسن، ثم ظهر القرامطة بالشام فسار الحسن لقتالهم، وأساء الوزير التصرف فصادر جماعة من المصريين، وقبض على يعقوب بن كلس وصادره، وقبض على إبراهيم بن مروان النصراني، كاتب أنوجور وعلي ابنيِّ الإخشيد، وصادره كذلك، وكان العسكر فئتين ما بين المنتمين إلى الإخشيد وبين المنتمين إلى كافور، ولم يقدر الوزير على رضا الإخشيدية والكافورية لتباين أغراضهم، فاضطرب التدبير عليه، واستتر مرتين، ونهبت داره ودور أصحابه، وجاءت هذه التصرفات عقب سنتين شحت فيهما زيادة النيل، فصار بمصر غلاء شديد، واجتمع إليه وباء انتشر بين الناس وتسبب في موت أعداد هائلة منهم، حيث نقل بعض المؤرخين أن عدد من كُفِنَ ودفن خارجاً، عدا من رمي في البحر، ستمئة ألف إنسان.

واضطربت أحوال مصر، وتوقفت معايش الناس، وطرق الروم دمياط في بعض وعشرين مركباً فقتلوا وأسروا 150 من المسلمين، فكتب جماعة من وجوه البلد إلى المعز الفاطمي العبيدي في ليبيا يطلبون منه إنفاذ عسكره وإعادة الاستقرار، فانتهزها فرصة سانحة وبدأ في إعداد جيش من قبائل البربر يتوجه إلى مصر.

وعاد الحسن بن عبيد الله إلى مصر من الشام منهزماً من القرامطة، وقبض على جعفر بن الفرات الوزير، واستوزر الحسن بن جابر الرياحي، ثم أطلق الوزير بن الفرات، وفوض إليه الوزارة، وبلغته أخبار المعز ونيته في التوجه إلى مصر، فغادر إلى الشام ومعه جماعة من الأولياء والكتاب والأشراف إلى الشام، وآلت الأمور إلى أن استولى المعز على مصر وأسس فيها الدولة الفاطمية، ومدة الدولة الإخشيدية أربعاً وثلاثين سنة وعشرة أشهر، وأربعة وعشرين يوماً.

وقد تدرك بعض الناس لوثة جاهلية فيعيب أن يتولى مصر مثل كافور في سواد لونه وعبوديته، وعلى مثل هؤلاء ردَّ الأستاذ الباحث المدقق أحمد رمزي بك، المتوفى سنة 1949، وكان من سفراء مصر، في مقالة له عن كافور بمجلة الرسالة نشرت في سنة 1946، فقال رحمه الله: إن أبا المسك الأستاذ كافور كان أميراً من أكبر الأمراء، وعاهلاً من أعظم ملوك المسلمين بمصر، ويزيد بلادنا فخراً أن تولاها مثله، كما لا ينقص من قدره سواد لونه، بل في ذلك دليل على علو همته، وأن لونه لم يقعد به عن بلوغ أعلى المراتب، ودليل على أننا لا نفرق بين الأبيض والأسود، لأننا جميعاً سواء. وإذا أخذ عليك ولاية كافور علينا، فقل إن ملكه شمل مصر والشام، وإنه كان يخطب له على المنابر بمكة والمدينة والحجاز جميعه ودمشق وحلب وإنطاكية والثغور وفيها طرسوس والمصيصة وغيرها من الأقاليم التي خضعت لسطوته ودامت لسلطانه.

فهو أول من تمت الوحدة على يديه. وهو حامل لواء الإسلام والعروبة في أراضي السودان، ولو شئت أن تعلم عن كافور وأيام كافور وأياديه البيضاء وأنفاسه الطاهرة ومجده وسلطانه وحسن بلائه، فعليك بكتب التأريخ تنبئك عن عقل ودراية وحكمة وسياسة وحسن تصريف للأمور وفهم للناس وطباعهم، وهذه أشياء شهد له بها المعاصرون ووفوه حقه فيها.

أما نحن فنرى فيه رجلاً عظيماً من عظماء القرن الرابع الهجري، خدم بإخلاص مولاه الإخشيد، وصان استقلال مصر لسنوات، وواجهته المصاعب والمشاكل والحروب فتغلب عليها وخرج من مآزقها، وهو بطل من أبطال تأريخ مصر العربية، ولذلك تجدني من أنصار كافور ومن المعجبين به ومن الداعين لحفظ ذكراه، ولو لي كان من الأمر شيء، لبحثت عن قبره، وأقمت قبة عليه، ثم لطلبت من أولي الأمر في مصر والسودان أن يطلق أسمه على ميدان أو شارع بالقاهرة وأم درمان والخرطوم، صيانة لذكره وإقراراً لفضله، وتوكيداً لصلات مصر والسودان.